الوجود الفلسطيني في لبنان بين الماضي والحاضر: حالة حصار

بقلم: جابر سليمان*

مقدمة

منذ حوالي ستة عقود يعيش اللاجئون الفلسطينيون في لبنان وخاصة سكان المخيمات أوضاعاً معيشية بالغة الصعوبة تتنافى مع أبسط معايير الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان الأساسية. وبشكل عام يتعرض الفلسطينيون في لبنان إلى أشكال عدة من التهميش: التهميش على صعيد المكان Spatial Marginalization الذي حول المخيمات الفلسطينية إلى جزر شبه معزولة عن محيطها السكاني وظيفتها احتواء اللاجئين بوصفهم مصدر خطر وتهديد محتملين للمجتمع المضيف.

 

وقد ساهمت بعض وسائل الإعلام في الترويج لهذه النظرة إلى المخيم وتغذيتها باستمرار. وهناك التهميش الاقتصادي Economic Marginalization الذي يفرض قيوداً صارمة على حق الفلسطينيين في العمل والضمان الاجتماعي وكذلك التهميش المؤسساتي Institutional Marginalization الذي يستبعد الفلسطينيين من مؤسسات الحياة الاجتماعية والثقافية.

وغالباً ما ارتبط هذا التهميش للمجتمع الفلسطيني بتاريخ من العنف والتهجير. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن المجتمع الفلسطيني في لبنان قد تعرض إلى تهجير داخلي متواصل بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتعاقبة (1978، 1982، 1993، 1996، 2006) على لبنان، وأيضاً بسبب الحروب الداخلية كالحرب الأهلية (1975 - 1991) وحرب المخيمات (1985 - 1989).

هناك من يعتقد أن الدولة اللبنانية بسياستها هذه تجاه الفلسطينيين قد نجحت في لفت انتباه المجتمع الدولي وكسب تفهمه لمخاوف لبنان من توطين اللاجئين الفلسطينيين مع ما يترتب على ذلك من إخلال بالتوازن الطائفي الدقيق وصيغة العيش المشترك التي أعاد اللبنانيون تأكيدها في اتفاق الطائف. وبغض النظر عن مدى صحة هذا الاعتقاد إلا أنه بات من المؤكد أن سياسة الدولة اللبنانية تجاه الوجود المدني الفلسطيني في لبنان قد أساءت على نحو بالغ إلى صورة لبنان على الصعيد الدولي في ما يتعلق بموقفه من حقوق الإنسان، وخاصة أن لبنان كان من بين طليعة الدول التي ساهمت في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وأكثر من ذلك فقد طغت سلبيات هذه السياسة على الجوانب الإيجابية في علاقة الدولة اللبنانية بالفلسطينيين في بعض المراحل التاريخية السابقة، كما طمست التضحيات الكبيرة التي قدمها لبنان من أجل القضية الفلسطينية.

وقد مرّ الوجود الفلسطيني والعلاقات اللبنانية-الفلسطينية منذ العام 1948 بمراحل تاريخية متفاوتة تراوحت بين صعود وهبوط، وراكمت بعض الإيجابيات كما أفرزت بعضاً من السلبيات والهواجس المتبادلة التي بلغت ذروتها في أزمة مخيم نهر البارد (2007). هذا ويمكن تقسيم تاريخ هذا الوجود إلى المراحل التالية:

مرحلة التكيف والأمل (1948-1958):

بدأت هذه المرحلة بنزوح الفلسطينيين إلى لبنان وانتهت باندلاع ثورة عام 1958. وتميزت بداياتها بترحيب لبناني رسمي وشعبي بلجوء الفلسطينيين إلى لبنان عكسه آنذلك موقف رئيس الحكومة اللبناني رياض الصلح، وعبر عنه بشكل واضح وصريح وزير الخارجية حميد فرنجية الذي قال في ذلك الحين: "سنستقبل في لبنان اللاجئين الفلسطينيين مهما كان عددهم ومهما طالت إقامتهم. ولا يمكننا أن نحجز شيئاً عنهم، ولا نتسامح بأقل امتهان يلحقهم دوننا... وسنقتسم فيما بيننا وبينهم آخر لقمة من "الخبز" (من محضر الجلسة السابعة لمجلس النواب اللبناني، 2115/1948).

وقد تميزت هذه المرحلة بقدر نسبي مقبول من حرية التعبير السياسي والتنظيمي وبتوفير فرص العمل للاجئين الفلسطينيين في مرحلة الفورة الاقتصادية التي شهدها لبنان في عقد الخمسينيات.

مرحلة القمع والتهميش (1958-1969):

بدأت هذه المرحلة بعد ثورة 1958 ضد الرئيس كميل شمعون التي جاءت بالجنرال فؤاد شهاب إلى السلطة، وانتهت بما سمي "انتفاضة المخيمات" عام 1969 ضد إجراءات القمع العسكري التي فرضها "المكتب الثاني" -جهاز أمن تابع للجيش اللبناني- وبتوقيع اتفاقية القاهرة بضغط من مصر عبد الناصر آنذلك. وقد شرّعت هذه الاتفاقية، بل نظمت العمل الفدائي الفلسطيني من لبنان ضد إسرائيل، كما نصت مادتها الأولى على ضرورة منح الفلسطينيين حقوقاً أساسية فيما يتعلق بالعمل وحرية الحركة والتعبير السياسي والتنظيمي.

وتميزت نظرة العهد الشهابي للفلسطينيين بالريبة والشك. واتخذت محاولات تنظيم الوجود الفلسطيني وضبطه طابع التهميش والإكراه والقمع من خلال حظر النشاطات السياسية والإعلامية والنقابية في المخيمات ومطاردة القائمين بها وزجهم في السجون.

مرحلة الازدهار وبناء المؤسسات (1969-1982):

وفرت اتفاقية القاهرة للفلسطينيين في لبنان حرية ممارسة النشاط العسكري والسياسي والتنظيمي، فضلاً عن النشاط النقابي وحرية تشكيل الاتحادات المهنية وإنشاء المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وعلى الرغم من أن اتفاقية القاهرة قد نصت على حق العمل والإقامة والتنقل بالنسبة للفلسطينيين المقيمين في لبنان، إلا أنها كانت في جوهرها اتفاقية أمنية / عسكرية، شرعت الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان وممارسة الكفاح المسلح ضد إسرائيل. وكانت نتيجتها الخالصة أن تمتعت المخيمات الفلسطينية للمرة الأولى منذ إنشائها بإدارة ذاتية.

وشهدت هذه المرحلة اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 وتراجع "القوة الإكراهية" للدولة وتقلص سلطاتها لصالح الميليشيات المتحاربة من كل الأطراف. ومنذ اندلاع الحرب الأهلية وحتى العام 1982 نما الوجود الفلسطيني في لبنان على كل المستويات وإلى حد كبير. وبلغ هذا النمو ذروته قبيل خروج (م.ت.ف) من لبنان عام 1982، حيث تحولت المنظمة في المناطق التي تواجدت فيها إلى ما يشبه "الدولة" ضمن الدولة.

مرحلة الانحسار وانهيار المؤسسات (1982-1989):

بدأت هذه المرحلة بخروج (م.ت.ف) من لبنان إثر الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وانتهت بتوقيع اتفاق الطائف وعودة السلم الأهلي إلى لبنان. وقد تميزت هذه المرحلة بانهيار مؤسسات (م.ت.ف) التشغيلية وبتراجع الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية التي كانت توفرها مؤسسات (م.ت.ف) والفصائل للشعب الفلسطيني، مما زاد من حدة الأزمة المعيشية لسكان المخيمات خاصة. وقد أدى هذا إلى بروز دور منظمات المجتمع الأهلي الفلسطيني وتعاظمه من أجل سد النقص والتعويض عن دور مؤسسات المنظمة في تقديم مختلف الخدمات. لكن حجم الحاجات كان أكبر بكثير من الإمكانات المحدودة لمنظمات المجتمع الأهلي.

وشهدت هذه المرحلة أيضاً حدثين مأساويين، بل جريمتين ارتكبتا بحق سكان المخيمات وهما: مجزرة صبرا وشاتيلا (أيلول / سبتمبر 1982) التي ارتكبتها الميليشيات اللبنانية المسيحية بتواطؤ مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، وحرب المخيمات التي شنتها ميليشيا حركة أمل في منتصف أيار / مايو 1985 واستمرت حتى كانون الأول / يناير 1988، والتي كان من نتيجتها تدمير أقسام واسعة من بعض المخيمات وقتل المئات من سكانها العزل. وقد توقفت هذه الحرب بفضل اندلاع الانتفاضة الأولى في فلسطين أواخر عام 1987.

مرحلة الإهمال المتعمد (1989-2005):

بدأت هذه المرحلة بتوقيع اتفاق الطائف وامتدت إلى ما بعد توقيع اتفاقية أوسلو وصولاً إلى تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري (شباط 2005) هذا الحدث الذي دشن مرحلة جديدة في تاريخ لبنان المعاصر لا نزال نعيش تداعياتها على كافة الصعد.

وقد شهدت هذه المرحلة استئناف الحوار المقطوع بين الدولة اللبنانية و(م.ت.ف) منذ إغلاق مكتبها في بيروت عام 1982 وإلغاء اتفاقية القاهرة من جانب واحد هو الجانب اللبناني.

ولهذا الغرض تشكلت لجنة وزارية لبنانية من وزير العمل والشؤون الاجتماعية عبد الله الأمين ووزير الزراعة شوقي فاخوري. وفي المقابل تشكل وفد فلسطيني موحد يمثل (م.ت.ف) وفصائل المعارضة. وقد قدم الوفد الفلسطيني الموحد إلى اللجنة الوزارية اللبنانية في لقائهما الأول (أيلول / سبتمبر 1991) مذكرة بعنوان "الحقوق المدنية والاجتماعية للفلسطينيين في لبنان". وعلى الإثر طلب الجانب اللبناني مهلة زمنية لدراسة المذكرة، لكنه لم يرد على المذكرة أبداً. وهكذا علق الحوار اللبناني / الفلسطيني الذي لم يكد يبدأ بعد. وهناك تفسير لهذا الموقف يقول إن الجانب اللبناني لم يشأ تقديم أية تعهدات أو تنازلات بشأن الحقوق المدنية قبل اتضاح نتائج التسوية الإقليمية في إطار مؤتمر مدريد، حيث تشكلت في سياقه مجموعة عمل تعنى باللاجئين Refugee working Group.


بيد أن الحوار قد استؤنف مرة أخرى في عهد الرئيس إميل لحود، حيث قام عضو اللجنة التنفيذية لـ(م.ت.ف) الدكتور أسعد عبد الرحمن بزيارة إلى لبنان في إبريل / نيسان 1999 التقى خلالها الرؤساء الثلاثة وقدم مذكرة إلى نظيره اللبناني، المكلف باستئناف الحوار الدكتور عصام نعمان.

طالبت المذكرة الموقعة بتاريخ 25/4/1999 الدولة اللبنانية بإصدار تشريعات تمنح الفلسطينيين حقوقاً مدنية واجتماعية. وقد بدا للوهلة الأولة أن هذه الخطوة تشكل انفتاحاً جدياً من قبل الدولة اللبنانية باتجاه الحوار حول حقوق الفلسطينيين الأساسية إلا أنها كسابقتها انتهت بخيبة أمل فلسطينية، إذ لم تستجب الدولة اللبنانية لأي من المطالب الواردة في المذكرة، نظراً لغياب الإرادة السياسية لمعالجة هذا الملف. وهكذا علق الحوار مرة أخرى.

وعلى العكس من ذلك شهدت هذه المرحلة تراجعاً في الحقوق الممنوحة للفلسطينيين حتى ذلك الحين، بل انتهاكاً صارخاً لهذه الحقوق. وتمثل ذلك في صدور المرسوم رقم 478 للعام 1995 الذي فرض على الفلسطينيين من المقيمين في لبنان الراغبين في المغادرة والعودة إليه الحصول على تأشيرة دخول من أحد القنصليات اللبنانية في الخارج. كما صدر القانون 296 للعام 2001 الذي عدل قانون تملك الأجانب، بحيث حرم الفلسطينيين المقيمين في لبنان حتى من مجرد امتلاك شقة سكنية بذريعة محاربة التوطين. واستمرت مرحلة الإهمال المتعمد هذه إلى العام 2005 الذي تم في بداياته اغتيال الرئيس رفيق الحريري حيث بدأت مرحلة أخرى جديدة من مراحل رحلة العذاب الفلسطيني في لبنان.

المرحلة الحاضرة أو المشهد الحالي:

بدأت هذه المرحلة في أعقاب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وشهدت انفتاحاً كبيراً على منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية وفصائل العمل الوطني الفلسطيني بشكل عام. وقد توج هذا الانفتاح بعدد من الخطوات الملموسة أهمها: زيادة كثافة الاتصالات بين الدولة اللبنانية من جهة والمنظمة والسلطة والفصائل من جهة أخرى؛ إنشاء لجنة خاصة تحت رئاسة مجلس الوزراء اللبناني مهمتها إجراء الحوار مع الجانب الفلسطيني، سميت "لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني" (تشرين الأول / أكتوبر 2005)؛ إعادة فتح مكتب منظمة التحرير في بيروت (أيار / مايو 2006).

وبذلك بدا أن الدولة اللبنانية باتت مستعدة لمناقشة ملف الوجود الفلسطيني في لبنان بطريقة أكثر عقلانية وتفهماً لظروف المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في لبنان. وجاءت الحرب على نهر البارد (أيار / مايو 2007) تحت شعار محاربة الإرهاب ممثلاً بحركة فتح الإسلام لتوجه ضربة قاصمة إلى مبادرة الحوار هذه، إذ تسببت هذه الحرب في تدمير مخيم نهر البارد بالكامل وتشريد سكانه كافة. وحتى اليوم وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على انتهاء تلك الحرب لم يتم إعمار نهر البارد ولم تتم عودة سكانه إليه على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها الأونروا والمجتمع الدولي، وذلك بسبب عدم توافر الأموال الكافية لإتمام عملية الإعمار. وفي واقع الحال إن النظرة الأمنية للمخيمات من قبل الدولة اللبنانية بما في ذلك مخيم نهر البارد شكلت وتشكل العقبة الأساسية أمام إتمام إعمار المخيم وعودة سكانه إليه، حيث لا يزال موقع المخيم الأصلي ومحيطه منطقة أمنية يفرض عليها الجيش اللبناني قيوداً صارمة فيما يتعلق بحرية حركة السكان منها وإليها.

ولم توقف حرب نهر البارد وتداعياتها جهود المجتمعين الأهليين الفلسطيني واللبناني ومنظمات حقوق الإنسان الأخرى من أجل مناصرة الحقوق الأساسية للفلسطينيين في لبنان، والضغط على الدولة اللبنانية من أجل إحقاق هذه الحقوق، بل على العكس من ذلك فقد تكثفت هذه الجهود بشكل ملموس ونجحت في خلق مناخات عامة في أوساط النخبة اللبنانية لتقبل مناقشة هذه المسألة بعقل مفتوح. وكانت مسيرة 17 حزيران 2010 لدعم حقوق الفلسطينيين التي توجهت إلى البرلمان اللبناني من كافة المخيمات والتجمعات الفلسطينية والتي شارك فيها أكثر من مائة جمعية أهلية لبنانية وفلسطينية مثالاً ساطعاً على حيوية المجتمعين الأهليين اللبناني والفلسطيني في دعم حقوق الفلسطينيين. (انظر: هيفاء جمال، مقالة: حملات الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين في لبنان، المقالة الخاصة بهذا الموضوع في مكان آخر من هذا العدد).

وجاء البيان الوزاري لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة سعد الحريري (2/12/2009) ليؤكد على ضرورة تحسين الظروف المعيشية للاجئين الفلسطينيين في لبنان والتخفيف من معاناتهم إلى حين التوصل إلى حل عادل ودائم لمشكلة اللاجئين على أساس تطبيق حق العودة وفقاً للقرار 194.

وفي ظل هذه المناخات طرح أكثر من حزب لبناني اقتراحات قوانين على البرلمان لمعالجة مسألة الحقوق الفلسطينية بالتركيز على حقي العمل والتملك. وهذه الأحزاب هي: الحزب التقدمي الاشتراكي؛ الحزب السوري القومي الاجتماعي؛ تكتل 14 آذار ممثلاً بتيار المستقبل والقوات اللبنانية (انظر نصوص هذه الاقتراحات في مقالة سري حنفي في مكان آخر من هذا العدد).

وفي جلسته العامة بتاريخ 17/8/2010 ناقش البرلمان اللبناني اقتراح القانون المقدم من الحزب الاشتراكي في شقه المتعلق بحق العمل وأجل النقاش في الشق الآخر المتعلق بحق التملك إلى أجل غير مسمى لارتباط حق التملك في نظر بعض المشرعين اللبنانيين بملف التوطين.

وكانت نتائج الجلسة مخيبة لآمال اللاجئين الفلسطينيين واللبنانيين الداعمين لحقوق الإنسان الفلسطيني في لبنان، فضلاً عن تطلعات نشطاء منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، إذ صادق البرلمان على قانون يعدّل المادة (59) من قانون العمل اللبناني والمادة (9) من قانون الضمان الاجتماعي (انظر نص القانون في مكان آخر من هذا العدد). وجاءت التعديلات ملتبسة ولم تلبِّ الحد الأدنى المطروح في اقتراحات القوانين الثلاثة المذكورة وحتى أدناها سقفاً:
• أبقت التعديلات على شرط حصول العامل الفلسطيني على إجازة العمل بوصفه أجنبياً في نظر القانون اللبناني، لكنها أعفت هذا العامل من رسوم الإجازة، علماً بأن العامل الفلسطيني وفقاً لقرارات وزارية سابقة كان يدفع 25% فقط من قيمة هذه الرسوم. كما أبقت التعديلات على شرط تقديم المستندات الواجب تقديمها إلى وزارة العمل للحصول على الإجازة، أي أنها حافظت على الآلية السابقة التي تجعل العامل الفلسطيني يدور في حلقة مفرغة بين وزارة العمل ورب العمل والتي تعرضه لابتزاز أرباب العمل واستغلالهم. في حين كان المطلوب إلغاء إجازة العمل بالنسبة للفلسطيني أو على الأقل إعفاؤه من تقديم المستندات اللازمة للحصول عليها.
• أبقت التعديلات على الحظر المفروض على مزاولة الفلسطينيين للمهن الحرة مثل الطب والمحاماة والهندسة وغيرها، حيث أنها لم تلغِ شرط المعاملة بالمثل الذي لا يمكن تطبيقه في الحالة الفلسطينية بسبب عدم وجود دولة فلسطينية تطبق هذا المبدأ بالنسبة للرعايا اللبنانيين. وبهذا لم يترك للفلسطينيين سوى مزاولة المهن اليدوية والمكتبية بشرط الحصول على إجازة العمل علماً بأن السماح بمزاولة هذه المهن بالنسبة للأجانب بما فيهم الفلسطينون هي من صلاحيات وزراء العمل أنفسهم ولا تحتاج إلى تشريع من المجلس النيابي.
• بالنسبة للضمان الاجتماعي، سمحت تلك التعديلات للعامل الفلسطيني المنتسب إلى صندوق الضمان الاستفادة من صندوق تعويضات نهاية الخدمة التي يساهم فيها العامل نفسه ورب العمل بعدما كان العامل الفلسطيني يدفع مساهمته في الصندوق من دون أن يكون له حق الاستفادة من هذه التعويضات. وفي المقابل لم تسمح التعديلات للعامل الفلسطيني المنتسب إلى صندوق الضمان الاستفادة من فرعيه المتعلقين بالتعويض العائلي والأمومة والمرض.

وهكذا التف المشرع اللبناني على حقوق الفلسطينيين الأساسية وتمكن من إفراغ اقتراحات القوانين المقدمة إلى البرلمان من مضمونها الفعلي ليس فقط فيما يتعلق بحق العمل بل فيما يتعلق بحق التملك الذي أرجئت مناقشته إلى أجل غير مسمى حيث جرى ربطه على نحو مضلل بفزاعة التوطين وإدخاله في سوق المزايدات اللبنانية والبازار السياسي اللبناني.

وإن ما يزيد الطين بلة ويبعث على الريبة أن بعض الجدل الذي رافق مناقشات البرلمان اللبناني في هذا الشأن أظهر قدراً كبيراً من التضليل والتحامل والعنصرية ضد الفلسطينيين. وفي هذا السياق، صرح أكثر من نائب من نواب الكتل المسيحية خاصة أن هذا هو كل ما يمكن منحه للفلسطينيين من تسهيلات لتخفيف معاناتهم الإنسانية، غير معترفين بوجود حقوق للفلسطينيين يتوجب مناقشتها أصلاً. وهذا ما يبقي الجرح الفلسطيني في لبنان مفتوحاً ونازفاً لأمد غير معلوم في ظل تغيير الأولويات الوطنية اللبنانية في المرحلة الحالية وغياب الإجماع اللبناني على القضايا الوطنية الأساسية ومنها قضية المحكمة الدولية ودور المقاومة. الأمر الذي يجعل الملف الفلسطيني غير ذي أولوية.

يفرض هذا الوضع المؤلم على منظمات المجتمعين الأهليين الفلسطيني واللبناني ومنظمات حقوق الإنسان المعنية مواصلة جهودها في مناصرة حقوق الإنسان الأساسية بالنسبة للفلسطينيين في لبنان تحت شعار "بدنا نعيش بكرامة حتى العودة".

--------------------------------------------------------------------------------------------------------
*جابر سليمان: باحث في دراسات اللاجئين ومنسق مركز حقوق اللاجئين في لبنان/عائدون.