الأسرى الفلسطينيون في الشيفرة الثقافية الاسرائيلية

بقلم: عيسى قراقع*

سؤال الإشكالية في هذه المقالة هو: هل أزمة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال هي أزمة سياسية أم تربوية/ ايدولوجية؟ والسبب الذي أوجب هذا السؤال هو مستوى التعقيد الذي وصلت إليه قضية الأسرى، واستمرار معاناتهم وآلامهم سنين طويلة دون أن تجد لها حلاً عادلاً ومقبولاً.
ويبدو لي بوضوح أكثر من السابق أن الأزمة أساسا هي أزمة تربوية ثقافية في المجتمع الاسرائيلي ومؤسساته عكست نفسها على سلوك التعامل والتعاطي مع الإنسان الأسير ومطالبه وطموحاته. وقد تجلت هذه الأزمة في طبيعة النظرة الاسرائيلية للأسرى لتصبح جزءاً من السياسات الثابتة لصانعي القرار في إسرائيل، ومنهجاً ثقافياً يرفض بإصرار التجاوب مع المكونات السياسية وحتى الإنسانية لقضية الأسرى.

إن التعبيرات المختلفة للسلوك السياسي الاسرائيلي حول قضية الأسرى جاءت ترجمة للبنية التربوية والتعليمية في المجتمع الإسرائيلي (الأدلجة) القائمة على أساس العنصرية، والعدوانية، وتنمية النزعة العسكرية وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وحقوقهم. ولهذا ليس غريباً أن لا تُدرّس مناهج ومبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي واتفاقيات جنيف في المدارس الإسرائيلية. وبدلاً من ذلك، يتم التركيز على تغذية التعصب القومي والتربية الشوفينية التي تتناقض مع مفهوم التربية على القيم الإنسانية.

الطالب الإسرائيلي لا ينمو في المدرسة ليصبح إنسانا؛ بل جندياً مستعداً دائماً للقتال، ولا يتغذى على قيم الإنسانية والتعايش وحوار الآخرين؛ بل على فن الحرب، والحقد على العرب ليصبح إما محارباً، أو سجاناً مجرداً من شخصيته الأخلاقية.

وأوضح وزير المعارف والثقافة الاسرائيلي السابق "هارون برلين" هذه النقطة بقوله: المدرسة الاسرائيلية تدرس قيم البطولة اليهودية وإنقاذ الأرض، ولم تضع المدرسة أمام الأجيال اليهودية سوى الخدمة العسكرية والنزعة العسكرية. وهذا ما دفع البرفسور الاسرائيلي "يعقوب لورخ" أن يطلق على وزارة المعارف الاسرائيلية "وزارة الخنق؛ "لأنها تغلق العقول وتنتهج سياسة غير إنسانية تجاه تربية أولاد اليهود...". لكل ذلك، قيل على لسان الباحثين الإسرائيليين: أن المدارس في اسرائيل لعبت دوراً بارزاً ومهماً في تشكيل المواقف السلبية تجاه العرب والفلسطينيين وساهمت الكتب الدراسية في تصعيد الصراع.

لا يوجد أي ذكر في التعليم الاسرائيلي للقواعد الإنسانية للتعامل مع الأسرى في أوقات الحرب؛ بل إن مصطلح فلسطينيين مثله مثل الخط الأخضر والنكبة، يبدو غريباً عن كتب التدريس الإسرائيلية. وبناءً على ذلك، نجد أن الأسرى في العقل الثقافي الاسرائيلي هم أموات، أو يجب أن يكونوا أمواتاً وفق ما قاله "يعقوب غانوت" مدير مصلحة السجون السابق، وهم؛ أي الأسرى، "ليسوا سوى مجرمين وقتلة وإرهابيين أياديهم ملطخة بالدماء".

وما يدل على ذلك ما يُسمى الحساسية التي تتذرع بها حكومات اسرائيل فيما يتعلق بالإفراج عن الأسرى لمدى قبول المجتمع الاسرائيلي المعبأ عنصرياً ضد الإفراج عموما، او على الأقل ضد الإفراج عن نوعية جدية عن الأسرى. ولأن الأسرى فرضوا وجودهم كأمر واقع على الحياة السياسية الإسرائيلية، فان التعامل معهم يجري وكأنهم أرقام لا بشراً؛ بل فئران كما قال الصحفي "عاموس هرئيل" ليس لهم حقوق، والذي يقرر حقوقهم هي نظرية القوة والأمن والأوامر والتعليمات العسكرية الصادرة عن الضابط أو من الجهاز القضائي الإسرائيلي.

واضح أن التربية والتنشئة الثقافية في اسرائيل والقائمة على تعليم الحرب والكراهية اقتداءً بداود الاسرائيلي الذي تغلب على جوليات الفلسطيني العملاق، كما ورد في الفصل السابع عشر من كتاب التوراة والذي يدرس في المدارس الإسرائيلية، وما أحدثته من غسيل دماغ قد حولت الشبان الإسرائيليين إلى جنود آليين ميكانيكيين بلا مشاعر وبلا أحاسيس، عنيفين وجلادين، وجنود حاجز لا ترتجف أيديهم عندما يضغطون على الزناد حسب قول المحامية فيليتسا لانفر.

ولا يرتجف الضمير الثقافي في إسرائيل أمام مشاهد اعتقال القاصرين الأطفال والاعتداء عليهم بطرق وحشية جسدياً ونفسياً، وأمام زج المعتقلين في سجون لا تصلح للحياة الآدمية وممارسة شتى أنواع الانتهاكات بحقهم في المأكل والملبس والعلاج ورؤية ذويهم. ولم يرتجف هذا الضمير أمام ما نشرته صحيفة هآرتس الاسرائيلية يوم 8/11/2006 عن قيام جهاز الشاباك الاسرائيلي بممارسة أعمال اللواط والتحرش الجنسي مع المعتقلين ونتف لحاهم واعتقال زوجاتهم واستخدام أساليب الشبح والخنق والتعامل معهم كأنهم "صراصير وحشرات".

وحتى الآن لم يطرح السؤال التربوي في إسرائيل نفسه ليواجه الحقائق المؤلمة ولينقذ الاسرائيلي من تلك المدرسة التي علمته أن لا يكون إنسانا. فالمنظومة الثقافية والتربوية في إسرائيل تتلقى غذائها من الأساطير ومن أجهزة الأمن والجنرالات العسكريين؛ ليظل الإسرائيلي أسيراً لكتاب التربية الوطنية للصف الخامس الابتدائي الذي يعلم الطالب اليهودي بأنه عن طريق القوة يتعلم العرب بسرعة كيف يحترمون الحارس اليهودي، وأن الدم اليهودي لا توازيه دماء أبناء الشعوب دون استثناء، حسب قصيدة الشاعر الإسرائيلي "تان ولترمان" التي تدرس في المدارس الإسرائيلية.

ولأن الثقافة والتربية في إسرائيل لم تتحرر من الخرافة ونزعة السيطرة وإقصاء الآخرين، وركزت على العسكرتارية وإعداد الطالب للجندية وكأنها تبني أجيالاً من معدن وحديد،
ولأن خرائط التعليم لا يظهر على الأرض فيها أناس وحياة؛ بل صحراء جرداء تنتظر من يحيها وهي رميم، فإنها لا تبالي باعتقال ربع الشعب الفلسطيني منذ عام 1967 وبناء المعسكرات والسجون...

ان الشيفرة الثقافية "لإسرائيل" تستند إلى ثقافة حقوق القوة الاحتلالية التي لم تغير روايتها ولا تريد أن تسمع رواية الآخرين الواقعين تحت الاحتلال وفي ظلام السجون.
وعلى الرغم من بروز الأسئلة الأخلاقية والثقافية في السنوات الأخيرة على ألسنة القلة القليلة في المجتمع الإسرائيلي إلا أنها بقيت خافتة غير مؤثرة؛ لم تستطع أن تواجه منهجية تخريب وإفساد العقل الإسرائيلي ولم تصل إلى مستوى تحرير الثقافة الإسرائيلية من عنصريتها التي تشكل غطاءً لقمع الآخر والاستبداد به.
لكل هذا لا زال الأسرى الفلسطينيون غائبين عن العقل السياسي الإسرائيلي لا يظهرون إلا كشرط للمساومة والابتزاز والمقايضة، أشباح تتحرك في معادلة الصراع لا تُستدعى من عتمة المؤبد ولا تعطى حقها الإنساني أن تسأل هذا المؤبد: كم عمرك؟ وما هو وزنك في تاريخ الصراع؟

لم يتصالح الثقافي مع السياسي في إسرائيل، ظل الأول مشحوناً بذاكرة المنفى والإقصاء محبوساً في غيتو المحاربين الأوائل وأشعار "الحشمونيين"، لا يمد الثاني إلا بالبزة العسكرية ومفاتيح السجون وسلاسل القيود وأناشيد حرس الحدود.

* عيس قراقع: وزير شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين، كاتب وأديب فلسطيني، عضو جمعية عامة في مركز بديل.