من جنوب أفريقيا الى إسرائيل: القديم والجديد في نظم الأبارتهايد

بقلم: حازم جمجوم
كثرت الاصوات التي تنعت وتتهم النظام الإسرائيلي بأنه نظام ابارتهايد.  فشاهدنا الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر يؤلف كتاباً بعنوان " فلسطين: السلام  لا الابارتهايد " ومبعوث الأمم المتحدة الخاص بالأراضي الفلسطينية المحتلة السابق جون دوغارد يقول أن اسرائيل ترتكب ثلاثة إنتهاكات تتعارض مع المجتمع الدولي الا وهي الاستعمار والاحتلال والابرتهايد، وشاهدنا أيضا في يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني رئيس الهيئة العامة للأمم المتحدة الأب ميغيل ديسكوتو بروكمان وهو يقول أنه من واجبات المجتمع الدولي أن يعترف بحقيقة الأمر وينظر لإسرائيل كدولة ابارتهايد وأن يستمع المجتمع الدولي لأصوات المجتمع المدني باتخاذ إجراءات لمعاقبة هذا النظام العنصري بوسيلة المقاطعة وسحب الاستثمارات ووضع العقوبات عليه. فما هو الابارتهايد، وكيف تطبقه اسرائيل، وما أهمية التعبير عن حركتنا الوطنية كحركة مناهضة للابارتهايد؟

ما هو الابارتهايد؟ 

 تأتي كلمة ابارتهايد من "لغة الافريكانز"، وهي لغة المستعمرين الهولنديين الذين استوطنوا جنوب أفريقيا. والكلمة تعني الفصل أو التفرقة. فعندما انتصر الحزب القومي في انتخابات عام 1948 في جنوب أفريقيا، وهو الحزب الذي يمثل المستعمرين من أصول هولندية في تلك الدولة، سن جملة من القوانين التي استكملت تلك التي وضعتها الفئة البريطانية من المستعمرين منذ تأسيس دولة أفريقيا الجنوبية عام 1910.
بموجب قوانين الابارتهايد، حوصر الشعب الافريقي الأصلي في بقع متقطعة غير متصلة والتي شكلت أقل من 13% من ارض جنوب أفريقيا التاريخية. فرضت سلطات الاستعمار على الجميع أن يحمل دفتر هوية استخدمته قوات الابارتهايد لتعرف فيما إذا كان من المسموح للفرد أن يدخل أو يخرج من مكان معين. تم اعتقال آلاف الأفارقة بحجة وجودهم في مكان يحظر عليهم التواجد فيه أو لعدم حيازتهم لدفاتر الهوية.


كانت حكومة الابارتهايد تدعي أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في القارة الأفريقية رغم تعسفها وعنصريتها الواضحة. لكنها في حقيقة الأمر لم تكن أكثر من ديمقراطية المستعمرين الخاصة بالبيض دون السود. سر هذه الديمقراطية يكمن في قوانين وسياسات الدولة التي منعت السكان الأصليون من التصويت في الانتخابات والترشح للبرلمان، فقد اعتبرت حكومة الابارتهايد كل منطقة حوصر فيها الشعب الأصلي كدولة مستقلة. ابتداءا من ستينيات القرن الماضي، بدأت حكومة الابرتهايد بتشكيل أو الاعتراف بحكومات بعدد من هذه المناطق، والتي عرفت بالبانتوستانات أو المواطن المستقلة (homelands)، والتي شكلت معازل جغرافية للسكان الأصليين. وضع لكل بانتوستان رئيس من الشعب الأصلي وعلم ونشيد وطني، والاهم من ذلك أنها بقيت السيادة في ايدي حكومة الابارتهايد وبقيت حكومات البانتوستانات معتمدة عليها بشكل كامل في الجانب المالي، وفي العلاقات الخارجية، ووضع لكل بانتوستان أجهزة أمنية وظفت الجزء الكبير من أهاليها الأفارقة، ليس للدفاع عن أمنهم بل للدفاع عن مصالح حكومة الابارتهايد وأمن المستوطنين.

لم تنجح هذه التجربة على الصعيد الدولي. لم تعترف أي دولة أجنبية بالبانتوستانات كدول مستقلة- الا في حالة واحدة وهو البانتوستان المسمى بوفوثاتسوانا التي فتحت سفارة لها في مدينة تل أبيب. أما على الصعيد الداخلي، فقد نجحت حكومة الابارتهايد بإيجاد حل قانوني لإشكالياتها الأساسية وهي أن أغلبية السكان (90%) هم من الشعب الأصلي لا من المستعمرين، وبهذه الطريقة استطاع نظام الأبارتهايد أن يحافظ على سيطرة السكان المستعمرين الأوروبيين على الشعب الأفريقي الأصلي.

جريمة الأبارتهايد وإسرائيل

لا أريد أن أتعمق كثيرا في تفاصيل نظام الابارتهايد. النقطة الأساسية هي أن هذا النظام هدف لإبقاء سيطرة فئة المستعمرين مسيطرة على الأغلبية الأصلية. بموجب هذه القوانين والسياسات والممارسات النابعة عنها جرت عملية الانتهاك الممنهج لحقوق الإنسان الأفريقي. فقد تم اعتقال عشرات الآلاف من المناضلين الأفارقة ومناصريهم من المدنيين  في سجون ومعتقلات اشتهرت بأساليب بالتعذيب البشعة، وارتكب نظام الابارتهايد وقواته العديد من المجازر الدموية. في عام 1976 وبعد سنوات من الارتباك والخمول السياسي قام طلاب المدارس الأفارقة بتنظيم مظاهرات حاشدة ضد قوانين الابارتهايد، حيث قامت قوات النظام العنصرية بقتل أكثر من 500  وإصابة ما يزيد عن1000 متظاهر  فيما عرف بانتفاضة ومجزرة سويتو. إثر هذه المجزرة، اجتمع المجتمع الدولي في الأمم المتحدة وأصدر ميثاقاً هاماً حمل عنوان الإتفاقية الدولية لمحاربة جريمة الابارتهايد والمعاقبة عليها ( ميثاق الابارتهايد).

الواضح في الميثاق هو أن المجتمع الدولي، وبموجبه القانون الدولي، يعتبر الابارتهايد جريمة غير مقتصرة على جنوب أفريقيا، بل جريمة يمكن أن ترتكبها أي دولة، وأن دور المجتمع الدولي في حالة أنه وجد دولة ترتكب هذه الجريمة أن تتخذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية والإقتصادية مثل فرض العقوبات والمقاطعة الشاملة ومحاكمة الجناة، حتى تنتهي ارتكاب الجريمة. اعتبرت عدة مواثيق دولية هامة منذ 1976 (مثل ميثاق روما والميثاق الدولي لإزالة جميع أنواع التميز العنصري) الابارتهايد كجريمة مثل الإبادة والعبودية المحظورة دوليا. الجانب الهام الثاني لهذه المواثيق أنها وضعت تعريف واضح لهذه الجريمة. ورغم إختلاف الصياغة اللغوية في تعريف جريمة الابارتهايد في هذه المواثيق، يبقى القاسم المشترك بينها هو أن الدولة التي ترتكب جريمة الابارتهايد هي الدولة التي تسخر قوانين وسياسات وممارسات تنتهك حقوق الإنسان، بغية إبقاء أو إدامة سيطرة فئة (عرقية أو إثنية أو قومية أو دينية) معينة على فئة أخرى.

نجد بعض الذين بدأوا يتهمون إسرائيل بأنها ترتكب جريمة الابارتهايد يخطئون في طريقة تعبيرهم، فيحسبون أن عبارة الابارتهايد الإسرائيلي هو مجرد تشبيه بين نظامين قمعيين بهدف الترويج للقضية الفلسطينية. فترى العديد من الكتابات تحصر تحليلها على مقارنة بعض انتهاكات حقوق الإنسان في جنوب أفريقيا بانتهاك الحقوق ذاتها في فلسطين، أو يسردون الأمثلة على تشابه ممارسات النظامين وكأن الابارتهايد لائحة من الممارسات التي ارتكبها النظام العنصري في جنوب أفريقيا نقارنه مع ممارسات الدول الأخرى. يؤدي هذا الخطأ في فهم تعريف الابارتهايد الى عبارات تصف اسرائيل بأنها " شبيهة بالابارتهايد". نحن لا نقول أن ما حدث في رواندا ضد التوتسي واللا فاشيون من الهوتو هو " شبيه بالإبادة " فلماذا نعتبر نظام إسرائيل "شبيه بالابارتهايد" إذا كانت فعلا ترتكب هذه الجريمة؟

الأخطر من التشبيه هو حصر الابارتهايد الإسرائيلي في الممارسات العنصرية في الضفة الغربية وقطاع غزة، خاصة جدار الفصل العنصري والمستوطنات وانتهاك حرية التنقل ... الخ المبنية على التمييز بين المستوطن اليهودي والإنسان الفلسطيني. لا يمكن فهم الابارتهايد الإسرائيلي بهذه الطريقة، فيمكن أن ننظر لهذه الممارسات كجزء من سياسات الاحتلال التعسفي، ويمكننا أن نقول أنها تتسم ببعض عناصر الابارتهايد. أما إذا أردنا أن نفهم الابارتهايد الإسرائيلي على حقيقته ونعبر عنه للآخرين فهو يشمل كامل القوانين والسياسات والممارسات الإسرائيلية  ذات العلاقة بالشعب الفلسطيني بأسره.

الركن الأساسي الثاني من الابارتهايد الإسرائيلي هو الجانب الأيديولوجي الفكري للحركة الصهيونية. حجر أساس هذه الفكرة هي أن الأشخاص ذوي الديانة اليهودية هم قوم مميز، ومن واجبات هذا القوم أن يقيم دولة، وأن هذه الدولة لا بد لها أن تكون يهودية. عملياً (ونظرياً) الطابع اليهودي لهذه الدولة يعني أنه ينبغي على السكان اليهود فيها أن يكونوا ويبقوا أغلبية سكانية لها السيطرة السياسية والجغرافية والعسكرية في بقعة الأرض التي اختارتها الحركة الصهيونية موقعاً لل دولة اليهودية: فلسطين.

الركن الأساسي الثاني من الابارتهايد الإسرائيلي هو عدم تطبيق  حق عودة اللاجئين الفلسطينيين التي شردتهم الحركة الصهيونية لإنشاء الدولة اليهودية. فهذا انتهاك لحقوق الإنسان يهدف لإبقاء اليهود كأغلبية ديموغرافية بغرض إبقاء السيطرة للإسرائيليين اليهود (وهي الفئة القومية الدينية التي ترتكب الجريمة من خلال أجهزة الدولة بموجب القوانين والسياسات والممارسات). نضيف الركن الأساسي الثالث من الابارتهايد الإسرائيلي وهي سياسات وممارسات التمييز العنصري الممنهج بين الإسرائيلي اليهودي والفلسطيني، وقائمة هذه السياسات والممارسات طويلة تزداد طولاً مع مرور كل ساعة ومنها  مصادرة الأراضي وتهجير الفلسطينيون وتجريم النشاط السياسي الحر والتمييز الواضح في سائر مجالات الحياة من الخدمات الأساسية الى الحرية الثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية وفي مجالات الصحة والتعليم والتي تهدف الى إبقاء ما تبقى من الشعب الفلسطيني داخل الخط الأخضر وفي الضفة والقطاع في حالة ضعف بغاية إبقاء السيطرة في أيدي الفئة الإسرائيلية – اليهودية.

يجدر الذكر ان تحليل اسرائيل كدولة ابارتهايد ليس بديل ولا يقلل من واقع إسرائيل كدولة استعمار إحلالي واحتلال عسكري، لكن هذا التحليل يأتي كاستكمال لفهمنا القانوني والسياسي للنظام الإسرائيلي، ويضع التمييز العنصري في مكانها الصحيح كحجر أساس في السياسات الإسرائيلية. الجرائم التي يرتكبها الإحتلال في الضفة والقطاع تبقى جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان، ويتضاعف فهمنا لمدى خطورة هذه الجرائم عندما نرى أنها ترتكب كجزء من جريمة أكبر تستهدف جميع أبناء وبنات الشعب الفلسطيني.

مصادر قوة

جزء من أهمية تحليل إسرائيل كدولة ابارتهايد هو أنه يعيد توحيد أجزاء الشعب الفلسطيني على المستوى الفكري، ففي الأعوام الماضية، اعتاد العديد من المحللين والسياسيين أن يقسّموا معاناة الشعب الفلسطيني الى أجزاء: احتلال في الضفة والقطاع، المنفى واللجوء في قضية اللاجئين، التمييز العنصري وكبت الهوية الثقافية في حالة الفلسطينيون داخل الخط الأخضر. تحليل إسرائيل كدولة ابارتهايد يمكّننا من فهم هذه التجزئة كجزء من الجريمة ورؤية جريمة اسرائيل كجريمة واحدة أثرت على  كل فئة فلسطينية بطريقة خاصة، وان واجب المجتمع الدولي والإسرائيلي بإنهاء هذه الجريمة يتضمن واجب إزالة شتى أنواع العنصرية الإسرائيلية من العنصرية التي تمنع عودة اللاجئ الفلسطيني الى العنصرية التي تمنع الفلسطيني من بناء منزل في النقب أو الجليل أو مناطق "ج" في الضفة الى العنصرية المتمثلة بالجدار والمستوطنات وسرقة المصادر الطبيعية، الى عنصرية القوانين العسكرية وشبكة الحواجز العسكرية والهويات التي تميز بين الفلسطيني والإسرائيلي على أرض فلسطين.

هناك مصادر قوة اخرى لتحليل اسرائيل كدولة ابارتهايد في مخاطبتنا للعالم، فالربط بين سياسات اسرائيل وسياسات جنوب أفريقيا في عهد نظام الأبارتهايد تشكل نوعاً من الحافز الأخلاقي عند الأفراد والمؤسسات والحركات الإجتماعية الدولية للعمل لإنهاء هذه الجريمة. لقد انتصرت حركة التضامن مع جنوب أفريقيا بتحقيق مقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على حكومة جنوب أفريقيا على أعلى المستويات المؤسساتية والدولية، مما ساعد المقاومة في جنوب أفريقيا على تحقيق الجزء الكبير من مطالبها السياسية، وأهمها إزالة الابارتهايد السياسي في تلك البلاد. فترى أن أكثر حركات التضامن مع فلسطين فاعلية هي التي فهمت اسرائيل كدولة ابارتهايد والتي تعمل على مؤازرة الشعب الفلسطيني عبر عزل نظام الابارتهايد الإسرائيلي ونرى أيضا أن ردود الفعل الإسرائيلية الأكثر حدة على الصعيد الدولي هي في الساحات التي تطرح فيها اسرائيل كدولة ابارتهايد والتي تناقش الطابع العنصري للدولة. فنرى أن المؤتمر الدولي الوحيد الذي أعلنت اسرائيل مقاطعته في السنين الأخيرة هو مؤتمر مراجعة مقررات مؤتمر ديربان 2001 (الذي سينعقد في نيسان 2009). وهو النابع عن المؤتمر الدولي لمناهضة العنصرية والتي ستقوم مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني والدولي بطرح قضية الابارتهايد الإسرائيلي فيه بشكل ممنهج، واضح ومدروس.

__________________

حازم جمجوم هو منسق الاتصال والتواصل في مركز بديل، ومحرر مجلة "المجدل" الصادرة عن مركز بديل بالانكليزية.