الفن المقاوم: التربية المُقاوِمة من خلال الفنون والثقافة الشعبية في مخيمات اللاجئين في بيت لحم

بقلم: ريتش وايلز*

 على مدى سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، وبالعودة إلى زمن أبكر بكثير، مثّل المجتمع المدني الفلسطيني شبكة من المنظمات الشعبية والمسيسة التي تدعم الكفاح الوطني والحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف. وفي مخيمات اللاجئين، عملت مراكز الشباب النشطة واتحادات المرأة على مستوى المجتمع المحلي، في اغلب الأحيان سرا، على تنظيم الناس معا بطريقة خاصة حيثما كان ذلك ممكنا. وقد لعبت هذه المنظمات دورا هاما في النضال التحرري الفلسطيني، وقامت بدعم ومناصرة المقاومة بأساليب مختلفة باعتبارها أدوات تؤدي بها دورها النضالي.

وفي خضم أنشطتها، كانت تنظم أعمالا ثقافية وفنية جماعية مثل الدبكة الشعبية وفرق الزجل الشعبي، وقد واصلت هذه التقاليد الغنية في دعم ومناصرة الحقوق الوطنية، واستمرت في  ممارسة حقها في المقاومة باعتبارها جزء من الكل الفلسطيني.

 

 لم تكن هذه العناصر الثقافية للمقاومة الفلسطينية تحمل أي جديد؛ فقد كان الكتّاب، والفنانون، والشعراء، والموسيقيون يلعبون دورهم الخاص في الكفاح الوطني، فكتابات غسان كنفاني، وشخصية خنظلة الخالدة لناجي العلي، وشعر المقاومة لمحمود درويش وسميح القاسم، هي مجرد أمثلة قليلة على الممارسات الفنية والثقافية التي لاقت رواجا في داخل فلسطين وخارجها خلال معركة الدفاع عن فلسطين وشعبها وحقوقه.

 

إن مثل هذه الشخصيات الثقافية المشهورة لا زالت راسخة في الوجدان الوطني الفلسطيني هذه الأيام، كما أنها تحمل القضايا الفلسطينية إلى بيوت وضمائر الناس في جميع أنحاء العالم، ولم يكن لدى سلطات الاحتلال أية شكوك حول أهمية وخطورة هذا العمل، حيث أظهرت ذلك من خلال عمليات الاغتيال والاعتقالات للعديد من الفلسطينيين الذين استخدموا الفنون والثقافة باعتبارها "سلاح" المقاومة الخاص بهم؛ غسان كنفاني، وهو لاجئ من عكا، تم اغتياله في بيروت في تموز عام 1972؛ ناجي العلي، لاجئ من قرية الشجرة في الجليل؛ تم اغتياله بإطلاق النار عليه في صيف عام 1987 عندما كان يعمل في لندن؛ سميح القاسم، فلسطيني من مواطني إسرائيل، تم سجنه عدة مرات بسبب مناصرته للحقوق الفلسطينية.

 ونظرا للتغيرات التي طرأت على الروح الجماعية للقواعد الشعبية الفلسطينية وفي السياسة الفلسطينية منذ اتفاقيات أوسلو؛ قد يتساءل المرء ماذا حدث للمجتمع المدني هذه الأيام في إطار المقاومة الثقافية؟ ولمعالجة هذه القضية، فإن هذه المقالة سوف تتناول منطقة بيت لحم كدراسة حالة، وتنظر من خلال مخيمات اللاجئين الثلاثة فيها إلى تنوع الأعمال الثقافية والفنية التي يتم القيام بها وفقا لثوابت النضال الفلسطيني.

 الفنون الجماهيرية

 في صيف عام 2008، استضاف مركز الشراع في مخيم الدهيشة واحدا من مخيماته الصيفية السنوية، وبشكل مشترك مع معظم المخيمات الصيفية في فلسطين، تدمج برامج مركز الشراع بين النشاطات الترفيهية وبين البرامج الثقافية الهادفة لتعزيز إدراك المشاركين لحقوقهم.


الطفل حنظلة هو توقيعي، كل شخص يسألني عنه أينما أذهب، لقد أنجبت هذا الطفل في الخليج وقدمته للناس، اسمه حنظلة، وقد وعد الناس بأنه سيظل صادقا مع نفسه، رسمته على شكل طفل غير جميل؛ شعره مثل المسامير على القنفذ الذي يستخدم أشواكه كسلاح. حنظلة ليس سمينا، أو سعيدا أو مرتاحا، ولا هو طفل مدلل، وحافي القدمين مثل أطفال مخيمات اللاجئين، وهو الرمز الذي يحميني من الوقوع في أخطاء. على الرغم من ذلك، انه بريّ، تفوح منه رائحة العنبر، ويشبك يديه وراء ظهره كعلامة على الرفض عندما تعرض علينا حلول على الطريقة الأمريكية

 

ولد حنظلة في العاشرة من عمره، و سيظل دائماً في العاشرة ، ففي تلك السن غادرتُ الوطن، وحين يعود، حنظلة سيكون بعد في العاشرة، ثم سيأخذ في الكبر بعد ذلك ... قوانين الطبيعة المعروفة لا تنطبق عليه، إنه استثناء لأن فقدان الوطن استثناء ،.. وستصبح الأمور طبيعيةً حين يعود للوطن ..لقد رسمته خلافاً لبعض الرسامين الذين يقومون برسم أنفسهم ويأخذون موقع البطل في رسوماتهم ... فالطفل يُمثل موقفاً رمزياً ليس بالنسبة لي فقط ... بل بالنسبة لحالة جماعية تعيش مثلي وأعيش مثلها. .. قدمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة، في البداية قدمته كطفل فلسطيني لكنه مع تطور وعيه أصبح له أفق قومي ثم أفق كوني إنساني.

 عايد عرفه هو فنان شاب من مخيم الدهيشة، ممارساته تعكس هويته، وذلك لا يعني أن عرفه عالق في الماضي، فالواقع هو عكس ذلك: فإن فنه يمثل التقدم ورؤية معاصرة بدون أن يفقد الارتباط بجذوره وأصله، فالعديد من لوحاته الجدارية يمكن مشاهدتها في محيط مخيم الدهيشة ومخيمات اللاجئين الأخرى في بيت لحم، وأيضا في داخل المدينة نفسها. وخلال المخيم الصيفي لمركز الشراع، عمل عرفه مع 40 مشاركا من فتية مخيم الدهيشة، تتراوح أعمارهم بين 11-15 عاما، وذلك من أجل رسم جداريات عامة جديدة حول المخيم، وغالبا ما تشاهد اللوحات الجدارية في طرقات مخيمات اللاجئين مزينة برموز وطنية تقليدية – مفاتيح، خرائط فلسطين، خيام، حنظلة، وبرموز أخرى مشابهة من ذات النوع. وتتبع بعض أعمال عرفه هذه الطريقة، وهو يقول أن منظمي هذه المشاريع التعاونية الشبابية يطلبون مثل هذه الرسومات على وجه التحديد:

 يطلب الناس مفاتيح، خيام، وحنظلة، وهي سياسة ورموز في نفس الوقت، بالنسبة لي، من المهم أن يظل حنظلة على قيد الحياة، ولكن يجب علينا أيضا أن نتعلم أن نعمل بطرق جديدة، وإذا ما تمت المبالغة باستخدام حنظلة فإنه يصبح لا شيء. ونحن نحاول بناء مهارات الشباب وتهيئة المجال أمامهم للتفكير في السياسة بطرق جديدة.

 ويشير عرفه إلى أن ناجي العلي قد أبدع شيئا جديدا عندما رسم شخصية حنظلة الخالدة والأكثر شهرة للمرة الأولى؛ تصورات حنظلة النقدية للحياة وتمسكه بالوجدان الوطني بكلتا يديه، بعد ذلك عرف ناجي العلي أن روح حنظلة ستظل حية (فقال هو نفسه أن حنظلة كان "خالدا")، وربما أراد أيضا أن يكون استمرارا لأفكار جديدة تتحدى الأنظمة القمعية. فقد كان العلي الشخص الذي تحدى الأنظمة في جميع أعماله مع التركيز على الاستعمار في أرض وطنه، كما تحدى الفساد في منظمة التحرير الفلسطينية وانتقد خنوع الدول العربية، ولم يكن عمله يتسم بالمهادنة في هذا السياق. ويعتقد عرفه بأن الأعمال المعاصرة يجب تتبع هذه الأمثلة: " نحن نهدف من هذه المشاريع أن نجد فنانين شباب ونعلمهم مهارات الرسم، ونوفر لهم المواد والمكان، ونشجعهم على التفكير. نحن نزودهم بالأسئلة، وهم يقدمون الإجابات بواسطة الفن".

 تشرح بعض اللوحات التي أبدعها شباب مخيم الدهيشة خلال المخيم الصيفي لمركز الشراع هذا التفكير، إحدى هذه الجداريات التي يراها الفنان عرفه مهمة بشكل خاص؛ تظهر فيها شجرة عارية بدون أوراق، وخلفية من بحر أزرق واسع، سمكة ملونة تسبح في المحيط،، كواكب مرئية في السماء، وطائفة من الفواكه المتنوعة تتدلى من الشجرة – لا يوجد خيام أو مفاتيح، كما لا يشاهد حنظلة فيها. وأوضح عرفة بأن الرموز المستخدمة تمثل الوجوه المختلفة للحياة تجمعت معا في مكان واحد – الطبيعة، البحر، الغذاء، رموز للحياة ولكوكب الأرض العامر. ولكن الصورة هي فلسطينية أيضا – فالبحر الأزرق هو بحر يافا أو عكا، أما الشجرة وفقا لكلمات عرفة فـ" قد تكون قرية راس أبو عمار المهجرة على سبيل المثال"- وهكذا، فإن اللوحة تعكس جوانب من الحياة الفلسطينية من المناطق الساحلية ومن القرى الفلسطينية الداخلية. وفي هذا السياق، فإن اللوحة الجدارية تعبر بوضوح عن الرواية الفلسطينية دونما حاجة إلى التعبير الصريح عن معاناة الفلسطينيين أو اللجوء لاستخدام الرموز التقليدية.

 لقد راقت فكرة البحر للناس في المخيم، فطلب منا كبار السن أن نرسم برتقال يافا على الشجرة، وآخرون طلبوا أن نرسم أسوار عكا القديمة. لقد فهموا ما كنا نقوم به؛ أعتقد أن الناس يريدون شيئا جديدا. لقد كانت ردود فعلهم كافية بالنسبة لي ...

 يقول عرفه أن الأطفال أرادوا رسم لوحات لفلسطين، ورأوا أنهم يجب أن يستخدموا الرموز التقليدية من أجل ان يقوموا بذلك، ولكنه شجعهم لتطوير طرق جديدة لتقديم فلسطين بدون إنكار أو نسيان هويتهم. وهناك لوحات أخرى تظهر حدائق جميلة تتدلى منها قطوف عنب ناضجة وطازجة، وهناك بعض الأطفال أرادوا أن يعبروا بشكل مباشر عن الرمز الاستعماري المعاصر من خلال لوحة لجدار الأبارتهايد الإسرائيلي.

 وتعود جذور هذه الممارسة إلى مرحلة ما قبل أوسلو، وغالبا ما نفذت تحت جنح الظلام، عندما كان الشباب يكتبون شعارات المقاومة أو يرسمون الأعلام الفلسطينية على الجدران، في ظل مواجهة مخاطر الاعتقال أو الاستشهاد وهم يقومون بذلك، حيث لم يسمح الجيش الإسرائيلي بأية عروض عامة أو رموز وطنية.

ومثل هذه الأعمال التي تبدو صغيرة كانت تتطلب الكثير من التخطيط، وتنطوي على مخاطر كبيرة، ولكنها كانت تنفذ باعتبارها أعمال مقاومة. ومنذ أوسلو، تطورت خطوط الرسم والكتابات السياسية والرسوم الجدارية حيث لم تعد قوات الاحتلال تستهدف هذه الأعمال. وهذه الأيام، تمتلئ جدران المخيمات، والمدن الفلسطينية بدرجة أقل، بلوحات جدارية كبيرة ومفصلة، والتي قد تحتاج إلى أيام أو أسابيع للانتهاء من تنفيذها. ويرى عرفة بأن " عملية التنفيذ هي المقاومة وليس الفعل في حد ذاته"، وهو يشعر بان الجداريات هي تعبير ملموس عن المقاومة الموجودة في عقول الناس، وبأنه ينبغي لهذه العملية أن تنظر في جميع جوانب إبداعها بما في ذلك المواد نفسها:

  يجب أن نفكر في كل مستوى وأن نفهم ممارستنا، كنت قبل سنوات ماضية أستخدم الدهانات الإسرائيلية، ولكنني اليوم أستطيع الحصول عليها من نابلس، أو استخدم دهانات وألوان مصنعة في الدول العربية أو أوروبا، فكروا في مدى السخرية المرعبة الموجودة في استخدام دهانات إسرائيلية لرسم حنظلة.

 إن فهم هذه التناقضات هو دليل على ممارسة المقاومة من خلا ل عملية التفكير، التخطيط، التنفيذ، وليس مجرد تشدق بالتقدير لما هو مرئي فقط. وعلى نفس المنوال، عرض على عرفه مؤخرا مبلغا هاما من أجل أن يرسم لوحة على جدار الفصل العنصري لصالح مغني أمريكي كدعاية لفيديو موسيقى، إلا أن الفنان عرفه رفض العرض، وعبر عن ذلك بالقول: " أنا لن ألمس الجدار بالألوان، فقد اعتاد الناس أن يأتوا ويشاهدوا جدارا رماديا عاريا ويشعرون بالصدمة، وهم يأتون الآن ويرونه وكأنه برج ايفيل، كأنه عامل جذب سياحي، أنهم يرون الآن جمالا وليس معاناتنا...".

 

صوت عالمي للمعارضة

 

 

 في مخيم الدهيشة أيضا، يوجد مركز إبداع النشيط جدا، والذي يحظى باحترام كبير كنتيجة للأنشطة القاعدية المتنوعة التي يقوم بها، ومن بين العديد من المشاريع التي ينفذها المركز، هناك مشروع على وجه الخصوص يوفر شكلا معاصرا آخر من أشكال دعم المقاومة وممارستها من خلال الثقافة، "سوء حظ" (Bad Luck) هي مجموعة "هيب هوب" من أربعة رجال تكرس كل أغانيها للدفاع عن فلسطين، وفي عرض أخير لها في جامعة بيت لحم، قام ثلاثة من أعضاء المجموعة – ضياء، محمد، وسعود – بتقديم عرضهم بعنوان "تطبيع"، وهو عرض يشتمل على نقد حماسي للأشخاص والمنظمات الذين يقيمون أنشطة مع إسرائيليين بينما يستمر التنكر الإسرائيلي للحقوق الفلسطينية. وبينما يجري توصيل هذا النقد على يد ثلاثة من اللاجئين طلبة المدارس وهم بعمر 17 سنة، كان يوجد في نفس الوقت في كافتيريا الجامعة فلسطينيون اكبر سنا و" أكثر تعليما" (بالمعني الأكاديمي فقط)؛ يقومون بتناول الأطعمة والمشروبات الإسرائيلية.

 وعندما تريد "سوء حظ" أن تكتب أغنية جديدة، فإنها تقوم ببحث ودراسة القضايا المطروحة، ويتذكر سعود عملية كتابة "تطبيع"، فيقول: " عملنا ليس تعليميا بالضبط... انه أشبه بشرح القضايا للناس، بالنسبة لحملة المقاطعة، سحب الاستثمارات وفرض العقوبات – قمنا بدراسة جميع المسائل، الايجابيات والسلبيات، ومن ثم كتبنا ذلك في موسيقانا وكلماتنا".

 يقوم أعضاء مجموعة "سوء حظ" بتثقيف أنفسهم، إنهم يتعلمون عن حياتهم ويكافحون من أجل الكتابة، وفي النهاية يتواصلون مع الآخرين عبر الموسيقى والغناء، وقد تحول فنانو "الهيب هوب" الشباب إلى جماعة، وشرعوا في الكتابة عندما كانوا في الثالثة عشر من العمر، وذلك كطريقة للتعبير عن أنفسهم و" تغيير طريقة تفكير الناس". ويقول ضياء أنهم واجهوا بعض المشاكل في أيامهم الأولى: " كانت فكرة جديدة، وكان الناس مترددين لأنهم اعتقدوا بأننا نقوم باستدخال الثقافة الأمريكية وقيمها".

 ولكن، وبعيدا عن قبول فكرة الأمركة، فإن الأولاد يعرفون أنهم يعيشون في عالم معولم، ويشعرون بأنه ينبغي لهم أن يأخذوا ما يمكن أن يفيدهم من أشكال فنون "الهيب هوب" المتأصلة في النضالات ضد القمع والعنصرية المشابهة للنضال الفلسطيني. ويتابع سعود:

 الهيب هوب هي لغة عالمية للمقاومة؛ نحن نستخدم الهيب هوب من أجل أن يستفيد منها الناس الذين يحاولون الكفاح بطرق مختلفة، وهكذا، نحن نريد العمل بطريقة جديدة تركز على جيل الشباب، بشكل يمكنه التأثير على طريقة تفكير الناس. لقد كشفنا في أغنية "تطبيع" آثار التطبيع وأثره على فلسطين – ونستطيع رؤية النتائج من هذه الأغنية في الطريقة التي يفكر بها بعض الناس حاليا تجاه التطبيع.

 أغاني المجموع طرقت قضايا وطنية أخرى ومهمة، مثل الأسرى الفلسطينيين، حق العودة والنكبة، والقصف الإسرائيلي لقطاع غزة عام 2009. وحاليا، تنظم "سوء حظ" ورشات عمل "هيب هوب" في مؤسسة إبداع لمساعدة الأطفال الصغار على استخدام هذا النوع من الفن في التعبير عن أنفسهم، ويشارك في هذه الورشات خمسة عشر طفلا ولمدة ستة أشهر، وليس مفاجئا أن يكون لدى أطفال لاجئين يعيشون تحت احتلال عسكري الكثير ليقولونه. يذكر سعود انهم: " كتبوا حول جدار أبارتهايد إسرائيل، وعن الاجتياحات الإسرائيلية للمخيم، كتبوا "وصية" حول مشاعرهم وماذا يريدون، وحول حياة الأطفال في المخيم".

 أريج الجعفري، هي إحدى المنسقات في مؤسسة إبداع، وهي ترى "الهيب هوب" والمشاريع الخلاقة الأخرى في المؤسسة في إطار سياقها التاريخي:

 هي مقاومتنا الثقافية لأننا نحبها – وهي موجودة في جذورنا، لقد فعلها أجدادنا من خلال الغناء والرقص؛ إنها من نكون وهي جزء من ثقافتنا، نحن نتذكر النكبة ولكننا نعيشها يوميا، إنها لم تتوقف أبدا، القمع يجعل الناس خلاقين، وهو حقنا في الكفاح بالطريقة التي نختارها، إنها وسيلتنا للبقاء وسنستمر دوما في أن نكون مبدعين.

أحلام الوطن

 

 أيضا، يزدهر عمل ثقافي مع القاعدة الشعبية في مركز لاجئ في مخيم عايدة، ومثلما يجري في جميع المراكز، تلعب الدبكة الشعبية دورا رئيسيا في نشاطات "لاجئ"، ولكن المركز يستخدم وسائل أكثر حداثة، حيث قام بإنشاء منبر عالمي حقيقي لأعضائه الشباب، فقد بدأ برنامج التصوير الفوتوغرافي عام 2005 كمشروع يهدف إلى تطوير مهارات فنية يستطيع الأعضاء من خلالها استكشاف سبل جديدة للتعبير عن أنفسهم.

 ولعل استخدام مشاريع التصوير الفوتوغرافي في أوساط الشباب الذين يترعرعون في ظل ظروف اجتماعية وسياسية مختلفة وفي خضم الصراعات هي ليست فكرة جديدة، وقد مورست في ظل نظام الأبارتهابد في جنوب أفريقيا، وفي أوساط الأطفال اللاجئين من كولومبيا، وأكثرها شهرة على الإطلاق هي المنظمة الدولية غير الحكومية "فوتوفويس" Photovoice التي عملت مع الأطفال في جميع أنحاء العالم ومن ضمنها أفغانستان، جمهورية الكونغو الديمقراطية، وسريلانكا وبلدان أخرى، كما أن هذه الممارسة تستخدم على نطاق واسع في فلسطين.

 في مركز "لاجئ"، اظهر الأطفال والشباب بين سن 11-20  سنة شغفهم لتعلم هذه المهارات الجديدة، ومن أجل استخدامها كأدوات للتعليم، والتواصل، والمقاومة. والجوانب التربوية لمثل هذا العمل هي متعددة المستويات؛ فعلى المستوى العام، يتعلم المشاركون أنفسهم مهارات إبداعية جديدة ربما ليس بوسعهم الوصول إليها، وثانيا، يستخدم المشاركون هذه المهارات للتعرف على أنفسهم، هويتهم، وعلى العالم الذي يعيشون فيه. وقد كان ذلك مجال تركيز هذه المشاريع، التي لم يكن هدفها مجرد إنتاج صور جمالية تثير البهجة، ولكن من أجل تنفيذ مشاريع يتعرف الأطفال من خلالها على قضايا أوسع بكثير من التصوير في حد ذاته.

 وقد تم استخدام التصوير في مشروع عام 2006 بعنوان "حقوق الطفل في فلسطين" باعتباره وسيلة يمكن للأطفال أن يتعرفوا من خلالها على معاهدة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الطفل، في المرحلة الأولى من خلال دراسة المعاهدة نظريا، وبعد ذلك استخدام التصوير الفوتوغرافي عمليا من أجل توضيح حقائق المعاهدة على أرض الواقع في حياتهم اليومية.

 وفي مشروع عام 2007 بعنوان "بحلم في الوطن" والذي شارك فيه سبعة عشر مشاركا بين 11- 15 عاما، وقاموا بدراسة تاريخهم الخاص باعتبارهم لاجئين، وقد اشتمل المشروع على إجراء مقابلات وكتابة مقالات مستندة على إلى القصص الشفوية التي ترويها ذاكرة أجدادهم عن الحياة الفلسطينية قبل النكبة. وفي أعقاب هذه العملية، وبعد حصول الأطفال على معلومات أساسية متينة، تم اصطحاب الأطفال إلى قراهم الأصلية، وكان العديد منهم يشارك في مثل هذه الرحلة التعليمية ويزور بلده الأصل للمرة الأولى، من أجل أن يشاهدوا بأنفسهم الواقع الحالي في ديارهم الأصلية، ويقوموا بالتعامل معه مستخدمين مهاراتهم الجديدة في التصوير الفوتوغرافي.

 في مشروع " بحلم في الوطن"، كان الأطفال بمثابة "عيون للمخيم"، فلكونهم تحت سن السادسة عشرة وبدون بطاقة هوية ومصطحبين من قبل كبار يحملون جوازات سفر أجنبية، فقد تمكنوا من عبور جدار الفصل العنصري ومن ثم "الخط الأخضر" من أجل العودة إلى قراهم الأصلية. وبعد رجوعهم إلى مواطن لجوئهم قاموا بتنظيم عرض للمعلومات والصور الناتجة من خلال معرض صور أقاموه في مركز لاجئ، ودعوا إليه سكان مخيم عايدة وزوار وأصدقاء المركز، ثم تنقل هذا المعرض في أنحاء عديدة من أوروبا، كما تم عرضه في "ملبورن" و"سيدني"  في مناسبات كبيرة مثلت طليعة نشاطات إحياء الذكرى الستينية للنكبة في أيار عام 2008.

 وقد تم إصدار " بحلم في الوطن" في كتاب أحتوى على كل من الصور وعلى الروايات الشفوية، وهو كتاب يتم تداوله جيدا في طبعته الثانية، ولا زال يحقق مبيعات جيدة في داخل فلسطين وعلى المستوى العالمي، وبالتالي، تجري مشاهدة هذا العمل الواسع مباشرة عبر المعارض من قبل آلاف الناس، وربما أكثر من 2,000 آخرين اشتروا نسخا من الكتاب سوف يزودون أصدقائهم وعائلاتهم به. وهكذا فإن إجمالي الانتشار الجماهيري لهذا المشروع، بما فيه العرض على الانترنت والتغطية الإعلامية سيصل إلى عشرات الآلاف مما يجعله عنصرا أساسيا من عناصر التثقيف بالنكبة، وتعريف العديد من هؤلاء الناس بقضايا كانوا يجهلونها في السابق.

 لقد أصبح هذا التثقيف المحلي والعالمي شكلا من أشكال المقاومة لأنه يتصدى للدعاية الإسرائيلية حول هذه القضايا، وقمة النجاح في هذا المشروع، هي تمكن الأطفال من الوصول إلى قراهم الأصلية كجزء من عملية النضال الأوسع، وهذا بحد ذاته عمل من أعمال المقاومة لا يمكن الاستهانة به، نظرا للعديد من المشاكل اللوجستية والمخاطر التي يواجهها المشاركون في تنفيذ هكذا مشاريع.

 ومشروع "بحلم في الوطن" ليس سوى واحدا من أربعة مشاريع تسير في نفس الاتجاه، وتبحث في حقوق الإنسان الجماعية والفردية وفي النكبة في السياقين التاريخي والمعاصر. ومنذ عام 2005، قام مركز "لاجئ" بتنظيم اثنين وعشرين معرضا للصور قي ثماني دول في أربع قارات، كما أصدر ثلاثة كتب حول أعماله في مجال مشاريع التصوير الفوتوغرافي.

المسرح كأداة للتثقيف

 

 وعلى الطرف الآخر من مخيم عايدة، أيضا عمل مركز "الرواد" في مجال التصوير الفوتوغرافي، ولكن معروف أكثر بتركيزه على الفنون المسرحية، الدكتور عبد الفتاح أبو سرور الذي درس في فرنسا قبل عودته إلى مخيم عايدة ليقوم بتأسيس المسرح وتنظيم ورشات تدريب مسرحي مع الشباب، يقول: " المسرح هو أكثر وسيلة مذهلة للتعبير عن الذات، وهو طريقة لبناء الجسور التي يمكنها مساعدة الناس لفهم القصص الحقيقية من خلف وسائل الإعلام، نحن نعبر عن حقوقنا من خلال عملنا، والمسرحيات تعبر عن رسالة سياسية".

 لكن، يضيف عبد الفتاح أبو سرور، أنه يعتقد بأن المسرحيات تلبي أيضا حاجة داخلية لدى المجتمع الفلسطيني:

 هناك العديد من الناس داخل فلسطين هم ليسوا على وعي بما يدور حولهم، الجيل الجديد بحاجة لدراسة النكبة وتاريخ اللجوء مرة أخرى؛ فخلال الانتفاضة الأولى، فقدنا الكثير من الشباب في السجون الإسرائيلية، وهذا تسبب في ضعف التعليم. ولدينا اليوم سلطة فلسطينية وقيادات لا يعرفون كيف يتعاملون مع الناس في أرض الواقع.

 أعضاء مسرح الرواد ليسوا جميعا من مخيم عايدة، وليس جميعهم لاجئين، ويقول عبد الفتاح أن التركيبة السكانية-الاجتماعية للأعضاء قد تغيرت قليلا في السنوات الأخيرة، من خلال انضمام شباب أصغر سنا قادمين من مناطق مثل بيت ساحور وبيت جالا، وتشارك المجموعات في ورشات عمل وتدريب أسبوعية، وخلال أشهر العطلة الصيفية تعقد الورشات أكثر من أربع مرات في الأسبوع، وذلك لتحضير العروض المسرحية بما فيها جولات عروض خارج البلاد. وقدم مسرح الرواد عروضا في مختلف الدول الأوروبية، وفي كل من مصر والولايات المتحدة الأمريكية، وقدم خلال عام 2007 وحده، خمسة عشر عرضا مسرحيا في مخيمات اللاجئين وفي المدن في مختلف أنحاء الضفة الغربية.

 ويقول عبد الفتاح أبو سرور أن "أطفال المخيم" هو على الأرجح الإنتاج الأفضل المعروف لهم، وهو عمل ينظر في التعقيدات والصراعات التي تمت مواجهتها من قبل أطفال ترعرعوا في مخيمات اللاجئين. فغالبا ما يساء فهم هذه القضايا على الصعيد الدولي نظرا لإخفاق كل من المجتمع ووسائل الإعلام في التعامل معهم بصدق وعدالة. عرض "لوموا الذئب" هو محاكاة ساخرة لقلنسوة ركوب حمراء صغيرة [مأخوذة عن قصة ليلي والذئب] التي يتحول الفلسطينيون فيها إلى ذئب– ويتم تشويه صورتهم، تنميطهم، ووصمهم بكل قبيح، حتى بدون أن يسعى لذلك مضطهدوهم، الذين يصممون أكثر على نكران الحقيقة. بينما في عرض "القرية قريبة من هنا"، يواجه الجمهور إنتاجا ثقافيا يشرح قضايا تتعلق بواحدة من أعظم مظالم الإنسانية التي أدت إلى نشوء أكبر عدد من اللاجئين في العالم، وهي النكبة الفلسطينية.

"مش سياسة" – معارض فنية عصرية

 

 مخيم بيت جبرين، والمعروف أيضا بمخيم العزة، هو أيضا ثالث مخيم للاجئين في بيت لحم، وهو أصغر مخيمات الضفة الغربية، وعدد سكانه اقل من 2,000 نسمة، وهو من حيث الحجم لا يلبي الحد الأدنى لشروط "الأنروا" حتى تشمله بخدمات تعليم مستقلة أو لافتتاح مكاتب للأنروا فيه، ولكنه مثل بقية المخيمات، يوجد فيه مركز خدمات اجتماعي مستقل يخدم النساء، الأطفال والشباب في المخيم. وفي عام 1999، تم تأسيس مركز بيت جبرين الثقافي (والمعروف أكثر بمركز حنظلة)، وهو المركز النشيط  في المخيم.

 وينظم المركز طائفة من الأنشطة العادية ومن بينها المخيمات الصيفية، الفنون، الموسيقى، المسرح والدبكة الشعبية، والأخيرة هي العنصر الثقافي الوطني المشترك بين مثل هذه المراكز في مخيمات فلسطين، كما يتم تنظيم دورات فنون بصرية وتعبيرية للأطفال والشباب الذين يحضرون للمركز ويتم عرض أعمالهم في جميع أنحاء المبنى. وفي كل عام يقام معرض فني واسع يضم أعمال الفنانين المحليين. محمد العزة، وهو جزء من هيئة إدارة المركز، وهو يمارس الفنون البصرية أيضا، وقد حصل مؤخرا على درجة جامعية في الفنون الجميلة من جامعة القدس، وقد تم عرض أعماله في المعرض السنوي لعام 2009 بعنوان "مش سياسة": " ركز المعرض على قضايا مثل الأسرى، اللاجئين، والمفتاح الذي يرمز لحقنا في العودة. أردنا القول بأن هذه القضايا ليست مجرد قضايا سياسية، ولكنها هنا قضايا أساسية في حياتنا".

 ويعمل الفنانون البارزون في طائفة واسعة من الأشكال بدءا بالرسم الكلاسيكي إلى الفن التشكيلي والنحت، ولكنها جميعا تحت مظلة واحدة هي مظلة الحقوق الفلسطينية. ويشعر العزة بأن صالات العرض التي أقيمت بعد اوسلو في بيت لحم تجتذب "البرجوازية" فقط، ولكن المعرض في المخيم جذب أكثر من 600 شخص من جميع أطياف المجتمع، بالرغم من أنه تم توزيع 200 دعوة فقط، ويضيف:

 تقوم هذه النشاطات بجلب أناس جدد إلى داخل المخيم، وهي أيضا تجذب العديد من سكان المخيم الذين اعتادوا حضور عروض الدبكة، وليس معارض للفنون العصرية، وتجربتهم في حضور هذه المعارض توضح لهم طبيعة الدور الذي تستطيع هذه الأشكال من الفن أن تلعبه في كفاحنا التحرري.

 ستة من الفنانين الشباب الذين عرضوا ابداعاتهم يأملون أن يواصلوا العمل معا، لأنهم يتقاسمون التزاما مشتركا: " نحن نؤمن بالعمل الجماعي، وهذا مهم لأن إحدى مشاكلنا في فلسطين اليوم هي الانقسام، فنحن بحاجة للروح الجماعية والوحدة، وإذا استطعنا أن ننجح بهذه الطريقة في الفنون، فإننا نستطيع أيضا أن ننجح في الحياة".

المهرجان الثقافي العالمي لحق العودة

 

 لا يقع مركز أطفال الدوحة الثقافي في مخيم للاجئين، ومع ذلك، يشكل اللاجئون أكثر من ثلاثة أرباع سكان بلدة الدوحة في بيت لحم، ويركز عمل المركز على الممارسات الثقافية التقليدية مثل الدبكة، مثلما يوضح أيمن الأحمر، مدير المركز:

 تجعل الدبكة الارتباط بهوية الشعب الفلسطيني أكثر قوة، وتحافظ على تراثنا حيا، يتم الآن التنكر لهويتنا الفلسطينية، ولذلك علينا أن نعزز ارتباطنا بأرضنا بواسطة الفنون، وفي إطار الكفاح الفلسطيني من أجل الحرية، القضية الجوهرية هي قضية اللاجئين، وهكذا علينا أن ندافع ونكافح بكل الوسائل من أجل عودة اللاجئين، ومن ضمن هذه الوسائل الاحتفاء بتراثنا الثقافي.

 مع نهاية تموز وحتى بداية آب 2009، وعلى مدار ثلاثة أيام؛ نظم المركز مهرجان حق العودة الثقافي السنوي الثالث في جامعة بيت لحم، هذا المهرجان الذي جمع بين فرق الرقص الشعبي والمطربين والموسيقيين في إطار الدفاع عن حق العودة. وقد شارك أكثر من خمسة آلاف شخص في المهرجان، الذي استهدف "تناول المسائل السياسية بواسطة الفنون والتراث الثقافي الفلسطيني". قامت فرقة مركز أطفال الدوحة للدبكة الشعبية بافتتاح المهرجان، وجنبا إلى جنب، شاركت في المهرجان فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية، وهي فرقة محترفة تؤدي عروضا على مستوى عالمي، وهي تدمج في عروضها بين حركات الدبكة التقليدية مع أسلوب أكثر عصرية للرقص، وهي تسلط الضوء على الرواية الفلسطينية. ومثل هذه المهرجانات توفر المجال لكل أطياف المجتمع لكي يجتمعوا معا للاحتفاء بتراثهم والمطالبة بحقوقهم.

ما بين الأمس، اليوم والغد

 

 الطائفة الواسعة من الأنشطة الثقافية في أوساط القاعدة الشعبية التي تم تسليط الضوء عليها أعلاه هي مجرد عينة مما يجري في مختلف أنحاء فلسطين، وان جميع أعمال المراكز الثقافية والشبابية، الفنانين والناشطين التي جرى تناولها هنا تتبع الثوابت الوطنية الراسخة في المجتمع الفلسطيني في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، والإنسانية غير القابلة للتصرف. وهذا يشمل رفض "التطبيع" مع منظمات إسرائيلية، وكذلك رفض الدعم أو التمويل من الوكالة الأمريكية للتنمية USAID.

 قبل أكثر من ستين عاما، قال دافيد بن غوريون عبارته الشهيرة " الكبار سيموتون والصغار سوف ينسون"، ولكن الصغار لم ينسوا أبدا، ولن ينسوا طالما بقيت روح المقاومة. وتقاليد فلسطين الغنية بأشكال المقاومة وعبر أساليبها وأدواتها الفنية والثقافية تواصل البقاء اليوم، وهي مستمرة كما فعلت دوما، وتسير في نفس الطريق الذي سار عليه غسان كنفاني، محمود درويش وناجي العلي.

 ----------------

* ريتش وايلز، فنان ومصور فوتوغرافي انجليزي، وناشط في مجال حقوق الإنسان، وكاتب، يعمل  منذ أكثر من خمس سنوات مع أطفال المخيمات في منطقة بيت لحم، حيث يعمل منسقا للعلاقات الدولية في مركز لاجئ في مخيم عايدة – بيت لحم، وهو يدرب ويشارك في مجال فنون التصوير، وله خبرة طويلة في هذا المجال على المستوى الدولي.