إستراتيجية الدفاع عن النفس أمام سياسة النفي والإلغاء

بقلم: عيسى قراقع*

لا زلت أراقب هذه "الثورة النشاطية"، والتي اندفعت في السنوات الأخيرة، للمؤسسات والجمعيات واللجان الفلسطينية وما يصدر عن أعمال فكرية وإبداعية وفنيّة متعددة، وما ينظم من ندوات ومهرجانات ومسابقات وصلت إلى مستوى الحضور العالمي، وكل ذلك وسط واقع احتلالي قاسٍ يستهدف تجفيف الحياة الفلسطينية وتحويل الفلسطينيين إلى يائسين ومحطمين وبلا أحلام.

ولأن الحركة الثقافية والإبداعية في هذا الوطن تبلورت من وجع الواقع، وتطورت في الميدان أو في السجون، فإنها عاشت نبض الناس وتفاعلت مع القضية؛ فاستمدت منها الحياة ونفثت فيها روح الصمود والإرادة. لذا، فأن تنظم مؤسسة ما سلسلة من الفعاليات الثقافية، وأن يولد مهرجان من رحم واقع مرير، فذلك لا يشكل خروجاً عن السياق بقدر ما يعبّر عن إصرار الفلسطينيين على الحياة بأشكالها وتجسيداتها الاجتماعية والثقافية والإبداعية والفكرية والأخلاقية.

النشاطات الإبداعية والثقافية التي نشهدها هذه الأيام في الضفة والقطاع بعد سنوات من الركود هي علامات مضيئة في مسيرتنا الثقافية والسياسية وتحدٍّ إنساني وأخلاقي لظلم وجور الاحتلال. لقد كان شعبنا مبدعاً في الماضي، وهو كذلك اليوم، لما قدمه من شعر وفن تشكيلي ورواية وقصة قصيرة ورقص تعبيري وموسيقى وسينما... وهو ما يبرهن أن الاحتلال بأدواته المتعددة وإن اجتاح الأرض فقد فشل في اجتياح الفكر والإرادة.

في السنوات الأخيرة، ومنذ عام 2000، تراجعت الإصدارات والندوات والمحاضرات الثقافية، وحصل شبه غياب للأغنية، وبدت موسمية المسرح والأعمال الفلكلورية، إلا أنها انطلقت فيما بعد كقوة روحية وإلهامية عوضت النقص في ضعف الفلسطينيين المادّي أمام جبروت القوة المسلحة الإسرائيلية؛ هذه القوة التي اعتقدت أن الحرب كفيلة بحسم الوجدان الثقافي الفلسطينية وهزيمته تمهيداً لفرض شروط الاستسلام وفرض الأمر الواقع.

في تجربتنا التحررية المعاصرة لم يتغيب المثقفون والمبدعون عن المشاركة في العمل النضالي الميداني المباشر، ولا عن العطاء الخصب على طول امتداد جبهتهم الثقافية والفكرية والإبداعية، ودفعوا استحقاقات هذه المشاركة ثمناً مهروه بالدم وبالاعتقال وبالنفي من الوطن إلى درجة نستطيع القول فيها أن الانتفاضة الشعبية الأولى كانت انتفاضة ثقافية إنسانية من الدرجة الأولى، لعب فيها المثقفون والمبدعون دوراً هاماً عندما استنفروا طاقاتهم وإمكاناتهم ووظفوها في خدمة الحدث الوطني الكبير.

الزخم الكبير للنشاطات الثقافية بتجلياتها المختلفة يعبّر عن تمرّد على واقع الاحتلال والاستعمار والتألق بإنسانية الإنسان الفلسطيني إلى مشهد المقارنة بين من يريد الحياة وبين من يذبح حياة الآخرين. أن تمارس حياة طبيعية في واقع غير طبيعي هي أسطورة فلسطينية متميزة وإستراتيجية دفاع عن حق الوجود والعيش بكرامة وبحرية. وأن تكتب أو تصوّر أو ترسم، لا لتؤرخ ولا لتصف واقعاً فقط؛ بل لتصنع حلماً لمستقبل أجمل، هي مقاومة لحالة الذبح؛ أي الاحتلال والاستعمار.

عندما رأيت فرقاً فنيّة ترقص في شوارع رام الله، تصدح بالأهازيج والأغاني، وعندما رأيت أطفالاً يرسمون قراهم المدمّرة عام 1948 على جداران المخيم، وشاهدت أفلاماً فلسطينية تتقدم عالميا، ومسلسلات مثل "التغريبة الفلسطينية" في رؤيا حداثية تقف على مسرح الحاضر، تنظر إلى الماضي، وتحلل ما دار على مسرحه خدمة للحاضر، وعندما قرأت ديوان الحب "سرير الغريبة" لمحمود درويش، شعرت بمعجزة الفلسطيني الذي يعبّر عن إنسانيته ويتصرّف بشكل عادي وسط الظلام والحصار، فلا يستسلم لما يمليه عليه الاحتلال من لغة وأدوات التعبير.

إن مشروعنا الثقافي هو قوّة عظمى لحماية ذاكرتنا الجماعية وحقنا في سرد روايتنا التاريخية والدفاع عن وعينا التاريخي وتطوير آليات التعبير عن انتمائنا القومي والإنساني وتعميق ثقافة الديمقراطية والحرية والكرامة ومفاهيم حقوق الإنسان، وهذه القوة هي التي تحاصر دولة الاحتلال المنحدرة عميقا في العنصرية والكراهية والخوف من الآخر المستضعف.

ولعل مأزق المشروع الصهيوني هو مأزق هويتهم الثقافي التي ما زالت قلقة ومتوترة برغم ما استخدم في سبيل تحشيدها من قوة مسلحة وأساطير خرافية. نحن ما زلنا أقوياء بهويتنا، ويكفي ان جبرروت دولة الاحتلال لا زال يرتعد أمام مشهد أطفال فلسطينيين يمارسون اللعب قرب الجدار، وفي الحصار يكسرون حظر التجول ويتصرفون كبشر عاديين وهم يغنون:
غَصْبْ عنهم بدْنا نلعَبْ
غصْبْ عنهم بدْنا نحبْ
غصْبْ عنهم غصبْ عنهم
بدْنا نغني أغاني الحُبْ
بدْنا نصْحى مِنْ بكّير
زيْ طيور الحبْ نطيرْ
ونعيش زَيْ أطفال العالمْ
وفي دْروب الحرية نْسيرْ
غَصْبْ عنهم ...

------------------
* عيسى قراقع: وزير شؤون الأسرى والمحررين، عضو مجلس تشريعي، وعضو جمعية عامة في مركز بديل.