حملة مقاطعة إسرائيل: الانتفاضة الثالثة!

بقلم عمر البرغوثي*

وسط تصاعد الاضطهاد الإسرائيلي المركب للشعب الفلسطيني، سواء في غزة أو الضفة الغربية (بالذات القدس) أو الجليل والنقب، بدأ مراقبون من خلفيات متنوعة يتوقعون اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، تمتد لتشمل كل فلسطين التاريخية، وربما مخيمات اللجوء المحيطة بفلسطين كذلك. ما يفوت هؤلاء أن "انتفاضة ثالثة" قد بدأت بالفعل منذ سنوات، ولو بأشكال وامتدادات دولية مختلفة نوعياً عن سابقتيها، وأن إسرائيل - ومؤسساتها الرسمية والمدنية المتواطئة في تكريس الاحتلال والاستعمار ونظام الأبارتهايد -- باتت تنظر لها وتحاربها على أنها "خطر وجوديّ" بحق! 

يدرك مناصرو حقوق الفلسطينيين حجم القوة الكامنة للحملة الفلسطينية الرامية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارت منها وفرض العقوبات عليها، وهم ليسوا وحدهم من يدرك ذلك، فالمعادون لتلك الحقوق يعون هذه الحقيقة أيضاً. فقد حذر المدير التنفيذي للجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) أثناء انعقاد مؤتمر اللجنة في أيار/ مايو 2009 أن جهود المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات

آخذة في الوصول إلى عموم الأمريكيين و"تهيئ الأرضية للتخلي [عن إسرائيل]." 1 وأضاف أن "هذه حملة واعية ترمي إلى تغيير السياسات وتبديل المعاملة التي تحظى بها إسرائيل من قبل أصدقائها حتى تستحق ازدراءنا عوضاً عن دعمنا؛ وضغوطاً عليها لتغيير طبيعتها الجوهرية عوضاً عن حمايتنا لها."

 

إن المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات تتحدى ولا شك "الطبيعة الجوهرية" لإسرائيل، أي طبيعتها كدولة كولونيالية عنصرية وإحلالية. لقد انطلقت حملة المجتمع المدني الفلسطيني الهادفة إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارت منها وفرض العقوبات عليها بتاريخ 9 تموز/ يوليو 2005 .2 وتُمهد الحملة، الممتدة جذورها على مر قرن تقريباً من المقاومة المدنية ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، لمرحلة جديدة نوعياً في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وسياسة إسرائيل الاقتلاعية ونظام التمييز العنصري (الأبارتهايد) الذي تكرسه.3

لقد قطعت هذه الحملة العالمية ذات القيادة الفلسطينية، والمنبثقة استجابةً للنداء الفلسطيني الداعي للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ("نداء المقاطعة" باختصار) أشواطاً كبيرة على صعيد الوصول إلى عموم المجتمع الغربي على مدى السنوات القليلة الماضية. وتؤكد الحملة العالمية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على تبني خطاب جديد قائم على الحقوق في التعامل مع قضية فلسطين. ومن خلال ذلك، تفضح الحملة على نحو قاطع ازدواجية المعايير والمعاملة الاستثنائية التي ما فتئت الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية تتبعها، بدرجات متفاوتة، في تعاملها مع إسرائيل منذ إقامتها من خلال حملة الطرد والتشريد القسري التي خُططت بعناية ونُفذت بطريقة منهجية ضد الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني إبان النكبة في عام 1948. 4 وقد بلغ التواطؤ الغربي الرسمي ذروته عندما تجاهلت الدول الغربية مجتمعةً الفتوى التاريخية التي أصدرتها محكمة العدل الدولية في 9 تموز/ يوليو 2004 والتي أكدت فيها على أن الجدار الإسرائيلي والمستعمرات تعتبر مخالفة للقانون الدولي – وذلك في وقت كان الفلسطينيون لا يزالون يعانون من الاجتياح العنيف الذي قامت به إسرائيل في عام 2002 والذي أدى إلى إعادة السيطرة الإسرائيلية المباشرة على مدن ومخيمات لاجئين واقعة في الضفة الغربية المحتلة. وكان هذا العامل هو الباعث المباشر على إطلاق النداء الداعي للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات بعد مرور عام واحد على قرار لاهاي.

يحدد نداء المقاطعة الحقوق الأساسية الخاصة بالشرائح الرئيسية الثلاث المكونة للشعب الأصلاني في فلسطين. وعلى أساس القانون الدولي والمبادئ العالمية لحقوق الإنسان، يحث النداء على اتباع أشكال مختلفة من مقاطعة إسرائيل حتى تمتثل امتثالاً كاملاً لالتزاماتها بموجب القانون الدولي عن طريق:
1- إنهاء احتلالها واستعمارها لكل الأراضي العربية [المحتلة عام 1967] وتفكيك الجدار،
2- الاعتراف بالحق الأساسي بالمساواة الكاملة لمواطنيها العرب الفلسطينيين،
3- احترام وحماية ودعم حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم واستعادة ممتلكاتهم، كما هو منصوص عليه في قرار الأمم المتحدة رقم 194.

يُعبِّر نداء المقاطعة، والذي يحمل توقيع أكثر من 170 منظمة وحزب سياسي واتحاد نقابي وحركة جماهيرية فلسطينية، عن التطلعات الجماعية للشعب الفلسطيني من خلال التأكيد على أن تحقيق الحقوق الأساسية الثلاثة التي يدعو لها النداء هو فقط ما من شأنه أن يفي بالحد الأدنى من متطلبات الشعب الفلسطيني من أجل ممارسة حقه غير القابل للتصرف في تقرير المصير.

لقد هيأ نداء المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات "الأرضية" لتجاوز السياسة الفلسطينية الرسمية التي تختزل حقوق الشعب الفلسطيني في تحصيل بانتوستانات خاضعة للسيطرة الإسرائيلية العامة. وهو يمثل رداً شعبياً فلسطينياً على التنازلات المتوالية التي قدمتها القيادة على صعيد الحقوق الأساسية. لقد قام مسؤولون فلسطينيون، يفتقرون الولاية الديمقراطية ويسعون وراء مظاهر السلطة والمصالح الاقتصادية الضيقة والامتيازات على مر سنوات من "عملية سلام" مصممة ومدارة بأيد أمريكية وإسرائيلية، بالتنازل فعلياً عن حق العودة كما عرفته الأمم المتحدة. كما قبلوا باحتلال إسرائيل واستعمارها لمناطق رئيسية في الضفة الغربية ومن ضمنها مناطق في القدس الشرقية وشطب فلسطينيي عام 1948 حملة الجنسية الإسرائيلية من التعريف الأساسي للشعب الفلسطيني، وهو ما أضفى شرعية بصورة غير مباشرة على نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. تخلى هؤلاء كذلك عن التفوق الأخلاقي الفلسطيني بقبولهم التناظر بين "مطالبات كلا الطرفين؛" وتماشوا مع حملة العلاقات العامة الإسرائيلية التي تصور صراعها الاستعماري مع الشعب الفلسطيني بأنه لا يعدو أكثر من كونه نزاعاً على أرض مُختَلفٍ عليها.

يتجنب نداء المقاطعة تبني أي صيغة سياسية معينة، وإنما يُصِرّ على ضرورة أن يشتمل أي حل عادل وقانوني على الحقوق الأساسية الثلاثة غير القابلة للاختزال الواردة أعلاه. وهذا النداء بمثابة منبر يوحد الفلسطينيين في كل مكان في مواجهة التفتيت المتسارع ويناشد المجتمع المدني الدولي من خلال استحضار المبادئ العالمية للحرية والعدالة والمساواة في الحقوق التي رفعتها حركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة وغيرهما الكثير.

وبهذا جرَّت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات إسرائيل وجماعات الضغط التابعة لها ذات القدرات المالية الهائلة إلى ساحة قتال، إن صح التعبير، تُحيّد فيها قوة إسرائيل العسكرية وقدراتها المالية بالقوة الأخلاقية الذي يتسم به النضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير والعدالة والحرية والمساواة، مما يسهم في تعزيز احتمالات الانتصارعلى إسرائيل بشكل حقيقيّ. وتمثل المقاطعة النموذج الكلاسيكي لتغلب الحق على القوة، إذ يتنامى إدراك الرأي العام الدولي بأن إجرامية إسرائيل وإفلاتها من العقاب يضعان عبئاً أخلاقياً على أصحاب الضمير الحي للتصرف بسرعة وفعالية ولباقة ودقة سياسية.

من أهم توجهات حملة المقاطعة الدولية: 5


1. الدعوة لمقاطعة عامة لكافة المنتجات والخدمات الإسرائيلية إلى أن تمتثل إسرائيل امتثالاً كاملاً لالتزاماتها بموجب القانون 6الدولي؛
2. الدعوة لمقاطعة كافة المؤسسات الأكاديمية والثقافية والسياحية الإسرائيلية المتواطئة في إدامة الاحتلال الإسرائيلي 7ونظام الفصل العنصري؛
3. تطبيق مبادئ استثمارية أخلاقية لدى النقابات العمالية والمنظمات الدينية والمجالس المحلية وصناديق التقاعد الوطنية ومؤسسات أخرى عن طريق سحب الاستثمارات من السندات الإسرائيلية (Israel Bonds) وكافة الشركات والبنوك والمؤسسات المالية التي تتربح من انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي وحقوق الشعب الفلسطيني، أو التي تتواطأ مع ارتكاب تلك الانتهاكات. لقد أصدرت شخصيات فلسطينية مسيحية بارزة في الآونة الأخيرة وثيقة عُرفت باسم "وقفة حق - كايروس فلسطين" تدعو الكنائس حول العالم إلى "قول كلمة حق واتخاذ موقف حق" كما تؤيد صراحةً جهود المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات باعتبارها 8"وسائل لتحقيق السلام والعدل والأمن؛"
4. الدعوة إلى سحب الاستثمارات من الشركات الإسرائيلية أو الدولية المتورطة في ارتكاب انتهاكات ضد القانون الدولي وحقوق الإنسان و/أو مقاطعة منتجاتها مقاطعةً واقعية. من أمثلة هذه الشركات شركة إلبيت سيستمز، الشركة البريطانية للطيران والفضاء (BAE)، وشركة فيوليا، وألستوم، وإيدن سبرينغز، وأغريكسكو-كرمل، أهافا، ليف ليفيف دياموندز، موتورولا، وشركة كاتربيلر، وغيرها؛
5. تشجيع رحلات الحج الأخلاقية إلى الأراضي المقدسة بأن تتعامل وفود الحجيج مع وتُفيد بشكل مباشر الفنادق والمطاعم والحافلات الفلسطينية والأدلاء السياحيين الفلسطينيين وغيرهم وحرمان إسرائيل وشركات طيرانها ومؤسساتها العنصرية من العائدات المجزية المتأتية من هذا الحج؛
6. ممارسة الضغط من قبل الرأي العام من أجل نبذ الصندوق القومي اليهودي وحرمانه من وضعه القانوني الراهن كمنظمة خيرية معفاة من الضرائب في معظم البلدان الغربية؛
7. حشد تأييد المجالس المحلية والحكومات الإقليمية والضغط عليها كي تطبق بصرامة القوانين المحلية والدولية التي تحثها على استثناء الشركات التي تنخرط في ارتكاب "سوء سلوك جسيم" -- ولا سيما على صعيد حقوق الإنسان – من عقود القطاع العام؛
8. ممارسة الضغط الفعال على المسؤولين الحكوميين والأحزاب السياسية للاستجابة لدعوة منظمة العفو الدولية إلى تطبيق حظر 9فوري على توريد السلاح "لكافة أطراف النزاع"؛
9. الدعوة إلى تعليق جميع اتفاقيات التجارة الحرة وغيرها من الاتفاقيات التجارية التفضيلية المبرمة مع إسرائيل تعليقاً فورياً بسبب انتهاكاتها للقانون الدولي وحقوق الشعب الفلسطيني؛ 10
10. ممارسة الضغط من أجل التنفيذ الفوري وغير المشروط للتوصيات الواردة في تقرير غولدستون الذي اعتمده مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وكذلك الجمعية العامة والغالبية الساحقة من منظمات حقوق الإنسان الدولية الرئيسية من أجل محاسبة إسرائيل على ارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

تمثل الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها من أجل حقوق الشعب الفلسطيني وجهاً تقدمياً ومستداماً وأخلاقياً وفعالاً ومناهضاً للعنصرية من أوجه المقاومة المدنية غير العنيفة في سبيل إدراك حقوق الإنسان الفلسطيني. وما فتئ وجه المقاومة هذا يتشكل بوصفه باعثاً سياسياً رئيسياً وركيزة أخلاقية لحركة اجتماعية دولية قوية ونشطة قادرة على وضع حد لشريعة الغاب وإرساء سيادة القانون وإعادة التأكيد على حقوق كافة البشر في الحرية والمساواة والعيش الكريم.

لقد اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثالثة فعلاً من خلال المقاطعة وغيرها من أشكال المقاومة الشعبية. ولربما ستفوق هذه الانتفاضة سالفتيها شدةً وقوةً.
----------------

* عمر البرغوثي: هو عضو مؤسس في الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، والحملة الداعية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. وهو من دعاة رؤية أخلاقية تقول بإقامة دولة ديمقراطية علمانية موحدة على أرض فلسطين التاريخية. له أعمال عديدة من بينها مساهمته في المجلد الفلسفي Controversies and Subjectivity (جون بنجامينز، 2005) و The New Intifada: Resisting Israel's Apartheid (فيرسو بوكس، 2001). وصدر كتابه (النسخة الفرنسية) المعنونBoycott, Disinvestisement, Sanctions: BDS contre l’apartheid et l’occupation de la Palestine عن دار نشر لافابريك (باريس) في شهر نيسان/ إبريل المقبل 2010، كما ستنشر الطبعة الإنجليزية عن دار نشر هايماركت خلال صيف 2010.

----------------------------

الهوامش:

  1. http://www.philipweiss.org/mondoweiss/2009/05/howard-kohr-bds.html#more
  2. http://bdsmovement.net/?q=node/52
  3. للاطلاع على تحليل معمق حول نظام الفصل العنصري والاستعماري الإسرائيلي، انظر وثيقة الموقف الاستراتيجي التي نشرتها اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها والمعنونة "الاتحاد في مقاومة الأبرتهايد، الاستعمار الاحلالي والاحتلال،" تشرين الأول/ أكتوبر 2008: http://bdsmovement.net/files/English-BNC_Position_Paper-Durban_Review.pdf
  4. لمعرفة المزيد عن التشريد القسري الممنهج للفلسطينيين، انظر: إيلان بابيه، التطهير العرقي لفلسطين، ون ورلد (أكسفورد: 2007).
  5. http://www.bdsmovement.net/?q=node/213
  6. للاطلاع على الطروحات الداعية إلى عدم حصر المقاطعة استراتيجياً في "منتجات المستوطنات" انظر: http://electronicintifada.net/v2/article9948.shtml
  7. لمعرفة المزيد عن المقاطعة الأكاديمية، انظر www.PACBI.org. كما أصدر مركز المعلومات البديلة مؤخراً دراسة توثق الأوجه العديدة لتواطؤ الوسط الأكاديمي الإسرائيلي في الاضطهاد التي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين: http://alternativenews.org/publications/econoccupation/2223-the-economy-of-the-occupation-23-24-academic-boycott-of-israel.html
  8. http://www.kairospalestine.ps/sites/default/Documents/English.pdf
  9. بغض النظر عن النقد المشروع للمعادلة المعيبة أخلاقياً وقانونياً التي تقدمها منظمة العفو الدولية والتي تساوي بين سلطة الاحتلال من ناحية والشعب القابع في ظل الاحتلال ومقاومته من الناحية الأخرى، فإن هذه الدعوة لا تزال تنطوي على فرض حظر على تجارة الأسلحة مع إسرائيل وعلى حظر شحن السلاح لها عبر مرافئ الدول ومجالاتها الجوية.
  10. تعد اتفاقية الشراكة المبرمة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل وكذلك اتفاقية التجارة الحرة بين السوق المشتركة لأمريكا الجنوبية وإسرائيل من بين الأهداف ذات الأولوية القصوى.