بقلم: د. غادة كرمي*

بالنسبة لنا نحن الذين عشنا النكبة في عام 1948، فإن استمرار بقاء إسرائيل لمدة اثنين وستين عاما هو أمر لا يصدق تقريبا! فالفرار من القدس، مدينتنا الأصلية، في شهر نيسان عام 1948، وهو الأمر الذي أتذكره بشكل غامض، إلى الجارة دمشق التي اتخذنا منها ملجأ، لم نشعر في حينه أنه سيكون ملجأ دائما.

ولا يوجد أي شخص غادر فلسطين في ذلك الوقت شعر بطريقة مختلفة؛ فالرحيل من بيوتنا، بلداتنا وقرانا كان صادما، غير طبيعي، لدرجة أن المرء لا يستطيع فهم الأسباب التي تقف وراءه، ناهيكم عن التفكير في إمكانية أن يمتد مثل هذا الوضع إلى أكثر من بضعة أسابيع. وأن تكون مجبرا على الرحيل، مثلما كان حالنا، لقد خططنا – إذا كان أحد منا يستطيع استخدام تعبير كهذا لوصف حالة الفوضى المروعة والوحشية – لأن نكون بعيدين عن بلداتنا لفترة قصيرة من الوقت فقط؛ ولهذا السبب ترك كثير من الناس ملابسهم، أوراقهم وسندات ملكيتهم خلفهم. والآن، إذا نظرنا للوراء لأكثر من ستين عاما في المنفى، يبدو بعيدا عن التصديق، بأننا كنا نعيش في فلسطين، فالذاكرة تصبح أكثر ضعفا مع كل سنة تمر.

هذه نتيجة رائعة! لتأسيس دولة إسرائيل، الدولة التي لا مثيل لها بين الدول الأخرى. فهنا، هي ليست مستوطنة المستعمرين المباشرة، أو واضحة المعالم التي تحمل تاريخها الخاص، ثقافتها وعاداتها معها إلى المستوطنة الجديدة، كما حدث في حالات الاستعمار الاستيطاني الأخرى. وبدلا من ذلك، إنها تتشكل من مجموعات متنافرة مع فكرة واحدة توحدها: الحلول محل السكان الأصليين شعب فلسطين وشطب تاريخه، ومن ثم الاستيلاء على الثقافة الفلسطينية واعتبارها ثقافتهم. لقد قاد ذلك إلى التفكك الجسدي والارتباك النفسي في صفوف الفلسطينيين مع آثار طويلة المدى، ولكن يعود الفضل الأكبر للإصرار والصمود والمقاومة إلى مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات الذين استمروا في الحفاظ على هويتهم، وإلى حركة المقاومة الفلسطينية التي انطلقت في نهاية المطاف، وإلى منظمة التحرير الفلسطينية التي استدامت بفضلهم، وإلى نهضة الوعي الفلسطيني التي ظهرت أخيرا، وهي تزدهر حاليا.

وينبغي لهذه المقاومة أن تستمر وتتغذى عبر النبش في التاريخ الفلسطيني، قبل وبعد عام 1948، وفضح الأضاليل والأباطيل الإسرائيلية وهي واجب الباحثين، المؤرخين والمحللين الفلسطينيين. وينبغي أن يكون الاتجاه في المستقبل منصبا على إحياء الرواية الفلسطينية بجميع تفاصيلها، بما في ذلك تجديد جغرافية فلسطين، ومن ضمنها أسماء الأماكن العربية الأصلية، وتسجيلها من المصادر التي لا زالت حية وتلك التي غابت أو اندثرت. هذه هي المهمة التي يجري العمل عليها بشكل متزايد من قبل العديد من المراكز، ولكن ليس بدرجة كافية. ويجب أن تتوسع وتكبر لتشمل المزيد من الباحثين، المحفوظات والأرشيفات، علماء الآثار، المؤرخين والكتاب؛ وهكذا، حتى يتسنى لنا ولأطفالنا، ولأطفال أطفالنا أن لا يتركوا في حالة شك حول حقيقة ما حدث في عام 1948.

-------------------------------
* د. غادة كرمي: طبيبة وأكاديمية وكاتبة فلسطينية من أصل مقدسي مقيمة في بريطانيا.