رحلة إلى الولجة: حكاية أرض غصّت لجفاف عيون مائها وصمدت بثبات زيتونها

إعداد: مركز لاجئ – مخيم عايدة*

ينظم مركز لاجئ ضمن برنامج تنمية وتدريب الناشئة مجموعة من الأنشطة التي ترتبط بالمادة التثقيفية المعروضة في الفصول الأربعة. جزء من هذه الأنشطة مقترحة أصلا في المشروع، وجزء آخر منها يقوم مركز لاجئ بتصميمها لتسهيل تطبيق البرنامج ولتعميق الفائدة المرجوة من البرنامج السنوي. وتعتبر الرحلات والجولات الميدانية التي ينظمها المركز من الوسائل التعليمية الفعالة.

 

هذا التقرير يتناول رحلة ميدانية نفذتها مجموعة الناشئة إلى قرية الولجة المهجرة، بحيث يعكس أهمية هكذا أنشطة وأثرها المعنوي والتربوي على الأجيال الناشئة.

لماذا الولجة؟

يتناول المساق التدريبي لبرنامج تنمية الناشئة في مجال الدفاع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين مراحل نشوء القضية الفلسطينية وقضية التهجير المستمر بحق الشعب الفلسطيني. وهذا الجزء يحتوي على تفاصيل تاريخية وسياسية وقانونية كثيرة يصعب على الجيل الناشئ (14-16 سنة) الإلمام بها. وباعتباري المرشدة للبرنامج، وبناء على تجربتي في السنوات الثلاثة كمدربة، أرى أن الفائدة من هذا الجزء ليس في حجم المعلومات، بل في فهم أن التهجير كان وما زال سياسة استعمارية ظالمة تستهدف الشعب الفلسطيني كله يجب الوقوف أمامها بقوة. ولإيصال هذه الفكرة إلى الجيل الناشئ، سيكون من المفيد زيارة قرية مهجرة تقف بأراضيها وسكانها كشاهد حي على النكبة والنكسة والقمع والمصادرة والجدار والتهجير المتسمر، ولذلك تم اختيار قرية الولجة.

قرية الولجة تجمع جغرافيا وتاريخا وسياسيا بين المعاناة التي مرت بها الأجيال المتتالية من اللاجئين الفلسطينيين منذ العام 1948 حتى يومنا هذا. جزء من أراضي هذه القرية تم احتلاله عام 1948 حيث هُجر منها أهلها آنذاك، والجزء الآخر من القرية الذي لا يزال يعيش عليه القليل من سكان القرية تم احتلاله عام 1967 وبات جزءا مما يعرف بالضفة الغربية، أو الأرض المحتلة عام 1967، والبعض يسميه تجاوزا الولجة الجديدة. هذه التقسيمات والأسماء لا تعني شيئا بالنسبة لأهلها، فالولجة هي الولجة سواء ما احتل في عام 48 أو ما احتل في عام 67، أو ما تمت مصادرته في الأعوام التالية.

الرحلة والبرنامج والغايات

الرحلة إلى الولجة بالنظر إلى مساق التدريب تندرج تحت إطار التعبئة الوطنية لحق العودة ولحقوق اللاجئين الفلسطينيين، حيث أن القرية بأراضيها وسكانها و أشجار زيتونها تعطي المشاركين/ات في مشروع تنمية الناشئة فكرة عميقة عن مراحل النكبة وحياة اللجوء والتهجير، وعن المعاناة التي يمر بها أهل القرية ومراحل صمودهم وتمسكهم بالجزء المتبقي من القرية رغم ممارسات الاحتلال القمعية، بما يعزز روح النضال والصمود لدى المشاركين في برنامج التنمية للمطالبة بحقوقهم وعدم التفريط بها. والرحلة أيضا نشاط ترفيهي وتربوي – تعليمي، فهي تشجع على البحث والاستكشاف والإحساس بجمال الوطن والارتباط به، وتعزز لدى الناشئة الإيمان بضرورة العودة، ليس لان العودة حلم، بل لأنها الطريق لإنهاء معاناة اللجوء.

بالنسبة لي كمدربة كانت رحلة الولجة هي المرة الأولى التي اذهب فيها إلى القرية، رغم أنها لا تبعد عن مكان سكني في مخيم عايدة إلا بعض الكيلومترات. وكمدربة قمت ضمن أعمال التحضير للرحلة بجمع ما استطعت من معلومات عن القرية، الأمر الذي زاد من شوقي ليوم الرحلة. الأطفال ناشئة مركز لاجئ كانوا متشوقين جدا للرحلة، فقد رأيت في عيونهم بريقا لم أره من قبل إلا في الرحلة التي قام بها مركز لاجئ إلى يافا وحيفا وعكا في الأول من تشرين ثاني 2009 (النظر التقرير الخاص برحلة يافا حيفا على موقع مركز لاجئ) ربما كان ذلك تعبيرا طفوليا عن الرغبة في نزهة في أحضان الطبيعة واللعب هناك، ولكن لم يكن يفوتهم أن الرحلة تأتي ضمن برنامج تعليمي أيضا.

الطفلة الناشئة رانيا رومي 14 سنة من بيت نتيف تقول: " كنت فرحة لأنني سأذهب إلى الولجة خصوصا لأني لم أزرها من قبل... أكثر شيء أعجبني هو عندما جلسنا وسط القرية وبدأنا نتحدث عنها... كنت استمع للمرشدة آمال وانظر في كل الاتجاهات استكشف الحجارة والأشجار والماضي...". كم هو جميل أن يرى الأطفال صورة عن قراهم الأصلية! تقول الطفلة الناشئة سلسبيل المشايخ 14 سنة من بيت نتيف: " دهشت حينما رأيت كبر قرية الولجة وأراضيها الخصبة وجبالها الشاهقة، حلمت بقريتي بيت نتيف مع أنني لم أزر قريتي الأصلية إلا أنني أشعر بأن قرى فلسطين تشبه بعضها البعض وأحسست بأنني في قريتي". ومن الرائع أيضا أن يحس الأطفال ببؤس الحياة في المخيم، تقول الطفلة إيمان أبو شعيرة 14 سنة من بيت نتيف: " جلسنا في الطبيعة الخلابة غُصت في جبالها وأراضيها تشبّعت من هوائها النقي الذي يفرق كثيرا عن هواء مخيم العزة " مخيم بيت جبرين".

بعد الجلسة الإرشادية الأولى، قامت المجموعة بالتجول في القرية مشياً على الأقدام. كان الأطفال يتعلقون بكل شيء يقع تحت أنظارهم أو بين أيديهم وكأنهم يخشون أن تضيع اللحظة، كانوا يريدون الاحتفاظ بكل شيء. يقول الطفل طارق قراقع 14 سنة من علار: " ... مع أننا تعبنا من المشي ولكن كنا نواصل ونواصل لنرى أشياء جديدة ونتمتع بالمناظر الخلابة وبالطبيعة، كنا متشوقين جدا لالتقاط الصور فقد كنّا نلتقط الصور لنا عند كل مكان نقف عنده...". بالتأكيد فالصور بالنسبة لطارق توثيق أو للذكرى، ولكنها أيضا هي علاقة نسجها مع المكان، فمن المهم جدا أن يرتبط الإنسان بمكان حتى يحبه.

التنقل في الولجة لم يكن فقط تنقلا في المكان، بل ترافق ذلك مع تبدل الصور وما نتج عن ذلك من تغير المشاعر والأحاسيس والأفكار. فما كان يدور في أذهان الناشئة عندما توقفنا عند بناء حجري قديم حوله سور من الحجارة محاطٌ بقطعة ارض خضراء مليئة بنبات الخبيزة وأشواك برية، لالتقاط صورة جماعية، يختلف عما كان يدور في أذهانهم ومشاعرهم عندما وقفت المجموعة على قمة تل تنظر إلى الأراضي التي أخذها الاحتلال ليبني عليها المستوطنات. كانت الأفكار، أو كلمات التهجير، الاستيطان، المصادرة، وغيرها واقعا أمام الناشئة شاهدوه وأحسوه في مستوطنة "جيلو" التي تقع شرق القرية وأخرى جنوب شرق القرية " هار جيلو"، والأراضي التي تم الاستيلاء عليها، وأشجار الزيتون المقطعة والمقلوعة بهدف بناء مستوطنة جديدة وهي "جيفعات يائيل".

شجرة سيدنا احمد البدوي

سمعت عن شجرة سيدنا احمد البدوي، وهي شجرة زيتون عملاقة، وأردت أن اصطحب الأطفال إليها، من باب الاستكشاف. دلنا رجل طيّب على مكان الشجرة. لم أتوقع أن يكون لتلك الشجرة ذلك التأثير التعبوي على الناشئة. عبر أحمد أبو سرور، من بيت نتيف، عن دهشته عندما رأى الشجرة قائلا: " عندما ترى هذه الشجرة تظنها للوهلة الأولى عملاق أسطوري واقف في أرض قرية الولجة". وتقول سيرين فرج 14 سنة من المالحة: " دهشت عندما قال لنا رجلان كانا يجلسان جلسة عربية بقرب الشجرة ويرتشفان القهوة ويشربان النرجيلة، أن شجرة الزيتون هذه عمرها أكثر من 5500 سنة، واسمها شجرة سيدنا احمد البدوي...". عندما سمع ذلك طارق أضاف متحمساً: " يا إلهي! لقد تسلقت شجرة سيدنا احمد البدوي، وعندما نظرت عبر فجوة صغيرة في وسطها، تصوّرت في مخيلتي كيف هي جذورها قوية ومغروزة في الأرض ومتمسكة بأصالتها وهويتها وعروبتها مثل الفلسطيني تماما". وعلقت رانيا رومي: " فرحت كثيرا بالشجرة... أحسست عندما لمستها باني سلمت ايدي أجدادي...". كانت الذروة في سؤال المجموعة للرجلين: " من يحمي الشجرة؟" فرد الرجلان: " الله، واحنا بنحرسها... والأمل فيكو". قالت إيمان أبو شعيرة حزينةً: " من المحزن أننا لم نسمع عن شجرة سيدنا البدوي"، وتعجبت متسائلة: " لماذا لم يرد ذكرها في كتاب التاريخ الفلسطيني؟!".

الاستيلاء على "عين الحنية" مثال على الغطرسة

تشتهر قرية الولجة بكثرة عيون الماء الغزيرة، ومن أشهرها عين الحنية وعين أبو السمير، كان من المخطط أن تكون محطتنا الأخيرة زيارة "عين الحنية" ليتمكن الناشئة من رؤيتها والشرب من مياهها، ولكن في طريقنا إليها نصحنا رجل من القرية بعدم النزول، وذلك لأن الكثير من المستوطنين يأتون بحراسة الجيش كل سبت لزيارة العين. الغضب بدا على الناشئة عندما علموا أننا لن نتمكن من زيارة العين. وبعدما قررت تحويل مسار الرحلة حفاظا على أرواحهم ولضمان عدم تعريضهم للخطر، لاحظت في عيونهم عدم الرضا عن قراري، بل واللوم والغضب الشديدين. كانوا جميعا مفعمين بروح التحدي، وهذا ما جعلني اشعر بقيمة الارتباط بالمكان وبفائدة الزيارة رغم نظرات وهمسات عدم الرضا. وأثناء مشينا لمست التعب في تباطؤ وترنح الناشئة. وما كان ليحفزهم سوى وعدي لهم بأننا سنعود ونزور عين الحنية في مرة قادمة.

اثر الرحلة: نقاشات العودة وصورة الغد

وفي طريق العودة من الولجة عبر دير كريمزان أخذت نتائج الرحلة كوسيلة تعليمية تعبوية تظهر في نقاشات المجموعة وأحاديثهم مع بعضهم البعض. في الطريق رأى الأطفال قرية المالحة التي لا تبعد كثيراً. فقالت ريم سرحان 14 سنة من قرية المالحة: " ليتنا نستطيع زيارة قريتي لأريكم بيت جدي وجدتي وأرضهم المزروعة بأشجار الخروب واللوز والزيتون، كم أنا مشتاقة لأرى أرضنا وأعيد ذكريات جدي وأعيش اللحظة". وتحدث إياب العزة 14 سنة من بيت جبرين إلى المجموعة قائلا: " كم أتمنى أن أعيش في قريتي بيت جبرين، فحياة القرية تختلف عن حياة المخيم، في المخيم لا يوجد أرض حول بيتنا نزرعها أنا وجدي وأبي كيفما نشاء وأسقيها بنفسي، ولا مكان العب فيه كرة القدم والسبع حجرات...". فرد عليه آخر: " لما نرجع سوي ملعب في بيت جبرين".

في رحلتهم إلى قرية الولجة شاهد الأطفال التهجير، الاستيطان، المصادرة، الجدار... شاهدوا وجه إسرائيل الحقيقي، ولكنهم لمسوا أيضا معنى العودة، ولماذا يجب أن نعود. الرحلة إلى الولجة، خلال ساعات علمت الأطفال ما عملت على شرحه لهم خلال فصل كامل من اللقاءات الدورية.

------------
* تقع قرية الولجة إلى الجنوب الغربي من مدينة القدس، وتبعد عنها 8.5 كم، ومتوسط ارتفاعها 750م، وتبلغ مساحة أراضيها حوالي 17708 دونمات، وتحيط بها قرى: الجورة، بتير، بيت جالا، شرفات، القبو، رأس أبو عمار، عقور، وخربة اللوز. قامت المنظمات الصهيونية المسلحة بهدم القرية وتشريد أهلها البالغ عددهم في عام 1948 (1914) نسمة، وكان ذلك في 21\10\1948، وأقاموا مستعمرة (عامي نداف) عام 1950. لا تزال بعض المنازل الحجرية قائمة في موقع القرية، ولا يزال الماء يتدفق من أبنية حجرية إسمنتية مبنية فوق نبع الحنية الذي يقع غرب القرية، ويستعمل موقع القرية الاصلي متنزها للإسرائيليين.