الحقوق الوطنية مقابل حقوق الإنسانالحقوق الوطنية مقابل حقوق الإنسان في الأمم المتحدة

بقلم: نورا عريقات*

اللجنة الخاصة بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف

أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1975 القرار رقم 3376، وبذلك أنشأت اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف (من الان فصاعدا "اللجنة"). وما يبعث على الاحباط هو عدم إحراز أي تقدم منذ ذلك الوقت باتجاه ممارسة مثل هذه الحقوق، بما فيها الحق في تقرير المصير، السيادة والاستقلال الوطني؛ وحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وأملاكهم، كما وردت في قرار الجمعية العامة رقم 3236 الصادر عام 1974. وكانت الجمعية العامة قد أنشأت اللجنة التي تشكلت بعضوية عشرين دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وذلك من أجل أن تقترح برنامجا من شأنه تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه غير القابلة للتصرف.

وفي غضون سنة واحدة بعد إنشائها، قدمت اللجنة مشروعا للتنفيذ لمجلس الأمن، وتضمنت التوصيات المدرجة في ذلك المشروع خطة من مرحلتين لعودة ورد ممتلكات اللاجئين الفلسطينيين، الذين هجروا في عام 1948 وعام 1967؛ كما اشتملت على جدول زمني لانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ وإلى تواجد قوات حفظ سلام مؤقتة من أجل حماية المدنيين الفلسطينيين؛ وإلى قيام هيئة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية بإدارة مؤقتة للبلاد قبل تسليمها لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ وإلى وقف شامل للنشاطات الاستيطانية الإسرائيلية، وإلى اعتراف إسرائيل بانطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي المحتلة، وإلى تهيئة جميع الوسائل الضرورية لإرساء حق تقرير المصير والاستقلال للشعب الفلسطيني. ولكن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض "الفيتو" وأسقطت القرار في مجلس الأمن.
وفي مواجهة السعي للتقليل من أهميتها، قامت الجمعية العامة بمأسسة دور اللجنة عبر إنشاء قسم خاص بحقوق الشعب الفلسطيني في إطار الأمانة العامة في عام 1977. واشتملت المهام الرئيسة للجنة على توفير وتقديم الدعم الفني اللازم لعمل اللجنة نفسها، وتخطيط وتنظيم الاجتماعات والمؤتمرات الدولية المتصلة بالموضوع، والقيام سنويا بإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وإعداد ونشر المطبوعات، والتنسيق مع منظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال القضية الفلسطينية.
لم تكن القضية الفلسطينية فريدة من نوعها في الحصول على هذا التركيز الخاص داخل الأمم المتحدة، بل على العكس من ذلك؛ هدفت لجان أخرى إلى حشد الدعم الدولي من أجل إنهاء الاستعمار الأجنبي، ومن أبرز هذه اللجان، كانت اللجنة الخاصة المعنية بالفصل العنصري التي تأسست في عام 1962 من أجل إنهاء نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا (قرار الجمعية العامة رقم 1761)، ومجلس الأمم المتحدة بشأن ناميبيا، الذي تأسس عام 1967 ليكون السلطة الإدارية القانونية في ناميبيا حتى الاستقلال. وبالرغم من استمرار اللجنة الخاصة بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف، إلا أنه من غير المحتمل - في ضوء التطورات الأخيرة – أن تتمكن من تحقيق أهدافها المعلنة، وبالتالي قد يجري حلها في أي وقت في المستقبل القريب.
وضع غير موات:
هذه الأيام، يكون قد مضى على وجود هذه اللجنة خمسة وثلاثين عاما، وهي مستمرة في استضافة المؤتمرت الدولية، وتقوم سنويا بإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، كما تقوم بجمع وإنتاج معلومات مفيدة حول فلسطين، ولكن بالنسبة لجدوى أفعالها؛ فإن اللجنة لم تكن فعالة في تعبئة وحشد الجمعية العامة لتحدي المعارضة الصلبة في مجلس الأمن، والتي يجب أن تفهم على أنها معارضة الولايات المتحدة؛ من أجل إرساء حل للصراع. وفي الحقيقة، كتبت اللجنة في أولى توصياتها لمجلس الأمن في عام 1976، ما يلي:
"إذا كان مجلس الأمن غير قادر على الفعل بسبب استخدام "الفيتو"، ينبغي على اللجنة في تقاريرها اللاحقة أن توصي للجمعية العامة بأن تتحمل مسؤولياتها وفقا لميثاق الأمم المتحدة، وذلك في ضوء السوابق. كما اقترحت أيضا بأنه إذا استمرت إسرائيل في رفضها تنفيذ قرار الجمعية العامة رقم 194(III) وقرار 181(II)، فإن ذلك من شأنه أن يشكل انتهاكا لشروط قبولها في الأمم المتحدة، مما يتطلب إعادة النظر في الموضوع".
وبعيدا عن المسائل المثيرة للجدل؛ مثل مدى شرعية قبول عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، وفشل الأمم المتحدة في فرض الالتزامات المحددة في ذلك القبول المشروط، فقد كانت اللجنة حذرة في العمل من أجل الوفاء بمتطلبات تفويضها. ففي واقع الأمر، أصبحت وظيفتها احتفالية أكثر منها سياسية. يقول "جوزيف شيشلا" (Joseph Schechla)، منسق شبكة حقوق السكن والأرض- ائتلاف هايبيتات العالمي، الذي حضر اجتماعات اللجنة بين سنوات 1986-1991 ومن ثم في عام 1999: "اللجنة لم تعمل كهيئة سياسية في إطار الجمعية العامة، وتركيبتها، بطريقة ما، هي تركيبة غير مهمة ومكونة من ممثلي دول أعضاء لم يكن من بينها أية دولة مؤثرة، ولم يكن لدى هذه المجموعة أي رغبة لتكون فعالة".
ويضع "جوزيف شيشلا" المسؤولية الأساسية عن عدم فعالية اللجنة على منظمات المجتمع المدني، التي فشلت في ممارسة ضغوط كبيرة على الدول الأعضاء، بطرق مشابهة لتلك التي ضغط فيها المجتمع المدني على الدول الأعضاء في مجلس الأمم المتحدة بشأن ناميبيا، وعلى حكومات الدول الأعضاء في اللجنة الخاصة بالفصل العنصري. ويضيف بأن اللجان الأفريقية كانت "مؤسسات منتجة" وكان هناك فهم أفضل لإمكانات اللجنة، وهذا يزيد التوقعات في أوساط المجتمع المدني لأنه "لدينا قاعدة ينبغي الوفاء بها".
ويوافق على هذا الرأي السيد "فولفانغ غريغر" (Wolfgang Grieger)، رئيس وحدة الحقوق السياسية في الأمم المتحدة، ويعلق بأنه لكي تكون اللجنة أكثر فعالية، فإن على منظمات المجتمع المدني أن تبذل المزيد من الجهود لإشراك بعثاتهم الدبلوماسية لدى الأمم المتحدة، ويضيف بأن على المنظمات غير الحكومية أن "... تأت للكلام، تشرح وجهة نظرها، وتشارك".
ومع ذلك، فإن مشاركة المنظمات غير الحكومية في اللجنة كانت تجربة كئيبة منذ ظهور عملية سلام الشرق الأوسط. ويوضح "غريغر" بأنه بعد أوسلو، انخفضت مشاركة المجتمع المدني بمقدار النصف، ومن بين أسباب ذلك قلة الدعم المالي، فضلا عن الصراع السياسي الداخلي، إلا أن المسألة الأساسية هي أن مسيرة أوسلو قسمت تطلعات الفلسطينيين لتقرير المصير إلى مسارين: مسار سياسي ومسار آخر لحقوق الإنسان.
وبالتالي، فإن الاختلاف بين أعضاء المجتمع المدني من جهة، وبين البعثات الدبلوماسية الرسمية وقعت في هذا الانقسام؛ حيث أيدت بعثات الدول الأعضاء عملية السلام، بينما قام نظراؤهم في المنظمات غير الحكومية بتأييد والبحث في آليات للمساءلة من أجل معالجة انتهاكات حقوق الإنسان. وبينما يمكن التوفيق بين عملية السلام والمساءلة، بل يتوجب التوفيق بينهما في إطار جهود حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لا زالت الولايات المتحدة وإسرائيل تقوم بتصنيفهما كمسارين في متباينين ومتنافرين، وبالتالي، تمكنتا من منع تحقيق أي نجاح مماثل لتجارب سابقة، والتي قادت إلى اختراقات مظفرة كما في كل من جنوب أفريقيا، ايرلندا الشمالية والبلقان.
ومما زاد الأمور تعقيدا هو حقيقة أنه منذ عام 2007، عندما قامت حماس بطرد حركة فتح من قطاع غزة؛ قامت الولايات المتحدة بتقديم المزيد من الدعم المالي والدبلوماسي للقيادة الفلسطينية التي جلّها من حركة فتح، لتمكينها من التأثير أكثر على الأجندة السياسية الفلسطينية الرسمية. وقد أدى هذا التأثير إلى زيادة التوتر بين المسارين الوطني الرسمي ومسار حقوق الإنسان، وكذلك بين منظمات المجتمع المدني الفلسطيني وبين بعثة منظمة التحرير الفلسطينية لدى الأمم المتحدة.
مسيرة اللجنة مع المجتمع المدني:
عملت اللجنة مدة عشر سنوات تقريبا قبل أن تتكامل مع المجتمع المدني بطريقة ذات معنى. ففي عام 1983، قامت منظمة الأمم المتحدة بفتح أبوابها أمام المنظمات غير الحكومية للمشاركة بصورة أكثر رسمية عبر منحها منزلة "وضع استشاري" لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي. وفي نفس العام، قامت اللجنة بعقد مؤتمر دولي للسلام حول قضية فلسطين، حيث ظهرت فيه منظمات وأعضاء المجتمع المدني، وبعد ذلك نسقت مشاركة المجتمع المدني في صيغة هيئات إقليمية رسمية، والتي تم تيسير انتخاباتها من قبل الأمم المتحدة. وتلقت هذه الترتيبات أولى الضربات لمستوى فعاليتها في مطلع التسعينيات مباشرة بعد بدء عملية السلام، عندما قامت الجهات الفاعلة في المجتمع المدني باستخدام الفضاء الذي وفرته اللجنة في إدانة ولوم البعثات الدبلوماسية الرسمية على مشاركتها في مسيرة أوسلو. وعليه، قامت اللجنة في عام 1999 بإنهاء علاقتها الرسمية بالمجتمع المدني في رسالة تعلن توقف الأمم المتحدة عن تنسيق الانتخابات للهيئات الإقليمية للمجتمع المدني، فضلا عن وقفها للدعم المالي.
ويفسر "غريغر" ذلك بالقول أن "الأمم المتحدة لم ترد أن تضع ختمها الرسمي على وجود لجان إقليمية، لأن هذه اللجان الإقليمية اتخذت مواقف تتناقض مع ولاية اللجنة... لذلك، لا مزيد من الانتخابات، لا مزيد من الإجتماعت، إذهبوا إلى جنيف من أجل قضايا حقوق الإنسان، وتعالوا إلى اللجنة لمتابعة النقاشات حول الحقوق الوطنية".
ولسوء الحظ، فإن المناقشات حول الحقوق الوطنية تعتمد على عملية السلام، في حين لا تستند اتفاقيات أوسلو ولا لأي من الاتفاقات اللاحقة إلى القانون الدولي الساري بما فيها قوانين الاحتلال، أو قرارات مجلس الأمن، أو قواعد حقوق الإنسان. وبدلا عن ذلك، تتبنى المفاوضات السوابق الخاصة بها كقواعد مرجعية، وبالتالي، فإن المسار السياسي يتبنى آفاقا واهية لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان، لأنه في مثل هذا الإطار، تخضع منظمة التحرير لما تحدده الولايات المتحدة، التي نصبت نفسها وسيطا للسلام، وهي بالتالي رافضة للنهج المستند إلى الحقوق إلى ذلك القدر الذي يقوض صفة الولايات المتحدة بأنها شريك "حسن النية" في المفاوضات. وتعلق "فيليس بينيس"، وهي زميل بارز في معهد الدراسات السياسية، ومشاركة دائمة في اجتماعات اللجنة من المجتمع المدني العالمي، بأن عداء منظمة التحرير الفلسطينية تم توجيهه نحو "سياسات المجتمع المدني وليس للمجتمع المدني نفسه، لأن منظمة التحرير الفلسطينية أرادت أن تبقي بيضها في السلة الأمريكية".
ويعكس تركيز اللجنة على الحقوق الوطنية والمسار السياسي احترامها لمنظمة التحرير الفلسطينية، "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني" منذ عام 1974 عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 3236، والذي يعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها ممثل الشعب الفلسطيني، ودعتها للمشاركة في الأمم المتحدة بصفة عضو مراقب. وبناء عليه، نظرت الأمم المتحدة، واللجنة على وجه الخصوص، إلى منظمة التحرير بأنها الجهة التوجيهية للتعامل مع الشأن الفلسطيني. "يوجد لدى اللجنة ولاء لموقف منظمة التحرير الفلسطينية، حيث قررت دعم المنظمة في توقيعها على اتفاق أوسلو"، كما يقول "غريغر". في حين كان الولاء لمنظمة التحرير الفلسطينية تاريخيا يرقى إلى مستوى التضامن مع الحركة الوطنية الفلسطينية. ولكن قبول مثل هذا الموقف على علاته؛ أصبح ضعيفا بشكل خاص منذ فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في عام 2006.
أزمة في تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية:
بعد أن حصلت حركة حماس على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني في انتخابات ديمقراطية، قفزت حماس إلى سدة السلطة باعتبارها قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية، ووضعت نفسها بفعالية كمنافس سياسي كبير لحركة فتح، التي تسيطر حتى الآن على المواقع العليا في السلطة الوطنية الفلسطينية. وردا على ذلك، قامت حركة فتح بإحياء منظمة التحرير الفلسطينية بالرغم من الجمود والترهل الملحوظ الذي أصاب المنظمة منذ توقيع اتفاق أوسلو، ويتضح ذلك من عدد دورات انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، الذي يضم الفلسطينيين في المنفى والشتات؛ حيث عقد هذا المجلس لمرتين فقط خلال عشرين عاما بين 1991-2010. وقد شكل ذلك تحديا لسلطة حماس، التي لم يتم دمجها في إطار منظمة التحرير الفلسطينية بالرغم من الالتزامات التي قدمتها عام 2005.
وفي غضون ثمانية عشر شهرا، تصاعد هذا التنافس إلى مستوى أزمة واضحة، عندما قامت حركة حماس بطرد حركة فتح عن السلطة في قطاع غزة، فيما وصفه البعض بأنه انقلاب عسكري استباقي. وقام محمود عباس بالتصرف بصفته رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأصدر مرسوما بتعليق عمل المجلس التشريعي، وعيّن سلام فياض رئيسا للوزراء، مما أدى إلى نشوء نظامين منفصلين للحكم داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، وبذلك تعمقت أزمة تمثيل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى حد كبير.
وبينما لا تزال حركة حماس هي الممثل المنتخب ديمقراطيا، إلا أن حركة فتح تهيمن على منظمة التحرير الفلسطينية، وتستخدم شرعيتها التاريخية للمطالبة بعباءة "الممثل الشرعي الوحيد". وحاليا، لا يمثل أي من الطرفين بدرجة كافية الحركة الوطنية الفلسطينية خارج الأرض المحتلة. وعلاوة على ذلك، ومنذ انتهاء مدة الولاية الرئاسية لمحمود عباس في كانون ثاني 2009، وكذلك انتهاء تمديدها لسنة إضافية، فإن هيمنة حركة فتح على القيادة الفلسطينية تستند فقط إلى قرار المجلس المركزي (15-16 كانون أول 2009) الذي منح رئيس اللجنة التنفيذية رئيس السلطة الفلسطينية تفويضا مفتوحا عبر تمديد ولايته إلى أن يتم إجراء الانتخابات. وما يدعم هذه الولاية هو الدعم المالي والشرعية السياسية المقدمة من الولايات المتحدة بشكل شبه كامل تقريبا.
ولكونها تستمد شرعيتها من مصادر خارجية أكثر من اعتمادها على قواعدها الجماهيرية، إلى جانب اعتقاد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بأن الولايات المتحدة، باعتبارها قوة عظمى عالمية ووسيط سلام، فإنها سوف تشرع في حل مرغوب للصراع؛ ونتج عن هذا التوجه انهيار المنظور النقدي الذي كان راسخا لدى المؤسسة (م ت ف) تجاه التدخل الإمبريالي الأمريكي في الصراع وفي المنطقة. ويمكن القول بأن ذلك قوض الالتزامات المترتبة على التمثيل الملقاة على عاتق منظمة التحرير الفلسطينية. وكما عبر عن ذلك شفيق الحوت، رئيس البعثة الإعلامية لمنظمة التحرير لدى الأمم المتحدة، في مقابلة عام 1974 قبل ساعات قليلة على تصويت الجمعية العامة للاعتراف بالمنظمة وقبولها كعضو مراقب، حيث قال: "... بمجرد تعزيز نفسك لتصبح حكومة يعني أن عليك أن تتحمل مسؤوليات عن المواطنين المنتمين للكيان الفلسطيني، وهذا هو جحيم المسؤولية". ويتم مؤخرا اتهام منظمة التحرير بالفشل في تحمل هذه المسؤولية في الأمم المتحدة، حيث أن قراراتها الأكثر أهمية عكست مصالح أمريكية أكثر من المصالح الوطنية الفلسطينية.
فشل في تحقيق المساءلة في الأمم المتحدة: تقرير غولدستون
من الأمثلة البارزة على ذلك هو طريقة تعامل منظمة التحرير الفلسطينية مع تقرير غولدستون، وهو تقرير التحقيق الذي جرى بإشراف الأمم المتحدة في العدوان الإسرائيلي لمدة 22 يوما في شتاء 2008/2009 على قطاع غزة. ففي شهر أيلول 2009، قام الرئيس محمود عباس بسحب التأييد الفلسطيني للتصويت على التقرير في مجلس حقوق الإنسان في جنيف من أجل إرسال التقرير للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يمكن أن يتلقى دعما سياسيا، بما في ذلك إحالة التقرير بما فيه من إدعاءات حول ارتكاب جرائم حرب إلى المحكمة الجنائية الدولية. ووفقا لتقارير وسائل الإعلام التي نشرت في ذلك الوقت؛ تعرض محمود عباس لضغوط أمريكية مكثفة لتأجيل التصويت على التقرير من أجل استئناف محادثات السلام الفلسطينية – الإسرائيلية.
وعلى الرغم من غياب أي عمل للمجلس الوطني الفلسطيني، قام المثقفون، الناشطون، المحامون، والمنظمات الشعبية الفلسطينية والأحزاب السياسية من داخل إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة والعالم العربي، ومن الشتات العالمي، برفع صوتهم الاحتجاجي، الذي وصل إلى حد المطالبة باستقالة محمود عباس بسبب إعاقته لعملية قد تقود في نهاية المطاف إلى إنشاء محاكم خاصة بجرائم الحرب في فلسطين.
وعملت منظمة التحرير الفلسطينية بشكل محموم من أجل احتواء الأضرار واستئناف العملية، لكن عزمهما كان قصير النظر، فبمجرد تحرك التقرير من مجلس حقوق الإنسان إلى الجمعية العامة، فشلت منظمة التحرير في تجنيد الدعم، ويعود ذلك جزئيا إلى مراعاة أولويات السياسة الأمريكية. ومن أجل صدور قرار له معنى، شق التقرير طريقه مرة أخرى إلى مجلس حقوق الإنسان في جنيف. وأنشأ المجلس لجنة خبراء مستقلة لتقييم مدى كفاية التحقيقات المحلية الجارية، وفي تشرين أول 2010، أصدر الخبراء تقريرهم الذي بينوا فيه عدم كفاية كل من التحقيقات الإسرائيلية والفلسطينية، ولكنهم لم يتمكنوا من تقديم توصيات جوهرية لمعالجة هذا القصور، بما في ذلك إحالة التقرير للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق فيما ورد فيه.
وبدلا عن ذلك، وبتوجيه من منظمة التحرير الفلسطينية، قامت اللجنة بمنح إسرائيل والفلسطينيين مدة ستة أشهر أخرى، من أجل مواصلة وتحسين تحقيقاتهما ليجري إعادة النظر فيها من قبل مجلس حقوق الإنسان في آذار 2011. ومع ذلك، وفي ظل غياب التوجيه من جانب م ت ف وغياب الإرادة السياسية من جانب الدول الأعضاء في الأمم المتحدة من أجل تحقيق المساءلة، فإن أفضل التحقيقات عمقا وشمولا سوف تظل بدون مغزى عملي. وإذا ما فشلت منظمة التحرير الفلسطينية في إعطاء الأولوية لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي ارتكبت خلال عملية الرصاص المصبوب على أية مكاسب سياسية أخرى، فسوف تظل العدالة هدفا بعيد المنال، ولا سيما بالنسبة للفلسطينيين المقيمين في قطاع غزة، وكما ذكر ائتلاف لمنظمات حقوق إنسان فلسطينية:
"على مدار سنوات عديدة في فلسطين، تمت التضحية بالقانون الدولي وحكم القانون باسم السياسة، وتمت تنحيته جانبا لصالح عملية السلام. لقد تمت تجربة هذا النهج وكانت النتيجة هي الفشل: تم توطيد الاحتلال، واستمرت المستوطنات غير المشروعة في التوسع، وتواصل حرمان الفلسطينيين من الحق في تقرير المصير؛ ولا زال يعاني المدنيون الأبرياء من العواقب المروعة. حان الوقت الآن لتحقيق العدالة، وبناء السلام على قاعدة حقوق الإنسان، والكرامة وسيادة القانون. وبكلمات القاضي غولدستون "لا يوجد سلام بدون عدالة".
على من تقع مسئولية التغيير؟
تكبدت الحركة الوطنية الفلسطينية المكافحة من أجل تحقيق تقرير المصير تكاليف باهظة جراء الخلافات السياسية الداخلية، لأنها تسببت في تأخير و/ أو تعطيل عمل اللجنة في أحسن الأحوال، إضافة إلى حرمانها من القوة والزخم اللذين يوفرهما المجتمع المدني العالمي، وأضعفته في أسوأ تقدير. ولدى اللجنة إمكانيات كبيرة، نظرا لأن الجمعية العامة توفر خيارات متعددة للنهوض بالحقوق الفلسطينية، مثلما حصل في حالات اللجان الخاصة بناميبيا وجنوب أفريقيا التي أثبتت نفسها بطريقة جيدة.
والخيار الأبرز المتاح للجنة هي سابقة قرار "متحدون من أجل السلام"، حيث تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين ثاني 1950 القرار رقم 377 تحت عنوان: "متحدون من أجل السلام"؛ وذلك كرد على إستراتيجية الاتحاد السوفييتي السابق في استخدام حق "الفيتو" ضد أي مشروع قرار يهدف إلى مساعدة كوريا الجنوبية ضد العدوان العسكري الذي شنته كوريا الشمالية. وبناء على طلب من ممثلي الولايات المتحدة لدى منظمة الأمم المتحدة، اثبتت الجمعية نفسها بوصفها حامية للسلام والأمن الدوليين وفقا للمادة 14 من ميثاق الأمم المتحدة، وقررت ما يلي:
... بأنه إذا فشل مجلس الأمن، وبسبب عدم وجود إجماع بين الأعضاء الدائمين، في ممارسة مسؤوليته الرئيسة في صون السلم والأمن الدوليين في أي حالة يبدو فيها أن هناك تهديد للسلام، خرق للسلام، أو عمل من أعمال العدوان، فإن الجمعية العامة سوف تنظر في المسألة على الفور بهدف تقديم توصيات ملائمة للدول الأعضاء لاتخاذ تدابير جماعية... للحفاظ على، أو استعادة السلم والأمن الدوليين.
في كلمة أمام حفل إحياء اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني عام 2003، لاحظت "بينيس" بأن الجمعية العامة استخدمت قرار 377 مرتين في الماضي القريب: مرة للحث على وقف التهديدات لحياة الرئيس ياسر عرفات (قرار الجمعية العامة 10/12، 2003)، ومرة ثانية لمطالبة إسرائيل بوقف والتراجع عن بناء الجدار (قرار الجمعية العامة 10/13، 2003).
وقامت أطراف من المجتمع المدني بدعوة الجمعية العامة لاستخدام هذه السابقة هذه الأيام من أجل إظهار معارضتها لقيام الولايات المتحدة بعرقلة أية تدابير تهدف لحماية الفلسطينيين، ومحاسبة إسرائيل، ومن أجل التأكيد على انطباق القانون الدولي وقواعد حقوق الإنسان على الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي في داخل مجلس الأمن. ووفقا لجينيفر لوفنشتاين، وهي أستاذة في جامعة ويسكونسن-ماديسون، ومشاركة دائمة في اجتماعات اللجنة مع المجتمع المدني العالمي، فان بعثة منظمة التحرير الفلسطينية لدى الأمم المتحدة لم تنظر بإيجابية إلى هذا التدخل، ولم تشجع هذه المشاركة غير المقيدة. وفي رد على الكلمة التي ألقتها لوفنشتاين أمام مؤتمر بروكسل في عام 2007، والتي انتقدت فيها تحالف الرئيس محمود عباس مع الولايات المتحدة، وصفها ممثل لمنظمة التحرير بأنها "وقحة"، وأعلن أنها "لا تملك الحق في التحدث باسم الفلسطينيين".
وأضافت رانيا ماضي، وهي مستشارة مركز بديل المقيمة في جنيف، ومشاركة لوقت طويل في اجتماعات المجتمع المدني العالمي، بأن هذا الاتجاه الرسمي بالتحديد، هو السبب وراء تراجع وتضاؤل مشاركة المجتمع المدني في الاجتماعات الدولية. وتعلق رانيا ماضي التي كانت الممثلة الوحيدة في اجتماعات المجتمع المدني للأعوام 2008 و 2009، بالقول أنه: "سيكون من المفيد دفع المجتمع المدني ليكون ديمقراطيا بدلا من استبعاده من العملية".
يوجد لدى اللجنة قدرة على تعبئة الجمعية العامة لتصبح بديلا حقيقيا وفعالا لمجلس الأمن الدولي، وتتوقف فعاليتها على مدى استعداد منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من المسار السياسي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، وتصبح محركا لتجنيد اصطفاف عالمي لتحدي المأزق الذي فرضته الولايات المتحدة في منظمة الأمم المتحدة عبر استخدامها للفيتو في مجلس الأمن. وعلى أقل تقدير، يتطلب ذلك أن تنجز منظمة التحرير الفلسطينية الوحدة الوطنية، وأن توفق بين تطلعاتها للدولة الفلسطينية مع واجبها في حماية الشعب الفلسطيني من الانتهاكات المنتظمة لحقوق الإنسان. ومن المفارقات الموجودة في السياق نفسه، أن المسؤولية عن إحداث هذا التغيير، ربما تقع على عاتق الجهات الفاعلة جدا في المجتمع المدني الذين تم استثناءهم من هذه العملية. وتتمثل مهمتهم في العمل الدعوي من أجل التوفيق بين مساري الحقوق الوطنية وحقوق الإنسان من داخل اللجنة نفسها، بدلا من العمل من الخارج كمنشقين على ما يبدو أنه استلاب للجنة من قبل الولايات المتحدة. وفي ظل استمرار غياب مثل هذا التوجه، فإن المجتمع المدني يخاطر بتحول الاهتمام الدولي بعيدا عن الانتهاكات الإسرائيلية المنتظمة لحقوق الإنسان، وعن الحصانة الممنوحة لإسرائيل من قبل الولايات المتحدة، فيما يتركز الاهتمام الدولي في هذه الحالة على التنافس السياسي الفلسطيني الداخلي. وفي الواقع، يمكن للمجتمع المدني – اذا بقي الحال على ما هو عليه- أن يصير جزءا من المشكلة، بدلا من تركيزه على استخدام إمكانياته في القيام بواجبه الحيوي، ورفع صوته الواضح لإرساء الغلبة لقواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان في إطار المساعي للتوصل إلى حل للصراع قابل للتطبيق.
* د. نورا عريقات: منسقة وحدة الدعم القانوني في مركز بديل، أستاذة جامعية في واشنطن- الولايات المتحدة.