بقلم: عدي أوفير*

حينما تطرح ذاكرة النكبة بين أوساط اليهود، فإن الإجابات النموذجية تكون عادة الشعور بالتهديد، الإنكار، العدوانية، وفي بعض الحالات الهستيريا. ويظهر بسرعة أن دافع الخوف الحقيقي هو من العودة، وهو خوف حقيقي. إذا اعترفنا بأننا طردناهم، فإننا سنكون مضطرين للسماح لهم بالعودة. هنالك طبعا من لا يقر بحصول النكبة أصلا، وينكر الطرد أو المسؤولية الإسرائيلية على الأقل عن حصولها، وهنالك أيضا من يدعي بأن الطرد قد كُفٍّر عنه عن طريق "طرد" اليهود من الدول العربية.1


بيد أن هذه الحجج لا تزيل الخوف؛ وفي الوقت الذي يجندهم الخوف، فإنهم بطريقة مقابلة يحفظونه. الخوف هو السبب الذي يجعل الإسرائيليين يؤمنون بمثل هذه الحجج. بسبب الخوف، يُمنع شق أي ثقب يظهر منه مطلب العودة.

لماذا تحمل العودة كل هذا التهديد؟ لأنها تعني تدمير الدولة الصهيونية. يقولون أنه بدون أغلبية وجيش يهوديين ودولة يهودية، سيكون اليهود مكشوفين مرة أخرى لخطر الإبادة. والعودة تعني فقدان الأغلبية، وفقدان الأغلبية يعني خطر وقوع هولوكست ثانية. هذا الخطر لا يحتمله اللاجئون الناجون من الهولوكست بأي حال، "لن يتكرر أبدا" ("לעולם לא עוד") [شعار الالتزام بعدم السماح بتكرار الهولوكست]. تعالج ذاكرة النكبة كصدمة مُجندة للتغطية على صدمة أخرى، إنها صدمة الخطيئة الأصلية. لماذا سيطلب اللاجئون العائدون إبادة اليهود؟ ربما لأنهم يبغون انتقاما؟ أو ربما يتعلق الأمر بذاكرة مخفية للخطيئة الأصلية وإسقاطاتها: كانوا سيفعلون بنا ما كنا سنفعل بهم لو كنا مكانهم؟ أو ربما يدور الحديث عن عنصرية وُلدت ذات مرة من خلال شعور بالتهديد والخطيئة، وهي الآن عاملٌ مستقلٌ ينتج بذاته تهديدا جديدا وشعورا جديدا بالذنب وآليات إنكار جديدة؟ من الممكن الاستمرار في تحليل دوافع الخوف اليهودي، ولكن يكفينا في سياق هذا الجدل إثبات مبناه ومواطن قوته.

يتمركز الخوف اليهودي في نهاية المطاف في فقدان الغالبية اليهودية، مما سيتيح "تعريب" إسرائيل. سنكون محاطين بالعرب الذين سيديرون حياتنا، وسينكدون حياتنا، وفي النهاية سيقذفوننا في البحر أو يعيدوننا إلى الغيتو. لماذا يتوجب أن يحدث مثل هذا الأمر؟ لأن العرب هم هكذا. تنضم ذاكرة الهولوكست للعنصرية وتطغى عليها. إن العنصري هو كل شخص سيلجأ في نهاية المطاف إلى الإدعاء التالي بغية تدعيم خطابه: "ليس النظام مسؤولا عن العنف أو يتيحه، وإنما "عقلية" الآخر. فأشخاص من ذوي عقليات معينة سينشئون نظاما خطيرا أو يدعمونه، وسيحاكونه بشكل أكيد. (وبموجب هذا المنطق، هنالك مجال لكي نسأل ما هي "العقلية اليهودية" التي تتيح نظام الاحتلال؟ ولكن هذا السؤال سيكون عنصريا بذات الدرجة. السؤال المطروح هو أي "عقلية يهودية" ينشئها نظام الاحتلال؟).

إن المعارضة اليهودية لعودة لاجئين فلسطينيين، هي ساحقة لدرجة انه من الاستحالة بمكان التفكير جديا ببرنامج سياسي لأقلية تناضل لتغيير معين في النظام. وبالرغم من أن 15 % من المواطنين الإسرائيليين يدعمون العودة على الأقل، ينظر إلى هذا النضال كشأن أقلية هامشية وتائهة. لماذا؟ لأننا لا نحسب المواطنين الفلسطينيين. ولماذا لا نحسبهم؟ الجواب الأكثر تفاؤلا لكونهم من مؤيدي العودة، ولأنهم يمثلون بمجرد وجودهم تجسيدا لتهديد العودة. وبموجب هذا الجواب، سيتم احتساب المواطنين الفلسطينيين فقط في حال توقفوا عن استحضار تهديد العودة من مجرد وجودهم. جوابٌ أكثر تشاؤما سيكون على شاكلة أنه حتى لو تنازل الفلسطينيون عن حلم العودة، فمن المستبعد أن يتم احتباسهم أيضا. بكلمات أخرى، فإن العودة هي سبب تتستر على عنصرية أكثر عمقا.

بين هذا وذاك، فإن الميل الضروري هو للنظر إلى العودة من خلال شخصية العربي، وعلى العربي من خلال شخصية العودة، وهي متعلقة أقل بما يقوله العربي وأكثر بما يتخيلها اليهودي. ولهذا، لا يوجد للعرب بأية حال ما يعرضوه في هذا الموضوع. ويظهر لليهود القلائل الداعمين للعودة كمن انضموا إلى "أعدائنا العرب".

إن المعارضة الساحقة والهستيرية لفكرة العودة تحول نضال العودة من برنامج سياسي إلى مجرد يوتوبيا. ليست نوايا مطالبي العودة أو خيالهم اليوتوبي من يحوّل نضال العودة إلى يوتوبيا، وإنما الشروط التي يعرضون مطلبهم بها. من ناحيتهم، يعتبر هذا مطلبا منطقيا وعادلا وبديهيا لأجل إصلاح الغبن؛ أما من ناحية المناخ الذين يعملون بداخله، فإن هذا المطلب هو تهديد بالخراب، والعدالة الواجبة غير واردة بالحسبان. فقد مر ستة عقود منذ أن حل الغبن، وطالما أن العدالة اللازمة هي "عدالة تاريخية"، فإن لليهود وحدهم الحق بالمطالبة بمثل هذه العدالة؛ أما العرب فعليهم الاكتفاء بالمطالبة بعدالة تقسيمية، حيث أن زمانها دوما هو الحاضر، وتكون خاضعة لرزنامة ميزانية الدولة. إن التغيير المطلوب تحقيقه في الواقع السياسي بغية إسماع المطلب الفلسطيني بتحقيق عدالة تاريخية (ليس للاستجابة، بل لسماعه وبحثه بجدية) هو أمر درامي وشامل بما يكفي لكي ندرك بعدم درايتنا بالعملية التاريخية، السياسية والاجتماعية التي ستقود لذلك. إننا لا نعرف العوامل التي يمكنها تحقيق هذه العملية، ولا كيف ستكون الدينامية المتوقعة لها. إن الشروط التي ستحقق العودة هي واقع مستقبلي مختلف تماما عن الواقع المألوف في الزمن الحاضر، واقع مختلف ويختلف فيه المستقبل تماما، من الصعب تخيله. والأصعب، من الذي سيحققه؟ إن الانتقال من الحاضر إلى المستقبل يبدو أشبه بقفزة إلى خيال متوحش. وعليه، فهو يوتوبيا. إن العودة ستحدث في مكان آخر. الزمن غير مهم، فالمستقبل غير مرتبط بالحاضر، وربما سيأتي بطريقة تبدو اليوم كمعجزة، وربما لن يحدث ذلك إطلاقا. المكان فقط هو المهم. سيكون مكانا آخر في ذات المكان، مكاننا. إن اختلاف المكان المطلق، والتي تحوله إلى لا مكان في سياق هذا المكان هو ما يجعل العودة يوتوبيا.

من غير الممكن معرفة شيء عن العملية التي ستحقق الظروف السانحة للعودة. ومن الصعب أن نعرف شيئا عن الظروف السانحة تلك. ولكن يمكننا أن ندرك شيئا عن العودة ذاتها.

من الممكن أن يتم البدء بالتفكير بالعودة بطريقة إبطال هذا المكان، أي وكأن العودة لن تكون إلى هذا المكان. والمكان الذي سيحقق العودة سيكون مكانا آخر. لن تكون العودة إلى المكان الذي كان حينئذ، قبل نحو ستين عاما. لأن ذاك المكان قد اختفى وزال، لا يمكن استرجاعه، ولا يمكن استرجاع البيئة المادية للوضعية التي كانت حينئذ. كما لا يمكن استرجاع البيئة الإنسانية للوضعية التي كانت قبل ستين عاما. وبمفهوم دقيق، إذا تحققت العودة فعلا، فإنها لن تكون عودة بالفعل. فخريطة العودة مضطرة لأن تكون متصدعة. وبدون هذا الصدع، فإنها ستتحول إلى مطرقة مستعبِدة [بكسر الباء]. وربما من أجل ذلك، يصر الكثيرون على الحديث عن حق العودة. واللغة القانونية نافرة عن الواقع العملي ومُبسِّطة له. أنه ليس نفس البيت، إنها ليست نفس الشجرة، إنه الحق فقط. تستطيع اللغة القانونية أيضا ترجمة الفقدان إلى أضرار، ولكنها لا تستطيع ترجمة الفقدان إلى أضرار بلا بقايا، هو الفقدان الذي لا يسترجعه التعويض السخي. هل يجب الإصرار على البقايا تلك؟ هل يمكن لها، وهي مستحيلة التحقيق، أن تتمثل بالحق؟ هل يمكن أن يكون هنالك حق لأمر يستحيل تحقيقه؟

إذا تم التنازل عن الفقدان، بمعنى الفقدان الذي له بدائل، والاكتفاء بالأضرار التي من الممكن تقديرها، وقياسها وإيجاد النظائر لها- ليست نفس القرية، ولكن قرية في فلسطين، ليست نفس قطعة الأرض، ولكن قطعة أرض، ليس نفس وسائل المعيشة، ولكن وسائل معيشة كافية- إذا كان كذلك، فمن الممكن فرض مخطط للعودة والذي يظهر كبرنامج سياسي واقعي. تخيلوا لو أن دولة فلسطينية مستقلة بحدود 1967 – لو افترضنا جدلا أن هذا الأمر ممكنا- ستأخذ على عاتقها المسؤولية عن عودة اللاجئين. ويتم نقل المساحات في النقب الغربي وفي جنوبي صحراء يهودا لسلطة الدولة الفلسطينية بغية تخصيصها لإسكان اللاجئين. الدولة الفلسطينية غير محدودة من حيث استيعاب لاجئين وإسكانهم من جديد. ستحوز الدولة الفلسطينية على دعم سخي من الدول الغنية. في مقابل إنقاص سكان مخيمات اللاجئين، وتكون الدول المضيفة لمخيمات اللاجئين لمنح الجنسية للاجئين غير العائدين. وسيحصل الفلسطينيون عديمو الجنسية (البدون) على الجنسية، في دولتهم أو في دول أخرى. سوف يزول شبح اللاجئين من كل منطقة الشرق الأوسط، وسيتقلص تواجدهم المخيف إلى حدود سلسلة من المشاكل المحلية في المدن الجديدة التي ستقوم. كما ستشارك إسرائيل في جهود التأهيل، وستكون مستعدة حتى لعودة رمزية لعشرات الآلاف من اللاجئين إلى مناطقها، كما ستعترف بأغلبية القرى غير المعترف بها. وكبادرة على النوايا الحسنة، وكجزء من اتفاق المصالحة الشامل مع الحركة الوطنية الفلسطينية، ستعالج إسرائيل بشكل خاص قضية اللاجئين الداخليين (المهجرين داخليا) والتي لم تعترف بوضعيتهم الخاصة أبدا. ستوضع يافطات للذاكرة في كل المواقع التي هدمت فيها قرى فلسطينية. وسيستمع طلاب المدارس المتنزهون إلى روايات الطرفين عن هذه القرى، روايات البطولة عن المحاربين اليهود الذين احتلوا القرية ورواية أخرى عن اللاجئين؛ ضحايا هؤلاء المحاربين من منظار الأشخاص الذين طردوا من القرية. فالذاكرة الجماعية هي عملية مرنة قابلة للتمدد، وقادرة على أن تشمل الجميع. هكذا، يرجع الكل إلى مكانه. لا يوجد ناس بلا أرض، ولا يوجد أرض بلا شعب، لا يوجد ناس بلا عنوان، ولا يوجد عنوان بلا ناس. الصدمة غير مكررة، وسيتوقف تمريرها من جيل إلى جيل. سيسكن اللاجئون الفلسطينيون من جديد، ويبنون لأنفسهم حياة جديدة في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، وفي المناطق التي ستضم إليها، وسيندمجون في المجتمع الفلسطيني في المناطق [الفلسطينية] ويأخذون بالنمو. سيتم الاعتراف بالمواطنين العرب في إسرائيل كأقلية قومية لها ارتباط خاص بدولتها القومية. إنهم أناس دفعتهم سياسة الحدود لأن يكونوا خارج دولتهم القومية، مثل البولنديين الذين بقوا في أوكرانيا، والرومانيين الذين بقوا في هنغاريا، والهنغاريين في رومانيا. العالم مليء بالحدود التي تقطع أوصال الشعوب، وبشعوب أقر أبناؤها ببقائهم مقطعين الأوصال بين دولتهم القومية ودول أخرى. لماذا لا يحدث هذا هنا أيضا؟

من يفكر في العودة كتعبير للقومية العربية الفلسطينية وينظر إليها كمبدأ عالمي ترتكز عليه مطالبه السياسية، فإنه سيكون مضطرا للاكتفاء بهذه الرؤية. فمبدأ القومية هذا يوجب احترام حق اليهود في إقامة دولتهم القومية، أي مطالبتهم بعدم التعرض للأغلبية فيها. وعليه، يتوجب الإجابة على مطلب العودة فقط في الجزء الفلسطيني من فلسطين. واليسار الصهيوني يفهم ذلك جيدا. ولهذا يلح هؤلاء الصهاينة كثيرا في دعمهم لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. دولة كهذه فقط، ستزيل، حسب رأيهم، مرة وللأبد، شبح اللاجئين. دولة كهذه فقط ستؤمن لإسرائيل أن تبقى دولة يهودية وديمقراطية. إنه أمر محتمل. ولكن من الواضح أن هذه الدولة [الفلسطينية] هي يوتوبيا أيضا، وشقها الثاني هو الرؤية المتعلقة بالدولة اليهودية الديمقراطية. لأن هذه الرؤية هي يوتوبيا أيضا بذات الدرجة. فإسرائيل اليوم، وفي المستقبل المنظور، دولة غير يهودية- تقريبا نصف السكان الخاضعين للنظام الإسرائيلي هم من غير اليهود، وهي ليست ديمقراطية- أكثر من ثلث المحكومين الخاضعين للنظام الإسرائيلي هم من غير المواطنين، منقوصي الحقوق، ممن يتعرضون للعنف والاستبداد من قبل نظام احتلال عسكري، ولمشروع الاستعمار العنيف التابع له.2

إن أي مشروع وطني يقوم على تخيّل مُطابقة التجمعات الإنسانية للأراضي. ومن الواضح، أن هذه المطابقة منقوصة. وتفهم الأغلبية عدم المطابقة هذا (إن فهمته أصلا) على أنه تعطيل واجب، بسبب أن الواقع غير كامل، إنه واقع تسقط فيه المثالية على الدوام، ولهذا من الضروري الإقرار بهذا التعطيل؛ بمعنى، يتوجب النظر إلى الأقليات القومية كتعطيل من جهة، ومن جهة أخرى يتوجب الإقرار ببقائهم ضمن أطر تسوية بطريقة ما. إنها أطرٌ لا تهدد مجموعات الأغلبية القومية، ولا تخنق مجموعات الأقلية تماما، وتمكن من تحقيق تعايش مُحترم بين الأغلبية والأقلية، يتم من خلاله المحافظة على الأقلية ضعيفة (بغية عدم زعزعة النظام) – ولكن يقدمون لها شروط معقولة للحياة بغية أن يكون لها ما تخسره في حال قررت الانتفاض. إن مثل هذه الاطر للتسوية هي ضرورية من أجل المحافظة على المطابقة العامة بين القوميات للأراضي، وبغية المحافظة على الدولة القومية.

ولكن، تظهر في الظروف الحالية رؤية إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، والتي ستكون مستعدة أيضا لاستيعاب اللاجئين أيضا كيوتوبيا مثل العودة بالضبط. فقد استطاعت إسرائيل أن تقطع أوصال الحركة الوطنية الفلسطينية، وتفصل بين قطاع غزة وبين الضفة الغربية، وتقطع أوصال الضفة الغربية إلى كتل من الكانتونات. كما أضحت المستوطنات في الضفة عائقا من الاستحالة تجاوزه. في مثل هذه الظروف، ينعدم وجود حكومة إسرائيلية مستعدة لإحراز تسوية تشمل تفكيك المستوطنات في الضفة. إن الاحتلال، في مثل هذه الظروف، هو جزء من النظام الإسرائيلي، وإلغائه عن طريق الانسحاب إلى حدود 1967 يستوجب انقلابا نظاميا. أما التغيير الوحيد الحاصل على الأرض حاليا، فيتمثل في التحول من نظام أبارتهايد ملموس "خفي" إلى أبارتهايد مُعلن، ومن عنصرية غير رسمية إلى عنصرية رسمية، ومن فاشية مستترة إلى فاشية منتشرة في الوزارات الحكومية المركزية. إن من شأن كل هذه التغييرات أن تعمق الترابط بين "الاحتلال" و "الديمقراطية". في هذا الصدد، لا ندرك أو نتخيل الشروط الكفيلة بإحداث انقلاب في النظام يقود بدوره إلى إلغاء الاحتلال، أو وصف العملية التي ستوصلنا إلى هناك. فالحديث يدور عن مكان آخر، بغية الوصول إليه يتوجب القفز في بحر الزمن مباشرة من نقطة في الحاضر إلى نقطة غير معلومة في المستقبل. شأنها في ذلك، شأن القفزة المستوجبة من أجل تحقيق العودة. إن رؤية حل الدولتين القوميتين هي يوتوبيا بذات الدرجة كرؤية الدولة المدنية الواحدة التي يعود إليها اللاجئون الراغبون بذلك. وطالما أننا منشغلون باليوتوبيا، ونفكر في واقع مختلف ومتحرر من ارتباطات الواقع المعاش، فلماذا لا نفضل النموذج المُحسَّن؟

إن الدولة المدنية التي تعترف بالقوميات التي تقيم فيها، وتمنح الثقافات والقوميات فيها ظروفا متساوية من الرخاء هي أفضل من الدولة القومية. ثمة فروق أكيدة بين عامة المواطنين وعامة المحكومين في أي دولة معاصرة؛ بمعنى وجود حتمي لمحكومين منتقصي حقوق المواطنة، مما يسبب الظلم وعدم الاستقرار السياسي. أما الدولة القومية فإنها تضاعف من هذا الظلم لأنها تضيف على التباينات بين المواطنين الفروقات القومية أيضا، خاصة في إعلاء حقوق المجموعة القومية المهيمنة على المجموعات الأخرى وسائر المواطنين. يتواجد في الدولة القومية، بشكل دائم، أقليات قومية لا يتم أخذها بالحسبان والاعتبار مقارنة مع أفراد الأغلبية. كما يتواجد في الدولة القومية، دائما، أناس اضطروا إلى تحييد ثقافاتهم، ولغتهم، أو دينهم في حالات عدم تناسبها مع انتمائهم القومي، وآخرون انصهروا في المجموعة القومية أو أشركوا فيها رغما عنهم. إن عملية صهر الأمة وما تحمله من إقصاء وتحييد تنتج الظلم أيضا. ويكمن الشرط في إلغاء أو تقليص الظلم بإلغاء التطابق بين القومية والدولة، الأمر الذي يمكن من تحويل الدولة إلى نظام سيادي لمجموعة معينة من مجمل المجموعات المحكومة. في الدولة القومية، يطالب أفراد الأغلبية باحتكار الموارد ونظم الدولة، التي يجب أن يكون طريقة الوصول إليها متساوية للجميع. إن على الدولة كنظام سيادي أن تنتمي لكل مواطنيها.3 وسيكون الحكم في الدولة عادلا فقط في حال كان نظام الحكم في الدولة مفتوحا لجميع مواطني الدولة، وكان لكل مواطن فرصة متساوية تقريبا لكي يحظى بالامتيازات التي تمنحها للمواطنين، ويطاله نفس الدرجة من حجم الواجبات التي تلقيها على المواطنين. إن حل الدولتين القوميتين أسوأ من حل الدولة المدنية، لأنه يقوم أساسا على قاعدة التمييز المنظم بحق مجموعة الأقلية القومية، فيما تقوم الدولة المدنية بتأمين الحماية لجميع القوميات والأديان بداخلها.4

اليوم، تحلق في الجو السائد يوتوبيات فقط: دولة كل مواطنيها؛ العودة؛ التحرير الوطني الفلسطيني؛ دولة يهودية وديمقراطية؛ أرض إسرائيل النقية من العرب؛ دولة شريعة [يهودية، أو دولة "هلاخا"] يقر فيها الفلسطينيون بوضعيتهم كمقيمين، ومواطنين من الدرجة الثانية، مكتفين بحكم ذاتي في كانتونات خاصة بهم. إن كل هذه المشاريع هي يوتوبيا بذات الدرجة تقريبا؛ ومن ناحية الأخيرة، فهم ذوي نفس المقام. لا يوجد في النقاش العام في البلاد أي ذكر للحاضر تقريبا، أو للعمليات التي يمر بها المجتمع الإسرائيلي، أو للظروف الفعلية للنظام الإسرائيلي، ولأفق العمل الذي يفرضه. إنها دولةٌ تأكل ساكنيها، إنه نظامٌ يتخلى عن مواطنيه ورعاياه، ليس من المقيمين غير المواطنين والعرب عموما فحسب، بل اليهود أيضا؛ إنه مجتمعٌ ملفوفٌ بالكذب، ومدمنٌ على الخداع الذاتي؛ يرفع شعار الخوف في دائرة فراغ يعجز أي شخص على ملئها.

الحديث عن "الحال" – إن كان الحديث لا يزال – يتم بلغة يوتوبيات بعيدة عن الواقع، تظلله أسفار الرؤى، مرة تسمي إيران، وأخرى حماستان، ومرات أخرى يربطون الاثنين سويا كأنما هما اكتشافين لنفس الشيطان.

سأتطرق بإيجاز إلى أثنين فقط من اليوتوبيات الأساسية التي تسود في الجدل اليهودي العام- دولة يهودية-ديمقراطية؛ وإنهاء الاحتلال وإقامة دولتين قوميتين- وليوتوبيا فلسطينية واحدة- هي العودة. سأبدأ بالأولى، والأكثر رواجا وشعبية بينهم.5

دولة يهودية ديمقراطية:

تُعرض كواقع وحتمية، ويتم عادة نفي إدراجها في إطار اليوتوبيا. بيد أن التناقض بين الرؤية والواقع هو أمر واضح للعيان. إن النتيجة ليست وهما، ولا غشا، إنها شلل دماغي. انفصالٌ تامٌ بين ما يراهُ الناس وبين ما يقولون عنه، لأن ذلك يناقض الهدف الذي يجب عدم التنازل عنه، ولهذا فإنهم يصمتون أو يتكلمون هراء.6

إن المزيج المقيِّد "يهودية - ديمقراطية" ليس بعثرة ضبابية لإخفاء الواقع، فالآن الصورة كلها واضحة. إنه ليس تمويها، وإنما قَسَمَا. إنهم يجعلون الواقع يُقْسِم بأن يكون غير ما هو عليه فعلا، كالضفدع الذي يتحول ثانية إلى أمير، ومثل الوزير جعفر الشرير في قصة علي بابا الذي يتحول إلى جني ويدخل إلى الزجاجة. أنظروا، إنه يعمل. ما علينا سوى الرجوع إلى التعاويذ في معتقداتنا، وأن نغلق أعيننا لعدة مرات فقط، وعندما سنفتحها، سنرى أننا نعيش في دولة يهودية وديمقراطية. لقد بقي كل شيء على ما كان. ولكن أي واحد يتعرض لهذه المعادلة الرهيبة في وصف الواقع (وليس نقضها فقط) لن يؤخذ بالاعتبار والحسبان. كما لا يتم احتساب جزء من الواقع بسبب تبعيته للماضي، وآخر بسبب معرفتنا للمستقبل. إننا نتحدث، من خلال تأكيد مثير للجدل بأن الاحتلال سوف ينتهي في نهاية المطاف. لقد أعلنت أغلبية الشعب عن تفضيلها للسلام على المناطق [الفلسطينية]، وقد خرجنا فعلا من غزة، وسوف نخرج من الضفة، إنها مسألة وقت. وهكذا سوف نحافظ على الأغلبية اليهودية وأيضا على الديمقراطية.

إن كثرة الحديث عن "اليهودية الديمقراطية" يدل على حاجتنا البائسة في طرد الوساوس. فمن ناحية، يهمس وسواس البُعد الصهيوني: "إنها بالفعل ليست ديمقراطية"، ومن الناحية الأخرى، يهمس الوسواس الديموغرافي: "بعد قليل، لن تكون يهودية". ثمة حاجة بائسة لرسم تقسيم ما في الخيال السياسي إن لم يكن في السياسة ذاتها، وبيننا كأناس منصفين في طبعهم وبين الاحتلال والعنصرية والتمييز. ولكن، كما في توصيف الأعراض عموما، فإن لهذا التعبير أكثر من جانب للحقيقة، فالحديث البسيط عادة ما يقتصد في إظهار الحقيقة الأساسية. والحقيقة تفيد بأن اليهودي الحقيقي في الظروف الحالية على الأقل، هو اليهودي الديمقراطي ناقص (طرح) الديمقراطي، والديمقراطي الحقيقي هو اليهودي الديمقراطي ناقص (طرح) اليهودي. إنها معادلة معروفة. فقد كتب روبرت موسيل، في كتابه "في الرجل عديم الصفات" حول أيام القيصرية النمساوية الهنغارية الأخيرة، وعرّف النمساوي بالشكل التالي: النمساوي-الهنغاري ناقص (طرح) الهنغاري. ولكن النمساوي والهنغاري كانا من ذات السلالة، على الأقل. أما اليهودي والديمقراطي فينتميان إلى سلالات مختلفة. كيف يجوز الربط بينهما أصلا؟

والحقيقة هي أن اليهودي والديمقراطي يرتبطان فقط من خلال "عارضة"، وهو الأمر ذاته الذي يفرق بينهما. إن هذه العارضة تنتج مزيجا يمكن فصله بذات الدرجة التي تكتلهما. إنها تمنح وجودا للفرق بنفس الدرجة التي تُوظف فيه من اجل طمسه. إنها الربط المستقر والقائم كما الربط التي تؤكده واو العطف، ربطٌ نتج بدهشة وسيتم فصله يوما ما بدهشة أيضا.

وبسبب العارضة بين الكلمتين، يمكن لكل يهودي خائف أن يسمح لنفسه أن يكون ديمقراطيا: وسط التأكيد له بأن المُركب اليهودي في المعادلة سيحافظ على النظام من الديمقراطيات المُفرطة؛ وبفضل العارضة هذه، يمكن لكل ديمقراطي خائف أن يسمح لنفسه أن يكون يهوديا بدون خوف: وسط التأكيد له بأن المُركب الديمقراطي في هذه المعادلة سوف يكبح النظام من اليهوديات المفرطة. إذن، فالتناظر تام، والكبح متبادل أيضا. الكل بتناسب. والتناسبية هي، إذن، قواعد اللعبة.

وماذا مع العرب؟ كيف يمكن للعربي الدخول إلى هذه المعادلة؟ فاليهودي الذي بمعادلة "اليهودي-الديمقراطي" سيبعده؟ الجواب واضح: إنه يجد المأوى في "الديمقراطي"، وقد كان خاضعا للنظام في العام 1948 ولم ينتظر حتى 1967. الديمقراطي في المعادلة هو ملجأ العربي الإسرائيلي، ومكان مخبأه، بعدما أبعد من الصخرة الأولى في المعادلة. إننا نوفر له الجنسية، وهي مِنّة منا، ونعترف به كإسرائيلي لأننا ديمقراطيون. ولكن المعادلة متناظرة. وأساسها الموازنة والكبح المتبادل. واذا وجد العرب، غير اليهود، ملجأ في ركن الديمقراطية، فمن يجد الملجأ في الركن اليهودي؟ إنهم طبعا غير الديمقراطيين. إننا نسامح العنصريين والفاشيين والمهووسين المتدينين على أنواعهم، بسبب كونهم يهودا. ولهذه الرعاية سقف وثمن، يمنع العرب الديمقراطيين بموجبه من تغيير الطابع اليهودي لإسرائيل، ويمنع العنصريين اليهود من تغيير طابعها الديمقراطي (حتى الآن، ومنذ صياغة الأفكار للمرة الأولى، اهتز هذا المُركب بدرجة كبيرة).

لقد حُكم على العرب الإسرائيليين أن يكونوا مواطنين لدولة لا تتبع لهم وإنما تتبع لآخرين، أغلبيتهم ليسوا من مواطنيها أصلا. بينما يعيش العنصريون اليهود في دولتهم، ولكنها ليست الدولة التي يريدون العيش فيها. وهنا، يبدأ التناظر بالانكسار. فعندما يتجرأ العرب على التفكير علانية بصياغة طابع إسرائيل من جديد كدولة لكل مواطنيها أو دولة ثنائية القومية، يُعلن عنهم كخطر امني على الدولة.

أما عندما يعمل العنصريون – لا يتحدثون فحسب- على تعزيز السيادة اليهودية على الأرض، وتدعيم الديمقراطية الإسرائيلية كديمقراطية أسياد، لا يهددونهم ولا يحدون من حركتهم- بل على العكس، يضمونهم للحكومة، ويزودونهم بكل الموارد اللازمة.

ولكن في تمعن آخر، فإن ذلك كامن في المعادلة ذاتها: يهودية - ديمقراطية. فإسرائيل هي فعلا دولة يهودية - ديمقراطية، لكونها ديمقراطية لليهود. إنها تضمن الديمقراطية لأصحاب السيطرة والهيمنة من اليهود. أما للفلسطينيين الإسرائيليين، فإن ديمقراطية اليهود تقترح مأوى بشروط محدودة ومتواضعة، وبالنسبة للفلسطينيين من غير المواطنين، فإنها تقترح عليهم جحيما. وكما هو حال جنوب أفريقيا في حقبة الأبارتهايد، فإن ديمقراطية النظام الذي يخضع إليه أصحاب السيطرة هي مُركب أساسي في قدرة النظام على تجنيدهم من أجل فرض ظروف جهنمية على المحكومين المُميز بحقهم. ويتعلم الصهاينة من طيبي النوايا الذين يدعمون حق الشعب اليهودي في دولة قومية له جملة من الأقاويل تبدأ برفض وجود الاحتلال، أو كما لو أن الاحتلال خارج عن النظام الإسرائيلي، وكأن انتهاءه هو مسألة وقت لا أكثر، وكأن النظام لم يقض أربعين عاما من سنوات عمره الستين في السيطرة على شعب آخر، والعشرين عاما المتبقية للسيطرة على أراضيه ضمن الخط الأخضر، وأيضا، كما لو لم يكن ثلث تعداد المحكومين على يد دولة إسرائيل (11 مليون) هم من غير المواطنين، الذين يفتقدون أي حق وحماية، ويضاف إليهم 15 % من ذوي الجنسية المنقوصة. إن الدولة القومية اليهودية الديمقراطية ليست وصفا واقعيا لديمقراطية اليهود ونظام احتلال متوحش، وإنما يوتوبيا لا تقل عن الرؤى التي تقترحها الوثائق العربية للتصور المستقبلي ، أو من رؤية الدولة الديمقراطية الواحدة من النهر إلى البحر.

ولكن "اليهودية - الديمقراطية" لا تظهر كيوتوبيا. بل تطرح كوصف للواقع. إنها بالضبط اللحظة التي يزداد فيها مطالبة الناس بإدخال الوساوس إلى الزجاجة. ويمثل التحرر من هذه الوسوسة (والإحساس لمرات عدة بالحماقة) يقترحه اليوم أفيغدور ليبرمان. إن ليبرمان ينظر لما تفعله دولة اولمرت، ليفني وبراك على أرض الواقع في غزة، وفي الضفة الغربية والوسط العربي، وفي تدمير مؤسسات المجتمع المدني لجعلها وطنية - بدون أية بقايا للغلاف الأيديولوجي للصهيونية "العاقلة". يمثل ليبرمان الحل للتناقض بين الأيديولوجية التي تصف الدولة كـ "يهودية -ديمقراطية" وبين واقع إسرائيل باعتبارها ليست يهودية (لأنه حوالي نصف المحكومين فيها تقريبا، هم من المواطنين وغير المواطنين، من غير اليهود) وهي ليست ديمقراطية (لأنه من الاستحالة السيطرة على ثلاثة ملايين ونصف المليون من غير المواطنين في المناطق [الفلسطينية]، وأيضا على مليون ونصف المليون من مواطني الدرجة الثانية، وهم من الفلسطينيين الإسرائيليين، والاستمرار بتسمية نفسها نظاما ديمقراطيا). إن "دولة يهودية -ديمقراطية" هو اسم للتنافر المعرفي (Cognitive Dissonance)‏، وليبرمان هو الأصل المُريح لمثل هذا التنافر. إنه يقترح رواية مبسطة تتيح فهم الواقع المُركب بدون التورط بالتناقضات. إنه التصريح لأن تكون عنصريا بدون تردد، ولأن تتنازل عن الديمقراطية بدون تردد. ليبرمان ليس كهانا. إنه يجيز لمستمعيه بأن يكونوا عنصريين بدون المرور أولا على "التناخ" أو التلمود، وبدون التعلق بأية سلطة متسامية. إن عنصريته علمية زائفة بغيضة، تنتقل عن طريق البيولوجيا، و "الحقائق الديمغرافية" وتحليل الأنظمة للاستراتيجيين من الدراسات الأمنية (ولهذا، يمكن لكل الجنرالات أن يكونوا أصدقائه ويمكن لأغلب الخبراء القانونيين التماشي معه). الآن، وعندما ينتصر الخطاب الليبرماني - الانجاز في الانتخابات الأخيرة بعيد عن مجاراة هذا النصر- يمكن أخيرا للدولة اليهودية الديمقراطية أن تظهر كما هي فعلا: يوتوبيا.

دولة فلسطينية مستقلة:

تعرض كبرنامج سياسي واقعي، وعلى أنها الرؤية الوحيدة القادرة على إنهاء الاحتلال والمصالحة بين الشعبين. وهي الرؤية الوحيدة بأعين اليسار الصهيوني القادرة على ضمان يهودية الدولة وأيضا ديمقراطيتها. في الوقت الراهن، يتم النظر إلى دولة غير يهودية وغير ديمقراطية كتهديد مستقبلي، فيما يتم طرح الحل المستقبلي القادر على إزالة هذا التهديد كخطة متفقة مقرة سلفا من قبل الأغلبية، من ناحية المبدأ على الأقل، ويعيق تطبيقها جملة من العوائق المتغيرة الصغيرة. وتشمل مثل هذه العوائق: "لا يوجد شريك حاليا"، "الإدارة الأمريكية غير مستعدة للعب دورها"، "لا توجد لدى السياسيين الممسكين بزمام الحكم الشجاعة الكافية لتفكيك المستوطنات"، وعادة ما يتم النظر إلى هذه العوائق كعوامل محتملة التغيير بشكل ما، دون أن يدري أحد، كيف بالضبط. اليوتوبيا لهذه الخطة ملموسة. ففي الحقيقة، فإن العقبات التي تمنع تحقيقها ليست حادثا تاريخيا وإنما تعبير عن شروط الحياة والبقاء للنظام الإسرائيلي الحالي وغير مفهومة بالمرة. النتيجة مشابهة للحديث عن "دولة يهودية - ديمقراطية" وتكملها: شلل دماغي. والضرر في الشلل الدماغي في هذه الحالة أقل من الحالة الأولى، لأننا ندرك جيدا بأننا لا نتحدث عن واقع معاش وإنما عن خطة لتغيير هذا الواقع، ولكن نتجاهل كل الشهادات التي تدل على أنه لا يوجد ما نتمسك به بشدة لإحداث هذا التغيير.

العودة:

هي اليوتوبيا الوحيدة التي يستحيل التنكر ليوتوبيتها. الأفضلية الأولى في نقاش العودة هو في كونه مدركٌ للواقع الذي يتطرق له. هنالك صدق أكثر في نقاش العودة من النقاش الوطني اليهودي أو الفلسطيني. أما الأفضلية الثانية فهي في المواجهة التي يستدعيها في سياق الصدمتين للوجود اليهودي - الفلسطيني. إنه يجيز أولا الفصل بينهما، وهو يمكن من وصف الفقدان وفي الالتزام الذي أنتجه هذا الفقدان. إنه يستدعي تحمل المسؤولية. والأفضلية الثالثة تكمن في أن نقاش العودة ينتج التشكل في طرق متغايرة (heterotopia) بدلا من تخيل مكان اليوتوبيا وإخضاعه على الواقع قسرا. فالأرض التي يعيد نقاش العودة ترسيم خرائطها هي مكان مضاعف، ما عليها الآن، وما كانت؛ ويحاول البعض إضافة، ما ستكون عليه. إن التضاعف هو الصدع في نظام الأمور الاعتيادية. الصدع يعمل. أنه لا يستحضر من المستقبل ما لا يمكن أن يدركه العقل (أو، لا يمكن تخيل كيفية تحقيقه على الأقل). الصدع يعمل من أجل التغيير هنا: ليس من المستقبل إلى الحاضر، ولكن من الحاضر إلى الحاضر. إنه يعمل لتغيير العلاقات الملموسة، اليومية، بين اليهود والفلسطينيين، بين الفلسطينيين وأنفسهم، وبين اليهود وبين أنفسهم؛ وفتح إمكانيات جديدة من التعاون تتجاوز خطوط الحدود القومية المرسومة، إنه مكان للتعاون سويا وللتعايش سويا، وفيه يمكن أن نتغلب، في كل مرة من جديد، على القطبية والكراهية، وعلى الشعور بالتهديد من مجرد وجود الآخر، إنه مكان يمكن الوقوف فيه بشكل مختلف بوجه الصدمة.

من يصر على عودة لا يمكنه الاكتفاء بتجنيس كامل وحقيقي للفلسطينيين الإسرائيليين، ولا في استقلال الفلسطينيين في المناطق، أو في تجنيس كامل لهم في دولة واحدة، يهودية - فلسطينية. إن مطلب العودة يحدث صدعا داخل المواطنة الفلسطينية، حتى لو بانت كمتأهبة لتأهيل اللاجئين. إنه صدع لا ينبع من ميل مازوخي معين في خطاب العودة (التفكير بالعودة إلى نفس القرية، ونفس منظر الطفولة للوالد أو الجد، ونفس قطعة الأرض، ونفس الحديقة، ونفس الحصان في الاسطبل). ولا يمكن إلغاءه حتى لو تنازل الفلسطينيون عن ميلهم في تجميد حياتهم من اجل المحافظة على الاستعداد الدائم للعودة. إنه صدع ينبع من حقيقة استحالة إنكار الفقدان من الماضي وعدم التطرق إليه كفقدان له نظام ومقياس- وإنما نحوله إلى حمل في الحاضر. وفي نفس الوقت الذي يحدث فيه هذا الصدع في المواطنة الفلسطينية، ثمة صدع آخر في الجنسية الإسرائيلية نفسها. فاللجوء الفلسطيني يتحول من الشرط الملموس لهذه الجنسية إلى الحضور الملموس الذي يصدعها. وبدلا من التحليق كشبح يطارد الشراكة المدنية في هذا المكان، يظهر اللجوء الفلسطيني كوعد يوتوبي لتحقيق هذه الشراكة.

في هذا الصدع، وفي المسافة الفاصلة بين فضاء وفضاء في الهيتروتوبيا (الإغراق في اليوتوبيا) التي يحدثها نقاش العودة، وبين المستوى اليهودي والمستوى الفلسطيني في هذه الهيتروتوبيا، فقد انفتحت فتحة لمكان حقيقي للشراكة، للعدالة والسلام. مكان يوتوبيا طبعا، مكان آخر طبعا، ولكن اليوتوبيا هنا، هي داخل حاضرنا الملموس.

-----------------------------------------------------------
* عدي أوفير: بروفيسور فلسفة يدرس في جامعة تل ابيب.

هوامش:
1. أنظر: شنهاف، يهودا (2008). يهوديم فيعارافيم، حيلوفي أوخلوسين فزخوت هاشيفا هافلسطينيت" [اليهود والعرب، التبادل السكاني وحق العودة الفلسطيني]، سيدك 3، تل ابيب، بارديس، برهاسيا وزوخروت، ص. 67-80.
2. لتحليل منهجي للنظام الإسرائيلي، الآخذ بالاعتبار الاحتلال كمركب بنيوي لهذا النظام، أنظر إلى: أزولاي أريئيلا وأوفير، عدي (2008). ميشطار زيه شإينو إيحاد: كيبوش فيديمكراطيا بين هايام كنهار، [هذا النظام ليس واحدا: الاحتلال والديمقراطية بين البحر والنهر]، تل أبيب: ريسلينغ. وخاصة الجزء الرابع.
3. تحليل كامل لهذه القضية يستوجب تطرقا للاختلاف بين المحكومين من غير المواطنين (مهاجري العمل، المهاجرين الآخرين، السياح الماكثين في الدولة لفترات مستمرة) وبين المواطنين. ولكن هذه مشكلة مشتركة للدولة القومية والدولة المدنية، ومن النقاش الوارد في المقال، من الممكن تجاهل ذلك.
4. بالرغم من كل هذه الأمور، في الظروف الحالية للصدام بين اليهود والفلسطينيين في أرض إسرائيل، ولو كان بالإمكان إنهاء الاحتلال ولتجنيس الفلسطينيين ولحل مشكلة اللاجئين عن طريق دولتين قوميتين، لكان هنالك لتبني الحل بدون تردد. من الواضح أن الدولة القومية تقوم على أساس الفصل بين المواطنين وغير المواطنين (كما يحدث في ظل نظام الاحتلال) أسوأ أكثر من الدولة القومية التي تقوم على الفصل بين المواطنين من أبناء القومية المسيطِرة وبين المواطنين من أبناء الأقلية القومية.
5. تحليل أكثر شمولية، بحاجة لأن يتطرق إلى الأفكار لدولة كل مواطنيها ولوثائق التصور المستقبلي. هنا، نستطيع القول بأنه فقط في حال تم الموافقة على العودة فإنه سيطبق عليها ما طبق على رؤية العودة.
6. الحديث عن مصطلح "دولة يهودية - ديمقراطية" هو جزء من نص عرض بأمسية جمعية "أوفاكيم حدشيم"، احتفاء بكتاب عماليا روزنبلوم وتسفي طريغر، "بدون كلمات: الثقافة الاسرائيلية في مرآة اللغة". الأمسية أقيمت في الأول من آب 2007، في مسرح تسافتا في تل أبيب، ونشر عنه في الجريدة على الانترنت "محسوم".