"عندما سقطت الدولة الثامنة": مدينة اللد

بقلم: خليل ابو خديجة*

نبذة عن المدينة:
تقع اللد على مسافة 16 كم جنوب شرق مدينة يافا و5 كم شمال شرق الرملة. في الماضي سيطرت المدينة على الطريق الرئيس وسكة الحديد بين يافا والقدس؛ حيث كانت تعتبر عصب المنطقة اقتصاديا، والسوق التي يدشّنها التقاء الشمال بالجنوب، ليس في فلسطين فقط وإنما من دول عديدة.
وحتى الفتح الإسلامي لفلسطين بقيادة عمرو بن العاص في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، كانت اللد عاصمة لفلسطين القديمة. وبعد الفتح الإسلامي اتخذها عمرو بن العاص عاصمة لجند فلسطين سنة 636م واستمرت كذلك حتى تم إنشاء مدينة الرملة سنة 715م.

في تلك الفترة كانت اللد مسرحاً للعديد من المعارك الحربية التي دارت بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان، ثم أصبحت العاصمة المؤقتة لسليمان بن عبد الملك، الخليفة الأموي الذي كان والياً على فلسطين. في عام 1099م احتلت القوات الصليبية مدينة اللد، وفي عام 1267م ضمها السلطان بيبرس المملوكي إلى نفوذه بعد انتصاره على الصليبيين.
كانت اللد في العهد العثماني، عام 1516م قرية تابعة لقضاء الرملة واكتسبت أهميتها السياحية من وجود قبر القديس جيورجيوس (الخضر) وأنقاض الكنيسة التي بنيت فوقه والتي أعيد بناؤها عام 1870م.
في عام 1900 انتشر في اللد وباء الكوليرا وأودى بحياة الكثير من سكانها، وفي عام 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى وجند شبان المدينة للاشتراك في الحرب التي أنهت الحكم العثماني على البلاد. في عام 1917 انسحب الجيش العثماني من اللد عند اقتراب الجيش البريطاني منها، وأصبحت اللد تحت الحكم العسكري البريطاني الذي تحول بعد سنين ليصبح حكومة الانتداب البريطاني على فلسطين.
أيام الانتداب البريطاني على فلسطين كانت الأغلبية الساحقة من سكان اللد من العرب الفلسطينيين وبلغ عددهم 8,103 نسمة حسب إحصائية عام 1922، منهم نحو 920 مسيحيا (11% تقريبا). أما في عام 1948 فقد بلغ عددهم 22 ألف نسمة تقريبا.
في 1892 افتتح خط القطار الأول في فلسطين من يافا إلى القدس عبر اللد والرملة الأمر الذي زاد من أهمية المدينة. في الحرب العالمية الأولى ربطت السلطات العثمانية مدينة اللد بسكة حديدية جديدة مرت من مرج بن عامر جنوبا عبر جنين وطولكرم من أجل تسهيل نقل الجنود والعتاد العسكري لساحات المعارك. بعد تأسيس الانتداب البريطاني قامت حكومة الانتداب بترقية السكة الحديدية حيث أصبحت اللد في عشرينات القرن العشرين ملتقى لخطوط القطار المتجهة إلى جميع أنحاء المنطقة. ثم افتتحت حكومة الانتداب البريطاني "مطار فلهيلما" قرب مدينة اللد عام 1937حيث أصبح المطار الدولي لفلسطين، وبعد احتلال المدينة عام 1948، تغير اسم المطار إلى "مطار اللد"، ثم إلى مطار بين غوريون الدولي بعد وفاة بن غوريون.


ابو يعقوب واللد:

عند سؤاله عن المدينة، استغرق ابنها وقتا ليستجمع قواه للحديث عن قدسية الحزن والسعادة، وعن التجربة التي عندما بدأ فيها حياته الحقيقية، تحول كل شيء إلى رماد... نظر إلي، وقال بنبرة صوته المشوبة بخليط من الأسى والحنين:
"كانت الحالة صعبة كتير زمان".
قالها الحاج اسحق مستعيدا ذكريات النكبة التي ألمّت بعائلته ومدينته، ووطنه بشكل عام. بداية حديثه كان عن والده الذي فقده قبل أن يبلغ سن الخامسة:
"كان يجيب الحصمة من الجبال ويبيعها للبنا، كان عمري خمس سنين تقريبا لما مات – الله يرحمه".
وتابع:
"كنا عايشين في بيت وسيع كتير، 3 ولاد، و3 بنات، احنا الولاد الثلاثة كنا مسؤولين عن البيت، بعد ما مات ابوي، كنا نشتغل ونعطي المصاري لاخونا الكبير، وهو يصرف على الدار، الله يرحمه، صرف على الدار وحوشلنا وجوزنا".
عن المدرسة والدار:
"أول شي عرفتو كان المدرسة، كان في مدرسة حكومة تابعة للانجليز، كان الواحد لازم يستنى لما يصير عمرو 7 سنين عشان يدخلها، درست فيها للصف الخامس، وطلعت، أول اشي اشتغلت بمستشفى صرفند، كنت مساعد تمرجي، وبعدها اشتغلت بالمطبخ انا واخوتي التنين، دارنا ظلت موجودة بعد الـ48، هدوها في اخر السبعينات، في بقايا وآثار من الدار، هي كتير قريبة من سكة الحديد".


عن الخيانة:
"صار عمري 15 سنه، اتجوزت، وعملت بسطة دخان، وظليت أبيع دخان لحد ما دخل جيش الأردن. كان في هناك بعض البدو اللي تعاونوا مع اليهود، وقتلوا الفلسطينية زي ما اليهود قتلوهم، بس هدول قتلو كتير سوريين، كان لحم السوريين معلق على السلاك وعلى الشجر من كتر ما قتلو منهم".
 

النكبة:
توقف الراوي عن الكلام، وكأنه يبحث عن الحروف الملائمة لوصف ما حصل، فقاطعته بسؤاله عن النكبة، كيف حدثت النكبة ومتى؟ في أي جزء من حياتك هناك؟
تبسم ابن المدينة، ابتسامة المنكسر، وقال بسوط أجش: "الأردن خذلتنا" ثم استأنف:
"قبل النكبة بكم يوم، اجا الملك عبد الله ملك الاردن على اللد، واللدادوة ما رحبوا فيه، ، تاني يوم بدت المعركة في اللد، اليهود دخلوا من الناحية الشرقية، وبسرعة، انسحب معظم الجيش الأردني، وهادا هو اليوم اللي بدت فيه المعركة مع اهل اللد، ظل شوي من الجيش الاردني، من اللي خالفوا الأوامر، كانوا يطلعوا هم واللدادوه من الثوار للمقاومة..."
 

الدولة الثامنة:
وفجأة، وكأن أمرا بعث الحياة في جسد متهالك، قال بصوت مرتفع، فيه نبرة الصمود، والتحدي: "الناس كانت تحكي عنا الدولة التامنة". فعاجلته بسؤاله عن هذا المصطلح، ولماذا تعتبر المدينة مهمة في حرب عام 1948؟
"كانت اللد مركز المنطقة كلها، مثلا كانوا كل الناس ييجو علينا على اللد كل يوم ثلاثا، عشان سوق البرين، كانو ييجو من الشام ومن اليمن ومن مصر، يعرضو بضاعتهم على بعض ويشتروا ويبيعوا، كان السوق ملان بضاعة، من الغنم والبقر، للقماش والحبوب، وكمان كانوا الناس المدميين ييجو يحتمو بأهل اللد واهل مصر كانو يتعلقو بالقطار ويهربوا من مصر على اللد كمان".
"اه، بس هم سموا اللد الدولة التامنة"، قالها ابا يعقوب بفخر:
"لانوا إحنا اللي اخدنا المدافع من الانجليز وضربنا الانجليز واليهود فيهم. اللد كان فيها المطار، وكانت مركز سكة الحديد، اللدادوة راحوا فكوا السكة، وقلبوا القطار، واخدوا 3 مدافع، حطوا المدافع جنب الدار عنا، وبعد ما بدوا اللدادوة يضربوا المدافع صارت الناس تحكي احنا الدولة الثامنه، وما كان حدا متوقع يقدروا اليهود يدخلوا."
"كان الي سنه متجوز لما دخلوا اليهود، انا كنت اصغر عريس في اللد، كان عمري 15 والعروس 11، لما صار اللي صار بعت ذهب مرتي واشتريت سلاح، كل واحد منا باع ذهب مرته، واشترى سلاح، دافعنا عن راس العين، والسلمه، والرملة قبل ما اندافع عن اللد".
 

عن التهجير من اللد:
"اليهود دخلوا من الجهة الشرقية، كل اللدادوة فكروا ان اليهود هم جيش الأردن، والدول العربية، والكل طلع من داروا يستقبل، انصدم الكل لما شافو الجيش بيقتلوا بالناس، وبيصيحو فيهم عشان يطلعو من بيوتهم، ما حدا اخد اشي من دارو، الكل طلع بسرعة من الدار بعد ما عرفو ان اليهود دخلوا البلد، جمعونا كلنا في الجامع، اللي ظلو اصلا في البلد 400 – 500 واحد، بعد ما جمعونا وحطو حراسة على الباب، طلع واحد وضرب عليهم قنبلة، يومها انقتل 17 جندي، وبعدها بدو يطخو اللي قدامهم، والكل صار يهرب من البلد، أخوي رجع وحمل كيس طحين".
 

عن المهانة وكيس الطحين:
" ظلينا نمشي، الناس كانت تروح يا على الاردن، يا تروح على طولكرم وجنين ونابلس، احنا ظلينا نمشي لما وصلنا بلعين، كتير من اللي كانو معنا ماتو من العطش، والجوع، ولاد صغار، ونسوان، وختياريه، قعدنا في بلعين عشان كان في معارك، قعدنا يومين، معاملة الناس هناك كانت مش منيحه من مره، كانو يلعبو شده ويقولو لبعض خدلك هاللاجئ، واهل رام الله كانو يعاملونا كأنا شحادين، ويقرفوا منا، واستغلوا وضعنا، وصار كل شي غالي، اللي كان بقرش صار بعشرة، لانهم عارفين انا محتاجين نشتري، واخوي فتح كيس الطحين اللي حملو من اللد، وأكلنا وطعمينا اللي حولينا."
 

"لازم كل واحد يعرف من وين اجا، عشان يعرف لوين رايح":

"كملنا بعد يومين على القدس، كان النا قرايب هناك، قعدنا عندهم يومين، وبعدها استأجرنا دار في حارة الشرف – هيك كان اسمها قبل ما يجروفوها – كان شباك دارنا يطل على حائط البراق، وظلينا للـ67 وصارت النكسة، هدمو الحارة، وطلعنا سكنا بحوش الشاي، ما كنا عارفين هالمره وين نروح! في وحدة مسكينة هدموا عليها الدار!، وبعدها زي ما انتا شايف طلعت على الرام، اشتريت ارض، هيني عايش انا وولادي، ولاد ولادي بيقولو مرات انهم من القدس، ولجأوا على الرام، ومرات بيقولو احنا من اللد ولجأنا على القدس، لازم كل واحد يعرف من وين اجا، عشان يعرف لوين رايح، انا هيك بقول، لازم كل واحد فيهم يعرف منيح تاريخه وتاريخ اهله، عشان ما يفرط فيه، وبقول كمان انو طول ما احنا بنستنى بالدول العربية راح انضل زي ما احنا".
-----------
*خليل ابو خديجة: باحث في التاريخ الشفوي، ومنسق الدعم اللوجستي في مركز بديل.