الهوية الوطنية ومقارعة النكبة: الذاكرة وخطر النسيان

سالم أبو هواش*

الهوية الوطنية الفلسطينية الحالية بانتقالها من "سجل أنا عربي"، إلى "كانت تسمى فلسطين...صارت تسمى فلسطين...سيدتي: أستحق...لأنك سيدتي...أستحق الحياة"؛ ربما تبلورت خلافا لمسار الهويات الوطنية للأمم الأخرى، والتي جرى تخيلها أو فرضها في سياق تطور تاريخي طبيعي لكي تفتح فرصا جديدة من التطور والتسابق والحروب.

فهنا تبلورت الهوية الوطنية الفلسطينية في سياق عميلة إجهاض مشروع الهوية العربية "المتخيلة" بالتزامن مع محاولات محو الهوية الفلسطينية وإحلال هوية "مفتعلة" لتكون أداة استعمارية مكانها. وهكذا تبلورت الهوية الوطنية الفلسطينية ضمن صيرورة الصمود والمقاومة ومقارعة النكبة على مدار أكثر من مائة عام، وعبر رفض الخيمة والكفاح من أجل العودة للأرض والوطن السليب. فالهوية الفلسطينية تعززت في ظل انتفاء وجود الدولة والإقليم والسوق أو المصالح الاقتصادية، أي بالغياب القسري للدولة القومية.

ورغم التشتت الجغرافي للشعب الفلسطيني في بلدان وتحت سلطات ونظم سياسية وقانونية مختلفة، إلا أن هناك سمات جامعة لكل الفلسطينيين أينما تواجدوا. ويعود ذلك إلى الانصهار في التجربة المشتركة في النفي والتشريد وإنكار الحقوق وتجاهل أو تشويه الهوية الكفاحية، الصدمة والتمرد والثورة، تأطير ثقافة مشتركة عبر حفظ الذاكرة الجماعية، الاعتماد على الذات والاستجابة للتحدي الذي مثله المشروع الاستعماري الصهيوني؛ كل ذلك أسهم في تكوين هوية وطنية متجذرة نابعة من التاريخ المشترك بكل ما يشتمل عليه من أشكال معاناة، وبكل ما يختزنه من إبداعات كفاحية، وقد كان، ولا يزال عامل وحدة الهدف يربطها جميعا رغم التشتت الفيزيائي.

وفي سياق الواقع، قد تنسى تجربة أفراد من الشعب بموتهم أو لا يرويها أحد، أو قد تظل في رأس أصحابها أو المقربين، لكن الخبرة الجماعية والذاكرة الشعبية لا تموت، وهي أيضا تحتضن أجزاء معينة من كل التجارب أو الخبرات بشكل أو آخر. ولذلك؛ لا أرى خطرا على الهوية الوطنية الفلسطينية، حتى في ظل الحديث عن تسويات سياسية بائسة مرّ الكثير منها عبر التاريخ. فالشعب الذي يكابد المرارة مواصلا صموده، ومستمرا في الكفاح من أجل عودته وتحرره، يواصل في نفس الوقت تعزيز هويته في ذات السياق الذي نشأت وتبلورت فيه هويته. وطالما أن السمة الجوهرية للنكبة الفلسطينية هو الاقتلاع من الأرض، وإحلال الآخر المستعمر مكان الشعب الأصلي، وطالما ظل الهدف الجوهري للكفاح الفلسطيني هو التشبث بالأرض وحق العودة للديار الأصلية؛ فإن تجارب جديدة وإبداعات جديدة تنتظرنا على الدرب الطويل، الذي تكون نهايته الغلبة لصاحب الحق، للعدل وللإنسان صاحب الهوية الطبيعية، وليس لصاحب الهوية المفتعلة والظالمة، وإن تشبث الأخير بكل مظاهر القوة.

فرص كبيرة تتيحها الهوية الوطنية الفلسطينية ليس لصناعة المستقبل فحسب، بل لعيش الحاضر أيضا. أمامنا فرص كثيرة لهوية تعطي محبة وعدلا وسلاما وبناء، مع فرص أقل لتلك الهوية التي تنشر استغلالا وتعصبا ودمارا. لكن الخطر الذي قد يعيق، وقد يطيل المعاناة، هو خطر "الانساء" فرض النسيان أو التناسي! هذا الخطر قد يصيب ذاكرة البعض، او قد يفرض فرضا، وقد يتوهم بأنه السبيل لتجسيد "الواقعية". قد يبدو هذا نوعا ما سوداويا بكثير من الحلكة. ومع ذلك، شمعة واحدة في الظلمة الحالكة وفي الوقت المناسب، قد تتحول إلى نور وهاج... ونار... وحب لذاكرة تأبى النسيان.

------------------------------
*سالم ابو هواش: باحث وكاتب فلسطيني، ناشط في حركة العودة، رئيس سابق لمجلس إدارة بديل.