حق العودة الفلسطيني وحقوق اليهود الإسرائيليين

بقلم: ميخائيل وارشوفسكي (ميكادو)*

حين طلب مني أن أحاول الإجابة على السؤال: "كيف يمكن أن يتناسب حق عودة اللاجئين الفلسطينيين مع حقوق السكان الإسرائيليين؟"، شعرت للوهلة الأولى بأن السؤال بحد ذاته هو نوع من التحدي لحق العودة الفلسطيني وخطوة (صغيرة) باتجاه الخطاب الصهيوني.

حق اللاجئ في العودة إلى بلده واستعادة أملاكه هو حق غير قابل للتصرف ولا يخضع للتفاوض، وأنا لست ساذجا وأعرف ما يكفي من التاريخ بحيث لا يمكنني تجاهل السوابق التي تم فيها التفاوض بشأن حقوق اللاجئين في إطار تسويات سياسية تمت بمشاركة دول متعددة. ومع ذلك، ومن وجهة نظر أخلاقية؛ فإن حق اللاجئين في العودة إلى وطنهم هو حق غير قابل للتصرف.

لا يوجد اتفاق!

لقد أنتجت عملية أوسلو سلسلة طويلة من "الاقتراحات البناءة"، وهذا التعبير هو كناية عن التنازلات التي فرضت على القيادة الوطنية الفلسطينية، وأحد هذه الاقتراحات كان الفصل بين حق العودة وبين تنفيذه، وتم اقتراح هذه الصفقة من قبل مفاوضي اليسار الصهيوني، وتم إقراره واعتماده من قبل إدارة كلينتون، ويفيد هذا الاقتراح بالآتي: سوف تعترف إسرائيل بـ"جزء" من المسؤولية التي تخصها في قضية اللاجئين إضافة إلى اعترافها بمبدأ حق العودة، فيما يلتزم الفلسطينيون لإسرائيل بعدم تنفيذ هذا الحق.

وهنا، ينبغي أن يكون جوابنا واضحا تمام الوضوح: لا يوجد أي اتفاق حول مسألة حق العودة، فحق العودة هو الحق بأن لا يكون المرء لاجئا، وبالتالي توافر الإمكانية أمام اللاجئين الفلسطينيين للعودة لبلدهم وديارهم، وكما يحب القيادي الفلسطيني جمال زحالقة أن يقول بطريقته المعروفة بروح الدعابة: خذوا الحق وأعطونا العودة...

من وجهة نظري، أرى أن القيادة الوطنية الفلسطينية قد ارتكبت خطأ فادحا خلال عملية أوسلو في ترك الإسرائيليين يعتقدون بأنه يمكن مناقشة عودة اللاجئين والتفاوض بشأنها والتكيف معها، وبأنه يمكن "تعويض" أو مقايضة حق العودة بالانسحاب الشامل من الأراضي المحتلة عام 1967. يجب إنهاء الاحتلال، يجب تنظيف الأراضي المحتلة من المستوطنات كافة، وينبغي أن يكون اللاجئون قادرين على العودة إلى ديارهم. الموضوع ليس أما/أو، ولكن كلا الأمرين؛ وبخلاف ذلك، لن تكون هناك إمكانية لأية تسوية سياسية؛ ولا أية إمكانية لإقامة تعايش سلمي دائم.

ولهذا السبب بالذات، فإن صيغة "الاعتراف بالحق مقابل عدم العودة" يتوجب رفضها.

مخاوف إسرائيل

لقد استندت التنازلات الفلسطينية على فرضية أن الإسرائيليين لديهم خشية من أن عودة اللاجئين الفلسطينيين سوف تكون نهاية لأي نوع من الوجود القومي الإسرائيلي، وبأنه ينبغي معالجة هذا الخوف من أجل إقناع إسرائيل بإمكانية الوصول لـ"تسوية تاريخية" إسرائيلية – فلسطينية.

لا شك أن هذه المخاوف موجودة بالفعل وينبغي معالجتها، ولكن ليس على حساب الوفاء بالحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، فلا يقوم أحد بالتنازل عن حقوق أساسية من أجل تهدئة مخاوف المنتهكين لهذه الحقوق، إنه ظلم من جهة، وغير فعال من الجهة الأخرى. فاذا كان يخاف المستوطنون من القرويين الفلسطينيين المجاورين لهم، فانه يجب ان يكون من الواضح أن ذلك لا يشكل سببا لترحيل الفلسطينيين من أراضيهم! ولذلك، فإن استيعاب المخاوف الإسرائيلية الحقيقية يجب أن لا يكون على حساب الحقوق الفلسطينية.

ومن أجل التعامل مع المخاوف الإسرائيلية، يتوجب على المرء أن يحاول أولا تحديد تلك المخاوف بأعلى دقة ممكنة؛ وأول هذه المخاوف هو الأكثر وضوحا والأقل عقلانية: التهديد على حياتهم والذي تتم صياغته غالبا باعتباره مشكلة "أمنية"؛ فعلى الرغم من قدرات إسرائيل العسكرية القوية، الدعم الكامل الذي تحظى به من جانب الولايات المتحدة، وجود معاهدتي سلام مع دولتين عربيتين، ووجود سلام بحكم الأمر الواقع مع العديد من الدول العربية الأخرى؛ فإن إسرائيل تخشى على وجودها الفعلي. إنه أمر غير معقول! ولكن المخاوف غير منطقية في كثير من الأحيان، ومع ذلك فهي تبقى مخاوف حقيقية؛ فليس بوسع أية ترتيبات أمنية أن تكون كافية للتغلب على مثل هذه الأنواع من المخاوف، وقد تستغرق ترتيبات السلام الكثير من الزمن حتى تجد آثارها في العقل الإسرائيلي.

والتعامل مع المخاوف الإسرائيلية هو إشكالية على نحو ما: فدولة إسرائيل هي القوة العسكرية الأقوى حتى الآن في كامل منطقة الشرق الأوسط، وهذه القوة ليست مسألة نظرية فقط، بل تمت ممارستها بفعالية ليس على حساب الفلسطينيين وحدهم، وإنما على حساب جميع بلدان المنطقة، والذي ينبغي له أن يخاف بالفعل؛ هم الفلسطينيون، السوريون، المصريون واللبنانيون، الذين ينبغي لهم أن يخافوا من الوحشية الإسرائيلية بالذات.

ومع ذلك، وعلى الرغم من وجود العلاقات الفعلية بين القوى والجهات المختلفة، فإن المجتمع الإسرائيلي يعيش في حالة دائمة من الخوف، والسبب الأول لذلك هو أن دولة إسرائيل محاطة ببيئة عربية، لنقل بالحد الأدنى، لا تحب إسرائيل. وكيف لهذه البيئة أن تفعل ذلك بعد 110 أعوام من الاستعمار العدواني، وبعد ستة عقود من العدوان المتواصل؟ وعلاوة على ذلك، ومنذ أواخر الثمانينات، قام السياسيون الإسرائيليون باستدخال واستيعاب (وحتى ساهموا في تأطيرها بشكل كبير) أيديولوجيا "صدام الحضارات"، مع إعادة تقييم نموذج الدولة "الغربية" في قلب عالم إسلامي معاد، وفي إطار حرب وقائية دائمة ضد الحضارة الإسلامية التي من المفترض أنها تهدد "الحضارة اليهودية – المسيحية". فإذا كانت إسرائيل في حرب دائمة ضد مليار مسلم، بدءا من اندونيسيا وحتى مالي، فإن الخوف هو أكثر من طبيعي! في حرب غير منتهية ضد العالم الإسلامي برمته، فعاجلا أم آجلا سوف تختفي دولة إسرائيل، وسوف يظل الخوف الوجودي جزء لا يتجزأ من الوعي الجماعي الإسرائيلي.

الخطيئة الأصلية

ومع ذلك، هناك بعد ثاني للمخاوف الإسرائيلية، وهو مرتبط بالفلسطينيين على وجه التحديد؛ فهناك النكبة القابعة في اللا- وعي الجماعي الإسرائيلي، فعلى الرغم من كل الإنكار، ومن كل محاولات تزوير التاريخ ما قبل المؤرخين الجدد، فإن الإسرائيلي يعلم في أعماق قلبه، بأن هناك خطيئة أولى أو أصلية: وهي عملية اقتلاع وطرد السكان العرب الأصليين؛ حيث يعيش الرجل والمرأة الإسرائيليان مع أشباح النكبة أربع وعشرين ساعة في اليوم، وفي ظل خوف من عودة المنكوبين، والإسرائيليون يعلمون أنهم سيعودون، وأنه لم يتم التوقيع على اتفاقية، ولا يوجد أية "صفقة" يمكنها إقناع هؤلاء الإسرائيليين بأنه لم يعد هناك ما يخشونه بعد الآن، كما حاول مفاوضو أوسلو أن يفعلوا، فالخوف من العودة منتشر في كل مكان ودائم.

يمكن لـ"الصفقات" أن تكون فعالة في السياسة وفي إقناع الرأي العام؛ ولكنها لا تعمل في مجال اللا- وعي ومع مشاعر الذنب، وهذا هو السبب الذي جعل من صفقات أوسلو ("الاعتراف بالحق بدلا من العودة الفعلية") فاشلة في معالجة المخاوف الإسرائيلية الأساسية، وأية اتفاقيات مستقبلية من نفس النوع ستمنى أيضا بالفشل.

فمن أجل التخلص من المخاوف الإسرائيلية، يحتاج المرء للقضاء على الأشباح الموجودة في العقل الإسرائيلي الجماعي، وإلى تحويل صورة اللاجئ الفلسطيني من شبح إلى إنسان، وبوضوح: ليكف عن أن يكون لاجئا؛ اي بأن يعود إلى وطنه.

بهذا المعنى، وبما يتعارض مع الواقعية الزائفة لتجار أوسلو، فإن عودة اللاجئين الفلسطينيين هي مصلحة إسرائيلية، فقط عودة اللاجئين يمكنها أن تنهي المخاوف الإسرائيلية وتقوم بتطبيع وجود إسرائيل؛ فالمصلحة الإسرائيلية تقتضي حل مشكلة اللاجئين على أساس العدالة والحقوق، وليس على أساس الحل الوسط.

دول عرقية ونماذج بديلة

إن عودة اللاجئين قد تعرض للخطر المجتمع اليهودي الإسرائيلي في أن يكون له وجوده القومي الخاص، وكثيرا ما يتم طرح هذه المسألة، وهي بحاجة لمعالجة؛ فبالنسبة لليهود الإسرائيليين هم ليسوا أفرادا فقط، وإنما جماعة قومية تستحق ليس الاعتراف بها كذلك فحسب، ولكن لها أيضا حقوق جماعية يتوجب معالجتها والوفاء بها. ومن أجل القيام بذلك بالطريقة الاختيارية، فعلى المرء أن يتخلص من مفهوم "الدولة الإثنية" (العرقية)، وهو المفهوم الذي ورثته الصهيونية عن القومية الأوروبية في مطلع القرن التاسع عشر. بحسب القومية الأوروبية، فإن الحياة الطبيعية تعني التجانس الإقليمي، أمة واحدة دولة واحدة، وأيضا: دولة واحدة أمة واحدة، وكلما كانت الدولة متجانسة عرقيا/مذهبيا، كلما كانت أفضل. دولة للسلوفينيين، دولة لليونانيين، وأخرى للصرب ودولة للفلاميين ... ألخ، وينبغي لهذه الدول أن تكون "نقية عرقيا" إلى أقصى حد ممكن. وبحكم التعريف، فإن "الآخر" يعني مشكلة، ويمكنه أن يتحول إلى تهديد: التطهير العرقي متأصل في تلك الفلسفة السياسية حول الأمة، وقد تم اعتماده كليا من قبل مفكري وقادة الحركة الصهيونية. وبذلك المعنى، فإن التطهير العرقي لفلسطيني عام 1948 متأصل في خطة التقسيم، مثلما كان عليه التطهير العرقي في الهند في نفس الفترة.

وإذا كان أحد يرغب في حل الصراع في فلسطين، فإن عليه أن يتخلص أولا من الإطار المفاهيمي للدول العرقية، وان ينظر إلى نماذج بديلة، وهذه النماذج موجودة، وإحداها هو النموذج الفرنسي (ودولة جنوب أفريقيا بعد الأبارتهايد)، نموذج الدولة التي تتعامل فقط مع أفراد، وتتجاهل الجماعات بشكل متعمد؛ شخص واحد، صوت واحد، وأن جميع الانتماءات الدينية، العرقية والقومية لا تتبع أو تنتمي للمجال العام للدولة، ولكنها قائمة على الصعيد الشخصي فقط، وينبغي أن لا يكون لها أية تعبيرات أو تمثيل في هياكل الدولة.

قوة المشاعر الوطنية – في المجتمع العربي وكذلك في اليهودي – ووجود الصراع الاستعماري – القومي، وحقيقة أن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يجري في إطار بيئة عربية أقوى – فإن جميع هذه العوامل تجعل من "النموذج الفرنسي" خيارا إشكاليا، مما يتطلب النظر أكثر باتجاه نماذج متعددة – القومية، متعددة – الإثنية (متعددة الأعراق) ومتعددة المذهبية (والطوائف).

لقد قدمت كل من بلجيكا، كندا، ويوغوسلافيا – تيتو صيغا متنوعة؛ حيث الدولة الواحدة تحتوي على مجموعات عرقية مختلفة تمتلك حكما ذاتيا موسعا وسيطرة على حياتها الخاصة، حتى عندما تكون أقليات صغيرة. ويمكن لهذه الأمثلة أن تشكل مراجعا هامة لعملية البحث عن حل في فلسطين يشتمل على إمكانية تطبيق حق العودة للجميع ولكل لاجئ يرغب في العودة إلى وطنه، وفي نفس الوقت يتم في إطارها الوفاء بمتطلبات الوجود القومي للمجتمع اليهودي الإسرائيلي.

باختصار، لا يوجد أي تناقض بين تطبيق حق عودة اللاجئين الفلسطينيين وبين إمكانية وجود قومي يهودي/إسرائيلي في فلسطين، وتكمن المشكلة الحقيقية الوحيدة التي ينبغي حلها للوصول لهذا الحل، ألا وهي ضرورة تصفية الاستعمار، وتصفية البرنامج الاستعماري للمؤسسات الإسرائيلية، والتخلص من العقلية الاستعمارية الإسرائيلية. ومن أجل تحقيق ذلك، مطلوب علاقات جديدة بين القوى والجهات المختلفة، وليس عقد الصفقات الوهمية.

-----------------------------------------------
* ميخائيل وارشوفسكي (ميكادو): كاتب صحفي، ناشط بارز في حركة مقاومة الاستعمار، وعضو مؤسس لمركز المعلومات البديلة.