د. محمد المجذوب*

إنّ مسألة التوطين والخلفيّات والنيّات الكامنة وراءها تشغل البال حالياً في لبنان، على الصعيدين: الرسمي والشعبي. والمؤسف أنّ المؤيّدين والمعارضين للتوطين يتناسون القرار الدولي 194، الذي ينصّ على وجوب إعادة اللاجئين الفلسطينيين "في أقرب وقت ممكن" إلى ديارهم وجبر أضرارهم. والقرار صادر، في العام 1948، عن الجمعية العامّة للأمم المتحدة التي تمثّل الأسرة الدولية، ويعالج مسألة إنسانية مصيرية تستمدّ أهميتها من القواعد المعاصرة للقانون الدولي التي تحرّم اغتصاب أو احتلال أو ضم أراضي الغير، واستعمال القوة في العلاقات الدولية، وطرد شعب آمن من وطنه، والحؤول دون عودته إلى هذا الوطن، وممارسة حقه في تقرير مصيره بعد زوال نظام الانتداب.

 

وفي خضم الاهتمام بالتوطين لا يتنبّه الكثيرون إلى ثلاثة أمور مهمّة:
الأوّل: وجوب التمييز بين مسألة التوطين ومسألة الحقوق المدنية والاجتماعية والإنسانية للاجئين.
والأمر الثاني: وجوب التدخل لتأمين استمرار وكالة (الأونروا) في القيام بواجبها الإنساني تجاه اللاجئين قبل عودتهم، لأن استمرار هذا الدور لا يشكّل لهؤلاء نوعاً من الحماية الدولية فحسب، بل ينطوي من قبل المجتمع الدولي على التزام سياسي وقانوني وأخلاقي بحلّ قضيتهم على أساس العودة، فقرار إنشاء وكالة (الأونروا)، الصادر عن الجمعية العامة في 8/12/1949، ارتبط منذ البداية (ولا يزال يرتبط) بالفقرة 11 من القرار 194 (وجوب العودة ودفع التعويضات) الصادرة أيضاً عن الجمعية العامة. والجمعية، في قرارها إنشاء الوكالة، تُذكّر بالفقرة 11 من القرار 194، وتعترف في الفقرة الخامسة منه "بأنّه من الضروري استمرار المساعدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين، بغية تلافي أحوال المجاعة والبؤس بينهم، ودعم السلام والاستقرار، مع عدم الإخلال بأحكام الفقرة 11 من قرار الجمعية العامة، رقم 194". وكل ذلك يفرض استمرار (الأونروا) في أداء رسالتها الإنسانية والاجتماعية حتّى تحقيق عودة اللاجئين إلى ديارهم.
والأمر الثالث: هو أنّ قضية اللاجئين تعكس جوهر الصراع العربي – الاسرائيلي وتحدّد مستقبله. ومن المستحيل التوصّل إلى تسوية بين العرب والاسرائيليين إذا لم تُعالج هذه القضية من مختلف جوانبها. ويعدّ حق العودة حجر الزاوية فيها. وإن كان للفلسطينيين مطالب فحقّ العودة يتصدّرها. وسيُمنى بالفشل كل اتفاق بين اسرائيل والمفاوضين الفلسطينيين إذا تجاهل مسألة العودة، أو إذا اكتفى بمعالجة نتائج حرب 1967.

عدم الاهتمام عربياً بحق العودة:

الأمر المستهجن في المواقف العربية، وخصوصاً الفلسطينيّة، هو عدم الاهتمام اللازم بحق العودة. فالاتفاقات غير المتكافئة التي وُقّعت مع العدو الصهيوني لا تتضمن أي اشارة إلى حق العودة. وكل ما نعثر عليه في البند الثالث من المادّة الخامسة من (إعلان المبادئ) هو أن المفاوضات اللاحقة حول الوضع الدائم ستعالج قضايا عدّة، منها وضع اللاجئين. ولكن المادة 12 تتحدّث عن مهجّري العام 1967 فقط، وتنص على إنشاء لجنة تشارك فيها مصر والأردن لمعالجة أمر عودتهم.

وبعد اتفاق أوسلو العام 1993، عقدت اللجنة عدة اجتماعات لم تحرز أي تقدم، حيث أصرت إسرائيل على تعريف النازح الفلسطيني بأنّه ذاك الذي غادر الضفة الغربية خلال حرب العام 1967، وأبدت استعدادها على عودة 200 ألف فقط، وبمعدل أربعة آلاف في السنة. وهذا يعني، إذا افترضنا توقّف عملية التناسل الطبيعي لدى الفلسطينيين وبرّأنا العدو من الكذب والخداع، أن عودة المئتين ستستغرق خمسين عاماً.

وموقف إسرائيل من مسألة التوطين، أي استحالة العودة بالنسبة إليها، لا يمكن أن يُفهم إلا إذا اطّلعنا على العقيدة الصهيونية القائمة على قاعدتين أساسيتين متلازمتين ومتساويتين من حيث الأهمية: قاعدة السيطرة على ما يسمونه (أرض الميعاد) أو (أرض إسرائيل)، وقاعدة تطهير هذه الأرض من سكانها العرب باقتلاعهم أو تهجيرهم من أجل إحلال اليهود الوافدين محلّهم. ولهذا يعتبر مشروع التوطين، منذ بداية التهجير، مشروعاً صهيونياً عنصرياً يرمي إلى طمس معالم فلسطين وأهلها، والحؤول دون عودة النازحين والمهجرين كي لا يتعرض الكيان الصهيوني إلى مخاطر الاختلال في التوازن.

ونلاحظ أنّه، منذ الأشهر الأولى لإعلان قيام دولة اسرائيل، بدأت ورشة العمل للبحث عن سبل التوطين في الأقطار العربية. ففي العام 1949، تألّفت بعثة برئاسة الخبير كلاب Clapp لاستقصاء السبل الصالحة للتوطين. وأصدر المركز الملكي للدراسات الدولية في لندن (وهو وثيق الصلة بالخارجية البريطانية) دراسة بعنوان: " اللاجئون العرب: مسح لامكانات التوطين". وقُدّمت مشاريع انمائية لتسهيل التوطين، كمشروع مخطط مين - كلاب Main-Clapp Plan، ومشروع ايريك جونستون E- Johnston، في عامي 1953-1955، ومشروع الأمين العام السابق للأمم المتحدة، داغ همرشولد في العام 1957. وبدأت وكالة (الأونروا) منذ العام 1951، وبدعم من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بوضع خطط عدة لاستصلاح الأراضي في وادي الأردن وسيناء وغيرهما من أجل توفير فرص العمل وتسهيل الاندماج الاقتصادي للاجئين في بلاد النزوح، كما أجرت مفاوضات مع بعض الزعماء العرب، مصحوبة بالاغراءات، لقبول توطين أعداد كبيرة من هؤلاء اللاجئين في بلادهم. وقامت الوكالة، في السنوات الأخيرة، بحملة ترويج لفكرة تصفية أعمالها تدريجيا. ففي العام 1995، حدّدت ما سُمّي بمنظور الخمس سنوات كفترة انتقالية تنتقل مهمات الوكالة بعدها إلى الدول المضيفة. وكانت اسرائيل من أشد المشجعين لانهاء عملها، لأن ذلك، إن تحقّق، يؤدي إلى سحب ورقة اللاجئين من التداول، عربياً ودولياً.

وتبذل الدول الكبرى، بزعامة واشنطن وبتوجيه من إسرائيل، جهوداً جبارة لتسويق مشاريع التوطين. وهي توفد سنوياً شخصيات سياسية بارزة إلى المنطقة العربية لتعرض، تحت غطاء الزيارة واستطلاع الأوضاع، مشاريع مبطّنة بالدعوة إلى التوطين. ومشروع القريعة (أي إسكان اللاجئين الفلسطينيين في إحدى المناطق اللبنانية) كان محاولة لجسّ نبض السلطة اللبنانية حول إمكان تقبّل الفكرة، وانعكاسات ذلك على العملية السلمية المزعومة. وكان ذلك ثمرة طبيعية لملف المفاوضات المتعددة.

الرؤساء يرفضون التوطين:

حاز رفض التوطين على إجماع الرؤساء في لبنان على مختلف مستوياتهم. ويكفينا الاستشهاد بمواقف بعضهم:
1. رؤساء الجمهورية: وفي طليعتهم الرئيس السابق العماد إميل لحود، والرئيس الحالي العماد ميشال سليمان، أطلقوا في مناسبات عديدة تحذيراتهم حول الأخطار الناجمة عن أي مشروع للتوطين، واعتبروا أن التوطين يشكل عائقا سياسياً في وجه أيّ سلام عادلٍ وشاملٍ في المنطقة.
2. رئيس المجلس النيابي (نبيه بري) رأى في التوطين وجهاً آخر للاحتلال الاسرائيلي، ووجد أنْ لا معنى لمقاومتنا إذا نفّذنا هذا الهدف.
3. الرئيس السابق لمجلس الوزراء (الدكتور سليم الحص) أعلن الرفض القاطع للتوطين، واعتبر أن الالتزام نحو قضية فلسطين يحفّزنا على المطالبة بعودة الفلسطينيين إلى ديارهم، وأكد أن التوطين مرفوض باجماع اللبنانيين، وأنه دخل اتفاق الطائف ومقدمة الدستور اللبناني نصاً صريحاً.
4. الرئيس السابق لمجلس الوزراء (عمر كرامي) قال إن الاجماع اللبناني على رفض التوطين هو أكبر ضمانة لعدم حصول التوطين، وطلب من اللبنانيين الحذر والتحرك بذكاء ومتابعة هذا الأمر في كل المحافل الدولية.
5. الشخصيات والهيئات الروحية، المسيحية والاسلامية، أدلت بتصريحات مماثلة. فالبطريرك الماروني الكاردينال صفير، حذّر من سقوط معادلة مهندسي الطائف (أي لا تقسيم ولا توطين)، لأن سقوطها يعني سقوط لبنان. وأصدرت الرابطة المارونية مذكرةً حذّرت فيها من مخاطر التوطين ومن محاولات المقايضة تحت ستار المساعدات الانسانية والمالية، لأن الصفقات التي ستعرضها الجهات الضالعة في مؤامرة التوطين تعني بالنتيجة طرح الحق العربي في سوق النخاسة وإقحام لبنان في دائرة مخاطر المتاجرة بالأوطان. وتبنّت المراجع الروحية الاسلامية المسؤولة الموقف ذاته، وصدرت عنها تصريحات وبيانات تنطوي على المخاوف من فرض التوطين.

الفصائل الفلسطينية ترفض التوطين:

أجمعت هذه الفصائل في لبنان على رفض التوطين، وأعربت عن تقديرها لموقف الدولة اللبنانية التي أعلنت رفضها مشروع التوطين على لسان كبار المسؤولين فيها، ودعت إلى التنسيق بين هؤلاء المسؤولين وبين المسؤولين الفلسطينيين لرفض المشروع من أساسه. وقال ممثل حركة (فتح) في لبنان: "لا نريد وطنا بديلاً عن فلسطين. كل فلسطيني يود العودة حافي القدمين إلى وطنه". وأكد مسؤول فلسطيني آخر أن الفلسطينيين ناضلوا من أجل العودة إلى الوطن، وليس من أجل البقاء في لبنان، واعتبر ممثل حركة (حماس) التوطين مقدمة لإلغاء الهوية الفلسطينية، وركيزة أساسية لتصفية القضية الفلسطينية.

الأجهزة والشخصيات الدولية ترفض التوطين:

إن الدول والشخصيات والأجهزة أسرعت، بعد اتفاق الطائف، إلى إعلان دعمها الكامل لهذا الاتفاق ولكل ما تضمّنه من مبادئ ومواقف، ومنها رفض التوطين ونذكر على سبيل المثال:
1. بيان مجلس الأمن الدولي في 7/11/1989 الصادر إثر انتخاب الاستاذ رينيه معوّض رئيساً للجمهورية. فقد تضمن دعما لمسيرة الوفاق الوطني ووثيقة الطائف التي تنصّ صراحة على رفص التوطين.
2. بيان مجلس الأمن الدولي، الصادر في 22/11/1989، إثر اغتيال الرئيس معوّض فقد أكد فيه دعمه، ثانية، لاتفاق الطائف واعتباره دعماً أساسياً وضماناً لحرية لبنان واستقلاله ووحدته.
3. البيان المشترك للدول الخمس الكبرى، في 1/11/1989 فقد رحّب باتفاق الطائف وأكد تصميم الدول الخمس على دعم بسط السيادة التامة للبنان على كل أراضيه.
4. قرار المجلس الأوروبي، في 9/12/1989. فقد كرّر دعمه لاتفاق الطائف والشرعية اللبنانية.
5. تصريح الرئيس الفرنسي (ميتران) ورئيس الوزراء الإيطالي (أندريوتي) في مؤتمر صحافي مشترك في 13/2/1990 فقد اعترفا بالحكومة الشرعية في لبنان وضرورة تنفيذ اتفاق الطائف بسرعة.
6. مختلف الرسائل التي وجهها رؤساء الدول إلى مسؤولين في لبنان، وأيدوا فيها اتفاق الطائف، ودعوا الى احترامه نصاً وروحاً.

ولسنا بحاجةٍ إلى القول إن الدافع الأساسي لهذا الدعم الدولي للبنان يكمن في كون لبنان دولةً معترفاً بها دولياً. والاعتراف بالدولة، في القانون الدولي العام، لا يقتصر على الاعتراف بحدودها وحكومتها ومؤسساتها، بل يشمل كذلك الاعتراف بدستورها وتشريعاتها. والاعتراف بالدستور يشمل مقدمته. والبند (ط) من مقدمته يقع في صلب المبادئ التي يتبنّاها الدستور. والبند ينصّ في نهايته على أنْ "لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين".

والخلاصة أن الجبهة الداخلية في لبنان لا تشكو من أي خللٍ إزاء مسألة التوطين والسبب يعود، في الدرجة الأولى، إلى أن الوجود الفلسطيني لم يعُد يشكّل، كما كان يحصل في الماضي، مادة خلافٍ بين اللبنانيين، على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم. والموقف الدولي لم يعد ينطوي، في الآونة الأخيرة، وكما يبدو من كثرة التصريحات والبيانات، على أيّ خلاف أو تردّد حول مسألة التوطين.

ومع ذلك، وفي الوقت الذي نرفض فيه التوطين، ينبغي لنا أن نبحث عن بدائل وحلول. وليس هناك بديل أفضل، أو حلّ أهم، من حق العودة الذي يجب أن يشكّل قوةً إلزاميةً على الصعيد الخارجي.

حق العودة يرقى إلى مصاف القواعد الدولية الآمرة:

إنّ الأساس القانوني الذي يقوم عليه هذا الحق يتجلّى في الوثائق والمستندات الدولية التي تجعل منه قاعدة آمرة في القانون الدولي العام. والوثائق كثيرة ودامغة وتوحي بثلاث ملاحظات:
الأولى تتعلّق بواقع يتلخّص في إقرار جميع الدول والهيئات الدولية بحق العودة. وبفضل هذا الإقرار الجماعي ارتقى حق العودة إلى مرتبة من الوضوح لا تترك مجالاً للإنكار أو التنكّر.
والثانية تتعلّق بالبعد الجديد لحق العودة، فهذا الحق الذي تنصّ عليه الوثائق الدولية والإقليميّة يعالج حقوقاً فردية، أي حقوقاً تطبّق على أفراد، لا على جماعات وشعوب، في حين أن حق العودة للفلسطينيين يمثّل حقاً جماعياً يشمل الغالبية الساحقة من أفراد شعب طُرد وهجّر. وهذا البعد الجماعي يجعل من حق العودة ركيزة من ركائز حق الشعوب في تقرير مصيرها. فالتنكّر لحق الفلسطينيين، كجماعة أو شعب، في العودة إلى ديارهم، يحول دون ممارستهم حقاً وفّره لهم القانون الدولي المعاصر، وهو حق تقرير المصير.
والملاحظة الثالثة تتعلّق بالقرار 194، الذي تكرّر الاستناد إليه في معظم القرارات الدولية التي تعالج مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. ولم يعُد هناك اليوم شك أو التباس في معناه أو تفسيره. وهو مكوّن من شقين يمثّلان حقّين متلازمين: حق العودة وحق التعويض. وإذا كان البعض يعتبر القرارات الصادرة عن الجمعية العامة مجرّد توصيات غير ملزمة، فإن تكرار القرار 194 أكثر من مرة، وبغالبية ساحقة، يجعل منه قراراً يستمد قوته من إرادة المجتمع الدولي. ولعل هذا القرار يكتسب أهميته البالغة من كون الأمم المتحدة اشترطت على اسرائيل، لدى القبول بعضويتها، تنفيذ هذا القرار وقرار التقسيم.
والخلاصة أن كل المفاوضات والمساومات والتنازلات المجانية الهادفة إلى محاولة حلّ القضية الفلسطينيّة، وإنهاء المآسي والفواجع والمجازر والاعتداءات المتكررة والمتلاحقة، ستبقى ناقصة أو هشّة أو خادعة أو مؤقتة ما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، وأهمّها حق العودة الكريمة إلى أرض الوطن.

---------------------------------------------------------------------------------
* د. محمد المجذوب: رئيس الهيئة الإدارية في مركز حقوق اللاجئين/عائدون