قراءة في تقرير جولدستون -هذه مجرد البداية

بقلم: أكرم عطالله العيسة*

لا شك أن هنالك الكثير من التقارير التي صدرت عن العديد من اللجان الدولية والتي حملت الإدانة لإسرائيل والكثير من الاعتداءات التي نفذتها على المحيط العربي، وان هنالك الكثير من اللجان التي شكلت من اجل التحقيق في العديد من الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب العربي بشكل عام، وبحق الشعب الفلسطيني بشكل خاص. لن يكون من السهل علينا إجراء حالة المقارنة المستفيضة ما بين أكوام التقارير السابقة وبين تقرير جولدستون، لان ذلك بحاجة إلى بحث مستفيض وموسع لا يمكن لهذه المقالة ان تحتمله، خاصة أن التقرير نفسه واسع ومتشعب ويخوض في الكثير من التفاصيل الدقيقة التي امتدت على أكثر من 500 صفحة، تطرقت وبالكثير من الشرح، ليس فقط إلى الاعتداء والتدمير الذي مورس على قطاع غزة، بل تطرقت أيضا للحياة الفلسطينية تحت الاحتلال في الضفة الغربية والقدس، وحالة الإذلال التي تمارس من قبل جنود الاحتلال اتجاه الفلسطينيين، وكذلك الاعتقال السياسي، إضافة إلى أعمال العنف التي يمارسها المستوطنون الإسرائيليون. وهذا ما ميز التقرير، فهو ليس إدانة إلى جهة مارست الحرب والانتهاكات والقتل فقط، إنما هو إدانة لدولة الاحتلال بكل ممارستها بحق الشعب الفلسطيني، مع اعتبار الحرب على غزة (نهاية 2008-بداية 2009) محوره وقضيته ألأساسية.

بالمقابل، فان التقرير طالب وبوضوح بمحاسبة المسؤولين عن كل ذلك، حيث ورد في الملخص الذي وزع لوسائل الأعلام عن التقرير من قبل الأمم المتحدة:
إن حالة الإفلات من العقاب لفترات طويلة قد تسببت في أزمة عدالة في الأرض الفلسطينية المحتلة، وهذا أمر أضحى الرد عليه حريا بالفعل، إن نظام دولة إسرائيل فيما يتعلق بالتحقيق والملاحقة القضائية لانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني، و لا سيما ملاحقة المشتبه بهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، هو نظام ذو عيوب هيكلية رئيسية"؛ النظام الإسرائيلي" لا يتفق مع المعايير الدولية.

ان ما يمكن أن يقال هنا أن هذا التقرير هو أكثر العلامات الفارقة في كيفية تعاطي مؤسسات العمل الحقوقي الدولية مع الجرائم الإسرائيلية المستمرة على الشعب الفلسطيني، والتي كان من أبرزها مؤخرا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وكما هو واضح أعلاه، فان التقرير يشير إلى أفعال الاعتداء السابقة على الشعب الفلسطيني، وهو بطريقة أو بأخرى يعتبرها فعلا مستمرا، هذا من ناحية، وان هنالك العديد من الدلالات التي تضفي على التقرير هيبة وتميزا، وربما بداية جديدة، مقارنة بالكثير من التقارير التي صدرت من قبل مؤسسات حقوقية دولية أخرى، هذا من ناحية أخرى.

أولا: على الصعيد الإسرائيلي
في الأيام الأولى التي تبعت صدور التقرير (17 أيلول 2009)، كتب رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق غيورا ايلاند في صحيفة يديعوت احرنوت مقالا بعنوان: " كان يجب منع تشكيل اللجنة منذ البداية"، إذ قال في مقالته أن إسرائيل استطاعت منع تشكيل لجنة بنفس المضمون بعد عمليتها (الرصاص المصهور)، والتي كان اكبر ضحاياها مخيم جنين. ويقول غيورا: " فاجأنا تقرير غولدستون بقوة انتقاده، وليس بوجوده". إن مثل هذا الوصف ومن قبل رئيس مجلس الأمن الإسرائيلي السابق، يعكس مدى الجدية الذي يحملها التقرير، وأن ذلك قد يمثل بداية حقيقية للتعاطي مع الجرائم الإسرائيلية. أما مستشار شارون السابق دوف فايسغلاس، والذي كتب في صحيفة يديعوت احرنوت بتاريخ 20 اكتوبر 2009 مقالا بعنوان: " تقرير غولد ستون... هذه مجرد الأعراض"، فهو بطريقة أو بأخرى بدأ بتشخيص المخاوف والأخطار ويقول: " التطورات القانونية والسياسية المتوقعة من تقرير غولدستون تثير هما غير قليل، ولكن أساس القلق هو في الظاهرة، الإجماع شبه العام على هذه الوثيقة، التي أحادية الجانب فيها بارزة، ورميها بوجه إسرائيل، والتأييد الذي حصل عليه التقرير يعطي مؤشرا على أن صبر العالم على إسرائيل اخذ بالتضاؤل".


خلال الأشهر الثلاث الأولى على صدور تقرير غولدستون، لم تكد تخلو أية صحيفة إسرائيلية، وبشكل يومي من مقالة لشخصية إسرائيلية بارزة، أو احد صحفيي الأعمدة إلا وكتبت وحللت هذا التقرير وتبعاته، بحيث بدأ الحديث ينتقل إلى مرحلة التوقعات التي من الممكن أن تنتج عن هذا التقرير. كتب الصحافي الإسرائيلي الداد يانيف في صحيفة هارتس بتاريخ 16 أكتوبر 2009 مقارنا ما بين كيفية تعاطي الجنوب إفريقيين البيض مع احد تقارير غولدستون:
في بداية التسعينات، عندما ترأس القاضي ريتشارد غولدستون لجنة التحقيق لفحص العنف المتعاظم في جنوب إفريقيا نال منه ( الأفريكانيز) التوصيفات نفسها التي توجهها له إسرائيل في الأسابيع الأخيرة (بعد صدور التقرير)، غير أن هذا "اليهودي" لم يكن في حينه المشكلة، وهو ليس كذلك اليوم أيضا، والإعلام ليس هو الحل، تناولوا مرآه: هذا ليس غولدستون، بل نحن، المشكلة والحل".

وهذا ما ينطبق تماما مع عنوان مقالة للصحافي الإسرائيلي المعروف جدعون ليفي "الصورة في مرآة غولدستون هي صورتنا" هارتس 1 اكتوبر 2009. أما القادة الإسرائيليون فما زالوا حتى اللحظة غير قادرين عن الخروج من دائرة شكل الهجوم التقليدي في وصف أي منتقد لإسرائيل بأنه لا سامي، حتى أن يهودية غولدستون، وابنته نيكول التي تعيش في إسرائيل، والتي قالت والدي يحب إسرائيل، وحاول تخفيف التهم، لم تسعفه في تجنب هذا الوصف، لكن الأمر المضحك والمثير للسخرية هو ما قاله ليبرمان وزير خارجية إسرائيل بان التقرير يؤثر سلبا على عملية السلام! و كأن هناك عملية سلام؛ إلا في أذهان البعض من الذين يعلقون عليها وهمهم وعجزهم.
 

ثانيا: المستوى الدولي
يقول الخبير الكندي في القانون الدولي "مارك تايلور: " إن تقرير غولدستون ذو أهمية خاصة، لأنه اشتمل على آليات للقياس قد تؤدي من الناحية النظرية إلى تحويل بعض الأشخاص للسجون، كذلك فان التقرير قد اعد بشكل جيد جداً". وأضاف:
انه حتى لو لم تأخذ الأمم المتحدة بالتقرير فان هنالك متغيرات على الصعيد العالمي فيما يتعلق بكيفية التعاطي مع جرائم الحرب، بحيث إن الكثير من دول أوروبا قد غيرت من قوانينها في السنوات الأخيرة، بحيث أصبح بالإمكان إجراء محاكم جرائم الحرب في محاكمها المحلية، وبهذا فان تقرير جولدستون كان ذا قيمة كبيرة في هذا السياق.

وبالتالي فان التقرير الذي لم نحسن التعاطي معه فلسطينيا على المستوى الرسمي، جاء ليحقق هدفا كنا نسعى له منذ زمن طويل، وهو محاسبة مرتكبي جرائم الحرب، وليس الحد من حالة الملاحقة لهم.

لهذا نجد الناشط الدولي في قضايا حقوق الإنسان "هيثم مناع" من "اللجنة العربية لحقوق الإنسان" يقول في معرض وصفه للأذى الذي وقع من جراء التأجيل:
في أي حملة حقوقية في العالم، أي ضربة من هذا النوع (التأجيل) وتأجيل القرار لستة أشهر أو ثلاثة أشهر، يشكل ضربة في الصميم وفي الصدر، ويذكر بمثال الحملة المناصرة لمروان البرغوثي عندما طلبت السلطة الفلسطينية بتخفيف الحملة، ثم أردنا أن نتحرك من جديد، كان من الصعب العودة بنفس القوة.

أما الضغط الكبير الذي مارسته الكثير من المؤسسات الحقوقية الدولية، والتي أدانت وبكثير من الوضوح العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فان ذلك قد كون حالة جديدة داعمة للتقرير، ليس فقط لدى الرأي العام الدولي، وإنما أيضا لدى الكثير من الدبلوماسيين والسياسيين في العالم. لهذا كانت كل التقديرات التي رصدها المراقبون لجلسات مجلس حقوق الإنسان في جنيف تفيد بان ما بين 33-35 دولة ستصوت على التقرير من أصل 47 عضوا، بينما كانت نتائج التصويت في جلسة الاستئناف (الخاصة) بتاريخ 18 تشرين الأول 2009 فقط 25 دولة، وهذا دلالة واضحة على خفوت حالة المساندة، وكذلك فان هذا الخفوت أتاح الفرصة لإسرائيل والولايات المتحدة من اجل أن تنشط أكثر في ممارسة الضغط على الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان.

على الرغم من كل ذلك، وبعد مرور عامين على صدور التقرير فان التعاطي الدولي خاصة فيما يتعلق بالمؤسسات الحقوقية، وفي الكثير من المحافل، مازال فاعلا أكثر مما هو عليه الحال لدى المؤسسات السياسية الفلسطينية، وهذا بلا شك مستند إلى التجربة الطويلة والنزاهة التي عرفت عن جولدستون وفريقه، ونفس هذه التجربة هي التي حملت غولدستون للقول بحسب الجزيرة 22 تشرين الأول 2009: " أنا أتحدى الولايات المتحدة الأمريكية أن تجد أية شائبة في التقرير."
 

ثالثا: المستوى الفلسطيني
بكل تأكيد فان النجاح في إعادة طرح تقرير غولدستون أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف، في جلسة استثنائية، وعدم الانتظار لمدة ستة أشهر أخرى، كما حاول البعض في حينه واهما إمكانية تحقيق شيء في عملية السلام، قد ساهم في تقليل حجم الخسارة التي كان يمكن أن تنتج لو أن التقرير طرح بعد ستة أشهر، وان الضرورة التي أفرزتها إرهاصات التأجيل تقتضي محاسبة من كان مسؤولا عن حالة التأجيل تلك. ولا يكفي الموقف الذي عبر عنه، إبراهيم خريشة، الذي قال لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية – 10 تشرين الأول- 2011: "نعم يمكن القول انه كان هناك خطأ" وان المسؤول عن هذا الخطأ هو القيادة الفلسطينية". لكنه لم يحدد تفاصيل تلك المسؤولية ولا جهتها بدقة. وحتى اللحظة مازال الموضوع على حاله ولم يفتح الملف ثانية، ولم تشكل أية لجنة تحقيق لبحث ملابسات الموقف الفلسطيني المرتبك الذي صاحب صدور التقرير وآليات متابعته على المستوى الدولي.

على الرغم من الحالة الفريدة التي يمثلها هذا التقرير من حيث بعده الدولي لكونه كان نتاجا لتكليف من الأمم المتحدة نفسها، إضافة إلى أن التقرير نفسه ذكر أن مرجعيته هي القانون الدولي العام، وميثاق الأمم المتحدة، والقانون الجنائي الدولي، إلا انه في اعتقادي انه لن يغير شيئا من هيئة وشكل تعاطي بعض الدول النافذة معه، فهي أصبحت معروفة بازدواجية المعايير عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، وأكبر مثال على ذلك الخطاب الأخير من رئيس الولايات المتحدة اوباما المتعلق بثورة 25 يناير والذي امتلأ بكل ما هو حي وإنساني وحتى ثوري، لكن وبكل أسف فان ذلك يغيب كليا عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين. وقد بدا ذلك واضحا بالفيتو الأخير حيال الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، إضافة إلى ذلك حالة الالتفاف المؤسساتي الدولي غير المسبوقة التي حققها التقرير.

أمام الحالة التي خلقها تقرير جولدستون على المستويين الرسمي والدولي، العديد من قطاعات الشارع الفلسطيني لا تولي أهمية لهذا الانتصار القانوني لحقوق الضحايا الفلسطينيين. ومن الضروري هنا القول إن عدم ايلاء أهمية من قبل قطاع واسع من شعبنا الفلسطيني لهذا التقرير، لا يتحمل وزره الإنسان الفلسطيني العادي، فهو يجد نفسه ولأكثر من سبب فاقدا لحرارة التفاعل مع مثل هذه التقارير المنددة والمدينة للتصرفات الاحتلالية الإسرائيلية على مدى العقود الستة الأخيرة – تقرير صبرا وشاتيلا، مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل، قرار محكمة لاهاي الخاص بجدار الفصل العنصري، وغيرها الكثير. إن من يتحمل وزر ذلك، بل وتقع المسؤولية الكبرى عليه في سبيل إبقاء مثل هذه التقارير فعالة ومساهمة في استمرار حصار الإسرائيليين الذي بدأ فعلا في الكثير من دول العالم، هو:

أولا: قيادة الشعب الفلسطيني الرسمية، منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية. كذلك فان حركة حماس تتحمل جزءا من المسؤولية عن ذلك، فهي التي أخرجت تقريرا باهتا ليس بمستوى الحرب والدمار والقتل الذي مارسه الاحتلال إبان الحرب على غزة. وعلى الرغم من تصاعد حالة النشاط الذي تمارسه القيادة الفلسطينية في المحافل الدولية في الآونة الأخيرة مثل رفع قضية الاستيطان لمجلس الأمن، والنشاط الملموس في استقطاب الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إلا أن المطلوب مازال أكبر بكثير خاصة فيما يتعلق بتقرير جولدستون، نظرا لكيفية تعاطي السلطة الوطنية مع التقرير حين صدوره.

ثانيا: المؤسسات الحقوقية غير الحكومية الفلسطينية. لا شك أن المؤسسات الفلسطينية لعبت دورا محوريا في دفع الأمم المتحدة وعبر تعاونها مع مثيلاتها الدولية في إصدار تقرير جولدستون، لكن المواطن الفلسطيني العادي يعتقد أن هذا النشاط هو أقرب للحركة الموسمية وليس فعلا متواصلا، وبالتالي فان المطلوب من مؤسسات المجتمع المدني هو إشراك المواطن الفلسطيني العادي في فعل مستمر، واستخدام طاقاته الكامنة في زيادة حالة الاهتمام والجذب الدولي لما يجري في فلسطين.

أخيرا، لقد كشف التقرير عورات إسرائيل ووضعها في قفص الاتهام أمام العالم بشكل غير مسبوق وهذا أمر لا جدال فيه، ولكن الخوف هو من التقاعس وقلة الحماس التي قد نقوم بها نحن الفلسطينيين، لأن المطلوب منا هو السهر على ذلك حتى نتمكن من إحداث حالة حصاد جيدة لشعبنا، وكما يقول المثل الفلسطيني ( اللي بيوقف مع عنزتو بيجيبلو توم).

--------------------------------------------------
*اكرم عطاالله العيسة: باحث وناشط فلسطيني.