نهر البارد: مولد جديد ونموذج يبحث عن حياة

بقلم: ميس الصفدي وسمير قاسم*


ثلاث سنوات مرت من عمر نهر البارد... لم تكن سنوات سعادة ولا فرح بالرغم من صغر عمر المولود الجديد الذي اسهمت الظروف بولادته القيصرية، وكاد أن يفقد معها الحياة لولا لطف الله. سنوات مدٍ وجزرٍِ، وآمال في الهواء، ووعود لم ينفذ منها إلآ القليل القليل. الرزمة الأولى من إعمار المخيم والتي واجهتها مدينة آرتوزيا الرومانية، وأوقفت أعمال الطمر فيها في 31 أب 2009 على إثر الطعن المقدم في 30 نيسان 2009، حتى الآن ومع اقتراب الموعد المحدد لتسليمها في نهاية العام الحالي... لم تكتمل بعد! يعلق أهالي المخيم: "كل رزمة تحتاج إلى سنة، والمخيم مقسم إلى ثماني رزم، والرزمة الأولى حتى الآن لم تنته بل أخذت وقتا أطول مما خطط لها، على هذه الحال سينتهي إعمار المخيم في 2050!"

دُمّر قسم من المخيم على إثر المعارك التي دارت رحاها ما بين الجيش اللبناني ومجموعة فتح الإسلام في أيار 2007. إلا أن المخيم دمر تدميرا ممنهجا بنسبة 100% بعد انتهاء الأعمال الحربية بأشهر.

كان يسكن المخيم بشقيه القديم والجديد حوالي 30 ألف نسمة، 25 الفا منهم في القديم و5 آلاف في الجديد. نزح أهالي المخيم إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان من شماله إلى جنوبه، إلا أن النسبة الأكبر منهم تمركزت في مخيم البداوي بسبب قربه من مخيم البارد. فتحت الأونروا أبواب مدارسها للعائلات النازحة، بعد ذلك قامت ببناء مساكن مؤقتة في المنطقة المجاورة أو المحاذية للمخيم بحسب اصطلاح الأونروا بينما تطلق عليه الدولة اللبنانية اليوم اسم المخيم الجديد. تتصف هذه البيوت بضيق المساحة، وبالبرودة شتاء وبالحرارة صيفا، علما أن الأونروا قامت بإجراء تحسينات على هذه البيوت إلا أنها ما تزال غير صالحة للعيش الكريم. تصف إحدى النساء الحياة في البركسات- البيوت المؤقتة: " الحياة هون ما بتنتطاق، حر في الصيف وبرد في الشتاء". الغرف في هذه المساكن ضيقة جدا، تفتقر لأبسط المقومات مما يزيد المشاكل والعنف في الأسر التي تسكنها، ناهيك عن الأثر السلبي لتلك المساكن على التحصيل العلمي للطلبة، وغيرها من المشاكل والآفات الاجتماعية.

تتنهد إحدى الأمهات بحرقة فتقول: "بنعيش بهاي الغرفة خمسة أشخاص، هالغرف بتقضي على خصوصيتنا" تصمت قليلا كأنها تهرب من واقعها ثم تكمل:
صار الشتا عالأبواب، وبالشتا بتكثر الأمراض الموسمية من انفلونزا وغيرها، وبالصيف كمان، يعني أنا إذا مرضت بالإنفلونزا أو بأي مرض جلدي، بعدي عيلتي كلها بسبب ضيق المكان. باختصار حياتنا صعبة وأوضاعنا النفسية أصعب، والخوف من الأسوأ وتفاقم الوضع، بس احنا صابرين والحمد لله.

فيما ُتعلق إحدى النساء المسنات: "اربط القرد ما بيقعد بهالبيوت. بالصيف فرن وبالشتا تلاجة".

أما وقد أصبح العام الدراسي على الأبواب، فإن الأهالي والطلبة في حالة توتر، فالطلبة يشعرون بأنهم سيعودون للسجن من جديد حسب وصفهم، فشكل المدارس يشبه السجون، وصوت صعود الأدراج ونزولها يصيبهم بحالة ارتباك وتوتر، مما يؤثر على تركيزهم في الصفوف، ويشتت أفكارهم، كما وللحر فعله في أجسادهم الصغيرة التي تغلي مع غليان غرف الالمنيوم والصفائح المسبقة الصنع التي تتكون منها غرف صفوفهم ومدارسهم، وتبرد مع برودتها. كل هذا لا بد وأن يساهم في تأخير المستوى الدراسي ويزيد من نسبة التسرب المدرسي. يصف الطالب س. ع الوضع:
قبل كان عندي أحلام كثيرة، كنت أحلم أصير دكتور، بس إسا تغير الوضع كثير.. بالأول كنت من المتفوقين، إسا رجعت وتأخرت لورا ورحت م اسقط بصفي.

ويضيف معلقا عن أسباب التراجع في المدرسة:
أنا ما بتحمل الضجة ولا قرقعة الدراج، أفكاري بتتشتت وما بقدر أركز مع الاستاذ. إسا صرت أقول يا دوب أخلص المرحلة التكلميلية وبكون هادا انجاز.

بحسب مصادر مطلعة، فإن عدد الطلاب في مخيم نهر البارد يحتاج إلى 6 مبان للست مدارس المقسمة على 3 مبان تعمل على نظام الدفعتين (الشفتين: الصباحي والمسائي)

فيما يخص الواقع الصحي، يوجد في مخيم نهر البارد الجديد ( المنطقة المحاذية) عيادتان تشرف عليهما الأونروا، إضافة إلى مركز للهلال الأحمر الفلسطيني ومستوصف الشفاء يزرهما اطباء من ذوي التخصصات مرة في الاسبوع. ويعتبر الوضع الصحي في مخيم نهر البارد افضل منه في باقي المخيمات.

وبالانتقال إلى موارد وإمكانيات المخيم يجدر التذكير أن مخيم نهر البارد كان مركزا تجاريا مهما في منطقة شمال لبنان، وبخاصة في منطقة عكار ومحيطها الجغرافي. فكان فيه محال الذهب وتجار الخضار ومواد البناء بالجملة والمفرق. خلال المعارك وما بعد المعارك، تكبد تجاره خسائر مادية كبيرة جدا فاقت ملايين الدولارات. ورغم تلك الخسائر الكبيرة جدا لم يعوض أحد عليهم حتى الآن ولم يستفيدوا إلا من بعض هبات جاءت لتفعيل الأعمال التجارية وتنشيطها، ويوضع عليها الكثير من علامات التساؤل من قبل التجار! واللافت في هذا السياق هو همة ودينامية اللاجئين الفلسطينيين فبالرغم من كل الخسائر الفادحة التي لحقت بالتجار، إلا أن النشاط التجاري عاد بقوة بالرغم من أن المخيم مغلق لاعتباره منطقة عسكرية، بحيث لا يسمح للسكان والزوار بدخول المخيم إلا عبر تصاريح دخول تصدر مباشرة عن المؤسسة العسكرية. وهذه التصاريح تتنوع بحسب صاحبها، فمنها ما هو تصريح سكن، وآخر تصريح عمل، وثالث تصريح زيارة، وللعاملين في المخيم القديم تصريح خاص. كما تختلف هذه التصاريح اضافة الى مدة صلاحيتها، تختلف بطول فترة استصدارها التي تتراوح بين أيام وأسابيع أو قد لا تمنح بتاتا، إذا لم يبرر المتقدم سبب زيارته بحجج وأسباب مقنعة.

"بحس بالخوف كل ما مريت من قدام الحاجز،" يقول ر.ج. القاطن في البيوت الجاهزة الصنع. وتقول س. ز: "بخاف كثير أمر من قدام آلة التفتيش، على فرض أني حامل من غير ما أعرف، مش اشعتها رح بتصيب الجنين وتضره؟!"

حواجز الجيش اللبناني ُتوقف كل داخل وخارج الى المخيم: المسؤولين في الفصائل الفلسطينية وحتى المبعوثين الدبلوماسيين والأجانب والأطفال، وهي بدورها توقف دورة الحياة الطبيعية في المخيم وعلاقته مع
الجوار، إلا أن قلة يتنبهون إلى ذلك الموقوف الصامت.

اليوم ترتفع في زاوية من زوايا المخيم القديم أعمدة وأبنية تشكل الرزمة الأولى من مشروع إعادة إعمار المخيم، نسبة 1/10 من مساحة المخيم، وبعدد 145 مبنى مقسمة ما بين وحدات سكنية وتجارية. إلا ان مسألة الوصول الى هذه المنازل ما يزال خارج النقاش، كما أشرنا سابقا إلى قضية التصاريح، فالدولة اللبنانية تضرب طوقا أمنيا قوامه أشرطة شائكة وجنود حول المخيم القديم والذي هو عبارة عن ساحة مجروفة جاهزة للبناء لا يسمح الدخول إليها إلا للمهندسين وعمال البناء في أوقات محددة ووفق تصاريح خاصة غير تلك التي تمنح للسكان في المنطقة المجاورة. والطوق الثاني حول المنطقة المجاورة التي اصطلح على تسميتها بالمخيم الجديد يتكون من أشرطة شائكة وجدران اسمنتية وجنود ودوريات وحواجز وبوابات تحت حراسات وعمليات تفتيش مشددة عبر أحدث تقنيات التفتيش المعروفة "بالسكانر".

ما تزال هذه الحالة الأمنية غير المسبوقة في تاريخ لبنان قائمة، وتشكل قلقا كبيرا لأهالي مخيم نهر البارد بخاصة، وللاجئين الفلسطينيين في باقي مخيمات لبنان بعامة، أضف إلى ذلك ما يتشاركونه جميعا من انتهاك لحقوقهم المدنية.

إنه مخيم نهر البارد، النموذج الذي وعد به رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك، ووافقت عليه منظمة التحرير، بشكل مباشر أو من خلال سكوتها على مراحل تنفيذه البطيئة والتي تجري أمام العيان. يشكل هذا النموذج انتهاكا صارخا لحقوق اللاجئين بحسب القوانين المرعية والاتفاقات الدولية، كما يشكل تهديدا واضحا لحق العودة، بخاصة وأن إهانة الكرامات وشذر العيش واليأس المتزايد يدفع اللاجئين إلى طرق أبواب الهجرة والبحث عن مناف أكثر أمانا واحتراما لحقوقهم ولكراماتهم.

ما يزال ثلثا التمويل للمخيم النموذج غير مؤمن: يصف المطلعون على عملية الإعمار بأنها عملية معقدة جدا، من حيث التمويل، ومن حيث بناء الإقتصاد باعتبار أن بناء المخيم لا يحتاج فقط إلى الحجر بل إلى إشراك البشر في عملية بنائه. وبحسب مصادر الأونروا فإن تقديم الإغاثة والنهوض بـ 5500 عائلة يحتاج سنويا إلى 15 مليون دولار سنويا. والجدير ذكره أن ما اتفق عليه في مؤتمر فينا لدعم إعمار مخيم البارد لم تلتزم به الدول العربية المانحة باستثناء المملكة العربية السعودية من خلال الصندوق السعودي للتنمية الذي تبرع بـ25 مليون دولار أمريكي لبناء وحدات سكنية وغير سكنية في الرزمة الثانية والثالثة من مخيم نهر البارد القديم.

من جهة أخرى، يشكل المخيم تحديا سياسيا كبيرا للاجئين الفلسطينيين في لبنان، إذ أنه أول مخيم يهدم و"يعاد بناؤه". ولأول مرة لا يشارك اللاجئون في عملية إعادة البناء على خلاف ما حصل في مخيم عين الحلوة عام 1982 ومخيم شاتيلا عام 1985.

" في البارد بيتي... وتصريحي ليس هويتي"، شعارات رفعها أهالي مخيم نهر البارد، كتعبير عن حقهم في الدخول إلى المخيم وإعادة إعماره في أسرع وقت ممكن، إلا أن المخيم النموذجي حديث الولادة ما يزال كما تزال العلقة في الرحم، غير مكتملة التكوين ولا التصوير. في المقابل تتشدق بعض الأفواه بالحديث عن نهر البارد وتربط إعادة إعماره بعملية التوطين. إلا أن أهالي نهر البارد، كما أهالي سائر المخيمات يصرون على تسريع عملية الإعمار اليوم قبل الغد ويرون في ذلك تعزيزا لحقهم في العودة. ولعل أبلغ رد سمعته على لسان أحد التجار حين سألته إذا ما كان يحب العودة الى قريته في فلسطين" دير القاسي". وكان مخيم نهر البارد يومها لا يزال بعزه_ مركزا تجاريا قائما بذاته_ أشار إلى البناية التي يقطنها، قال:

شايف هاي البناية اللي إحنا فيها؟ (حيث كنا نجلس) وهذيك وهذيك اللي جنبا؟ (أشار الى بنايتين بقربهما أيضا)... "هدول ما كانوا عندي لما اجيت على لبنان. أنا اشتغلت وعمرتهن بتعبي وعرقي، بتركهن باثاثهن وبما فيهن هدية مني للبنان وبرجع حافي على ديرالقاسي.

وآخر لمعت عيونه وهو ويردد بضع كلمات من النشيد الوطني الفلسطيني، وهو يؤكد لنا عن حقه في العودة: "فلسطين داري ودرب انتصار، سأحيا فدائي، وأمضي فدائي، وأقضي فداء إلى أن أعود".
__________________
*ميس الصفدي وسمير قاسم: ناشطان في الدفاع عن المخيمات/ النمسا.