بقلم: محمد المدني*

في الوقت الذي يناقش فيه الآخرون مدى تأثير الصراع الحضاري والثقافي والعولمة على الأجيال الناشئة، التي تشكل أزمة هوية لهم، فإننا كفلسطينيين إضافة إلى هذه المشاكل نزيد عليها مشاكلنا الخاصة بنا، وهي كيفية المحافظة على الثوابت الفلسطينية لدى هذه الأجيال.

وقد لا نبالغ إذا ما قلنا أن الأمر كله يتعلق بدرجة الانتماء الذي يجب علينا نحن كقادة أن نحصن به شبابنا، ومن ثم تأهيلهم سياسيا وفكريا ضد محاولات الاستقطاب الخارجي الهادفة إلى زعزعة الانتماء للوطن لدى بعض الناشئة من شرائح المجتمع المختلفة.

يجدر التنويه في بداية الأمر إلى الخطأ التاريخي الشائع بأن تاريخ النكبة يعود إلى زمن انتهاء الانتداب البريطاني وقيام دولة إسرائيل في 15/5/1948، حيث أن الوقائع التاريخية تؤكد بأن النكبة بدأت فعليا بقرار التقسيم في 29/11/1947، كما ويجدر التوضيح أن خلق قضية اللاجئين، لا يتحمل وزرها جيل بعينه، ولو عادت عقارب الساعة إلى الوراء اثنين وستين عاماً، لما اختلف موقف الأجيال الناشئة عن موقف الأجداد آنذاك في ظل الظروف السياسية التي كانت قائمة،

فمع قيام دولة إسرائيل وتوفر الدعم الدولي لها انتقل الفلسطينيون إلى واقع جديد، دخل الفكر والنظام السياسي الفلسطيني مرحلة نوعية جديدة، ولم يكن أمام شعب فلسطين وقيادته من خيار سوى رفض الاعتراف بهذا الواقع السياسي الجديد، ومن هنا بدأت المعركة من أجل البقاء. وحيث أن القضية الفلسطينية برمتها لا تحل بدون حل جذري لوضع اللاجئين، فقد أصبحوا مرتبطين بضرورة قيام دولة فلسطينية تنهي الشتات السياسي والتشرد البشري وتحيي الكيان الفلسطيني، وهذا ما عملت عليه النخب السياسية منذ البدايات.

وفي ظل التجارب التاريخية والعسكرية التي خاضها الشعب الفلسطيني وقيادته، والتي لا تخفى على أحد، كان التوجه السياسي هو الملاذ الأخير، وما كان ذلك إلا من منطلق التفكير بمسؤولية في كيفية إعطاء الأجيال اللاحقة الفرصة والقدرة على متابعة النضال. وحتى نستطيع أن نكمل مسيرة النضال التي بدأها قادتنا وأبطال الدفاع عن حقوقنا وثوابتنا، واستشهدوا من أجلها، فإننا اليوم ملزمون بالحفاظ عليها والدفاع عنها بنفس القوة والعزيمة، حتى ننقلها إلى الأجيال القادمة لتكمل بدورها المسيرة من بعدنا من دون كلل أو ملل، وبدون توان أو تراجع.

إن قضية اللاجئين تعرف في القاموس السياسي بأنها جوهر الصراع الفلسطيني /العربي - الإسرائيلي، إذ صدر بشأنها قرارات أممية ودولية وإقليمية كثيرة جدا، وليس عبثا أن احتلت الصدارة في أولويات الثوابت الوطنية، وعليه فإن حق العودة هو حق شرعي وطبيعي، فردي وجماعي، وكما كفلته الأديان تكفله المواثيق والقوانين الدولية. وهو حق مطلق، لا تملك أية جهة فردية كانت أم جماعية، شعبية أم رسمية، الحق في التنازل عنه. كما لا يجوز الاستفتاء عليه، وهذا ما كان عليه الموقف الرسمي الفلسطيني ولم يزل، ولن يتزحزح قيد أنملة مهما كان حجم الضغوطات.

وحتى لا يصبح واقعنا كواقع العرب في الأندلس، نخرج ونستقر فلا نعود، علينا أن نحمل الشعلة باستمرار، ونتأكد من عدم انطفائها، وهذا الأمر يتطلب أن نربي الجيل القادم على الثوابت التي رسخها الأولون، والتي ما تزال باقية في وجدان اليوم، وحتى نتمكن من نقل الشعلة بأمان إلى الأجيال الناشئة، علينا أن نكون نحن اليوم رواد العمل النضالي من أجل ترسيخ ثوابتنا الوطنية والدفاع عنها، وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وفي موقع الحامل الأمين للشعلة يمكننا أن نربي أجيالنا القادمة على حب الوطن والدفاع عنه، والحفاظ على وحدته ووحدة أهله، وحقهم بالعودة إلى أرضهم وحماية الكيان، والسعي بلا توقف لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

ولعل خير وسائل تعزيز التمسك بالثوابت الفلسطينية هو الحفاظ على الهوية الفلسطينية أولا بمكوناتها الوطنية والقومية، ومقاومة كل المساعي لطمسها، مستمدة القوة من عمقها التاريخي، ومعطيات الحاضر التَّحرُّري؛ وممكنات المستقبل المفتوح على استعادة القدرة على المشاركة في صنع الحضارة الإنسانية، وذلك استكمالاً للدَّور المهم الذي نهضت به منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، وسعياً مستمراً صوب الوصول بهذه الهوية إلى أعلى درجات الكمال الإنسانيِّ الممكن. ومن ثم لا بد من البدء بعملية تثقيف واسعة للفلسطينيين في كل مكان، تبدأ بالاتفاق على معنى القضية الفلسطينية، والتعريف الجغرافي والتاريخي لفلسطين، ومن هم الفلسطينيون وحقوقهم وتاريخهم، والعمل على أن يكون ذلك جزءا من البرامج التعليمية والتثقيفية والإعلامية والسياسية.

إن من حق كل فلسطيني أن يختار القيادة التي يعتقد أنها الأكثر حرصا على التمسك بالثوابت، وبالمقابل أن يمنحها كل الآفاق الممكنة، ومن ضمنها الخيارات السياسية المتاحة، وأن لا يكون هناك مجال للشك أن هذه القيادة ستفكر في يوم من الأيام مجرد تفكير أن تفرط بحقوق هذا الشعب ومقدراته ومقدساته. ولعل ما يحصل اليوم من ضغوطات سياسية لم تكن إلا نتيجة التمسك بهذه الثوابت.

هناك الكثير من الجهات التي يقع عليها عبء تفعيل الآليات والوسائل السياسية والقانونية والاقتصادية والإعلامية والتعليمية للدفاع عن الثوابت وبشكل خاص حق العودة، لنشر هذه الثقافة وتعميقها في نفوس الأجيال الشابة والناشئة، حتى تواصل القيام بدورها على أكمل وجه.

إن هذا الأمر لا يتعلق فقط بأخذ القرارات اللازمة، بل تطبيقها، فكل الهيئات الدولية والعربية والإسلامية والمنظمات الحقوقية والإنسانية لطالما دعت إسرائيل إلى الامتثال إلى القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، ولكن دون جدوى، بل إنها تتمادى في صلفها لتطالعنا مؤخرا بمصطلح جديد تنعت به المواطنين "بالمتسللين"، وهو قرار عنصري يرمي إلى تهجير قسري من نوع آخر، ولكن هذا لن يكون، فمن عَمِلنا على قدومهِ إلى أرضه لن يخرج منها دون عودة، بل سيبقى، وسنعمل كل ما في وسعنا إلى أن يعود الباقون.

--------------------------
* محمد المدني: عضو اللجنة المركزية لحركة فتح