بقلم: رنين جريس*

كفر عنان هي قرية جليلية أخرى تم احتلالها وتهجير سكانها عام 1948. كانت هذه القرية قائمة على المنحدرات السفلى لجبال الزَبول، في المكان الذي تتلاشى هذه الجبال فيه جنوباً لتصبح سهل الرامة. كانت الينابيع والآبار تمد سكان القرية بمياه الشرب. وكانت مياه الأمطار المصدر الأساسي للري، والحبوب والزيتون المنتوجات الرئيسية.

 

 

 

عن حياة القرية الزراعية ومصادر المياه حدثني حسن منصور – أبو مروان (1934) احد مهجري القرية والذي يسكن اليوم في قرية الرامه:
كفر عنان كانت صغيرة بعدد سكانها بس كبيرة بأراضيها. قبل الاحتلال عاش فيها حوالي 350 شخص سكنوا في 72 بيت. البلد اعتمدت على الزراعة وتربية المواشي، وقسم قليل من أهل البلد كان يشتغل بالبوليس. مساحة أراضي البلد كانت حوالي 5897 دونم، الأرض كانت خصبة كتير. المناطق القريبة كانوا يزرعوها خضار، بندوره، خيار وفقوس، والبعيدة يزرعوها حبوب، قمح شعير عدس، كرسنه وهيك أشياء.
كانت المي تيجي من قرية "فراضه" فوقنا وتصب عنا بمنطقة بين "فراضة" و"كفر عنان" اسمها الجوابي، هاي الجوابي عايشه على الري، وكنا دائما نزرعها أشجار وخضار... المي الفائضة كنا نحطها بمجمّع مياه اسمه السيح وهناك نسقي الطرش ونسبح ونغسل. بالبداية كان في خلاف بيننا وبين أهل فراضه على المي، ورحنا للمحكمة ووقفنا محامي اسمه حنا عصفور من حيفا، وتقرر انه نص المي النا والنص الهم.

بعد ما اشترينا بلدنا، اطلعونا منها
حدثتني فاطمة منصور (1936)، زوجة ابو مروان، كيف باع أهل كفر عنان قريتهم بسبب الضائقة المالية قائلة:
أيام الحكم العثماني، فرض علينا الأتراك ضرائب كبيرة على البلد. أهل البلد كانوا فقراء وما قدروا يدفعوا الضرائب.
أجا إقطاعي لبناني اسمه فؤاد سعد، دفع الضريبة واشترى الأرض، واحنا ضلينا ساكنين فيها ونشتغل فيها وفؤاد سعد يوخد نسبة من المحصول. هذا فؤاد سعد كان عنده تسع بيوت بالبلد تقريبا، وكلها تفتح ع جهة واحدة وكان يقعّد الناس فيها ببلاش بدون إيجار.
بال 1945 اجو اليهود بدهم يشتروا الأرض من فؤاد سعد، واجا واحد اسمه يوسف النحماني وبنحاس وعرضوا عليه مصاري كتير حتى يشتروها، قال لهم فؤاد سعد أنا ببيع البلد بس لأهل البلد. أهل بلدنا جمّعوا مصاري واشتروا البلد من فؤاد سعد مع انه احنا دفعنا اقل من اليهود. بس بعد ما اشتريناها بثلاث سنوات صارت الحرب وطلعنا، لا فرحنا فيها ولا اشي.

فضّونا من السيارة مثل ما بفضّوا سيارة زبالة
مع أن كفر عنان سقطت خلال عملية "حيرام"، في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 1948، غير أن قسما من سكانها مكثوا فيها، رافضين الضغط عليهم للمغادرة. لكنهم طردوا مجددا في شباط/فبراير 1949، حيث نقل نصفهم الى قرى مجاورة والقسم الأخر الى نابلس والحدود اللبنانية.

حول مكوثها في القرية وطردها لاحقاً حدثتني أديبة مصطفى شقير (1934):

بال 48 أجو علينا أهل عيلبون هاربين، إحنا نزلنا وصرنا نجبلهم أكل وخبز وطبيخ وميّ. قسم منهم كمّل على لبنان وقسم قعد كم يوم تحت الزيتون وفي بيوتنا. بعد ما أطلعوا أهل عيلبون بسبع أيام تقريباً أطلعوا أهل كفر عنان. بقي بالبلد بعض العائلات والختيارية. وأنا وأخواتي وأمي طلعنا كام يوم على عين الأسد، ورجعنا بعدها على كفر عنان عن طريق البيادر. بعد حوالي أربع أو خمس أشهر أجا الجيش علينا وقال تعالوا بدنا نعطيكم هويات. تركنا بيوتنا مفتوحة وطلعنا على الشارع، يومها أمي كانت عم تغسل ملاحف وحاطـّة طنجرة المجدرة على النار وأواعيها وسخة كتير. نزلنا على الشارع الرئيسي وقعدنا حوالي ساعتين وبعدها حمـّلونا ورمونا ع ساحة العين بمجد الكروم وضلّت طنجرة المجدرة ع النار والغسيل منقوع بالميّ. والله فضّونا من السيارة مثل ما بفضّوا سيارة زبالة، وصاروا يقولولنا "يللا روحوا عند الملك عبد الله أبو طبيخ...

فكرتهم فراش.. طلعوا جثث!!
قالت لي فاطمة منصور:
راح احكيلك الحكاية من الأول، اليهود فاتوا عنا، طوقوا البلد وحاصروها. فاتوا ع البيوت وصاروا يقولوا اطلعوا من البيوت بدنا نهبط البلد. اجو هبطوا بيت دار أخوه لسيدي. الناس خافت وطلعت قعدت بأرض اسمها الخلة ع طريق المغار. أجا سيدي وقال لستي هاتي نخبي الأولاد بقلب المغارة، كان في عنا بالبيت مغارة نحط فيها تبن للطرش. قالت له ستي بلكي هبّطوا البيت والأولاد ماتوا؟؟ خلينا نطلعهم معنا.
اجو المسؤولين اليهود، ما بعرف شو اسمهم، جابوا سيارات، اختاروا الشباب مثل أبوي وجيله وأخذوهم ع المعتقل ولما اعتقلوهم ضلينا إحنا الأطفال والختيارية والنسوان. الجيش عمل صفين على الشارع من الجنبين، قالوا لنا اطلعوا من هون ع الجبل وممنوع تطلعوا وراكم، واللي بطلّع وراه منطخه. وأنا ماشي بالطريق مع أهلي، شفت كوم ناس ع الأرض. قلت لأمي شوفي هدول الناس جايين يناموا هون بالشارع، واللا هم ثماني قتلى شباب. أنا فكرتهم فراش بس طلعوا جثث. هدول الشباب قتلوهم اليهود على جنب الشارع وخلوهم هناك حتى الناس تشوفهم وتخاف وتهرب من البلد. الشباب هم: يوسف كايد، فواز إبراهيم الطه وأخوه حسن إبراهيم الطه، العبد الصفوري، سليمان احمد شقير، قاسم عز الدين من صفد، مسعود اسعد".

حول مقتل الشباب ودفنهم تضيف أديبة شقير:

لما طخوا الشباب أنا ما شفت لأنه كنا هاربين ع عين الأسد، بس لما رجعنا أنا وأمي رحت عند الجثث عشان أفحص إذا أبوي بين القتلى، وما لقيته. كانت الشباب مكوّمة على الأرض مثل الملحومين على بعض. الجثث ضلت على الشارع أسابيع، وبعدها رحنا أنا وخضرة كريكر من البعينة، سته لواحد من الشباب المقتولين، أخذنا الجثث ورميناهم بجورة قريبة عليهم وحطـّينا عليهم شوية تراب وشل (عودان زيتون) وسكرنا عليهم. يمكن العظام تبعتهم لليوم بعدها بالجورة وبس نروح على البلد بفرجيك الجورة اللي دفناهم فيها. كنا مجبورين ندفهن، لأنه ريحتهم بلشت تطلع.
 

قتلوا جميل بس نايف هرب...
يستمر حسن منصور في انتشال مخزون ذكرياته ليحدثنا عن حادثة اخرى:
لما قتلوا الشباب واعتقلوا أبوي، أنا وأمي وأخوتي طلعنا على لبنان. بالطريق نمنا بحرش بيت جن وبعدها طلعنا على حرفيش ومنها على رميش ومنها على بنت جبيل، هناك قعدنا أسبوعين وسكنا بالجامع مع عشرات اللاجئين، وبعدين اخدونا على صور وهناك قعدنا خمس أو ست شهور، وبعدين سفرونا من صور على عنجر على حدود سوريا، قعدنا حوالي سبع أشهر، وبعدها على طرابلس ومنها على النهر البارد. لما كنا بصور كان في مجاعة كتير، يعني احنا كان يطلع لنا رغيف واحد الي ولأمي ولأخوي. أمي كانت تروح تلقط خبيزه بالوعر وتشحد من الناس حتى نوكل ونعيش (باكياً). بذكر انه الدنيا كانت برد كتير. أمي شلحت الجاكيت وغطتنا فيها. ولما رحنا على عنجر صار يطلع لنا اعاشه وكنا نوخد شوية عجوة وطحينة. كنا سبع او ثمانية عائلات يسكنوا بشادر واحد مثل السردين. رحاب بنت أختي خزنه ماتت من البرد وأمها ترضع فيها. أمي بالليل كانت تحط خيش وننام عليها حتى البرد ما يطلع علينا.
بعد سنه ونص بلبنان رجعنا عن طريق الصليب الأحمر أنا ووالدتي وإخوتي وأولاد خالي. رجعنا من طرابلس ع بيروت، ببيروت عملوا لنا حجر صحي، حطونا بمحل أسبوعين وطعمّونا، وبعد هيك نقلونا بسيارات لراس الناقوره ومن هناك نقلونا من السيارات اللبنانية للإسرائيلية والاسرائليين طعمونا ورشوا علينا أشي ابيض. بمجد كروم قعدنا عند دار مصطفى الصالح وبعدها رحنا ع معصرة عند دار الشيخ دياب وبعدها نمنا على سطح مخبز. وبالآخر اجينا على الرامه بال 54، سكننا بالبراكية ومن بعدها بنينا بيوت.

محطات من رحيل فاطمة منصور
تستمر فاطمة في الحديث عن تهجيرها وعن قصة الطفلة من عيلبون
:
"وإحنا طالعين نواحي عين الأسد، بالجبل، لاقينا تحت الزيتونة طفلة من عيلبون، أمها تاركتها وحاطه تحتها حرام زهر ولافيته عليها وبجانبها كيس فيه أواعي وقنينه حليب فاضيه والمصاصه بتمها. أمي ما قدرت تحملها معنا لأنه كانت حاملي أخوتي. بس لما وصلنا بين عين الأسد وبيت جن بالوعر، شافتنا ختياره راجعه من بيت جن وبتبكي وسألتنا اذا شفنا طفلة بطريقنا واحنا طالعين؟، قلنا لها اه وحكينا لها وين، بس لما رجعت ما لاقت البنت. يمكن الجيش أخذها لأنه كان قريب كتير منها. سألناها ليش رمتها أمها، قالت لنا أمها كانت حامله ولد ع ظهرها وولد بحضنها وما قدرت تحمل الثلاثة...

بعد فترة أجا الجيش وطوق البلد وضبّونا كمان مره بمنطقة الخلة وين كنا قاعدين أول مرّة لما رحلونا. قسّمونا، اللي معه هوية زرقاء لحال واللي معه هوية حمرا لحال، اللي معه هوية زرقاء ضله واللي معه هوية حمرا جابوا سيارات الساعة ثمانية الصبح وقعّدونا فيهم لليل، لا أكل ولا شرب وساقوا فينا وكبّونا ع الحدود بين زبوبيا وبين إسرائيل. قعدنا هناك وأول ما طلع النهار، شافونا من بعيد المقاومة الفلسطينية الموجودة عند زبوبيا، وفكرونا يهود ومعنا أسلحة وصاروا يضربوا علينا. كان معنا شاب من فراضة، وقف يشوف مصدر الطخ واللا الرصاصة اجت فيه ووقع ع الأرض وطرش دمه علي، لليوم بتذكر دمه الحامي على جسمي. بعدين اجت ستّه الختياره للشاب، كانت طرشة ولابسة حطه ومعها عكازه، أعطت حطتها لأمي، وأمي رفعت الحطة ع العكازة وصارت تركض بالسهل. شافوها المسلحين ع النقطة ووقفوا ضرب النار. اجو خمس أو ستة أشخاص منهم على الخيل، اخذوا الشاب الميت ودفنوه ببلد قريبة، وإحنا حطونا بسيارات وسحبوا فينا ع نابلس على مخيم بلاطه.
سيدي كان بمجد الكروم، صار يدور علينا كمان مرّه، لحقنا سيدي ولما لاقانا أخذنا ع الحمير ومشينا معه لمجد الكروم. سيدي وستي كانوا يومها يشتغلوا بالرامه، يحصدوا يحلشوا ويشتغلوا بالبيوت عشان يطعمونا أنا وأخوتي لأنه أبوي محبوس.
بمجد الكروم أجا الجيش علينا كمان مرّه، طوّق البلد ، واطلعوا اللي مش معهم هويات عشان يكبوهم مره ثالثه. أجا سيدي عند المختار وقاله دخيلك بدهن يوخدوا الأولاد وأبوهم محبوس وأنا متت لحد ما جبتهم. قال له المختار ما بطلع بايدي أشي. لما طوقونا واجو بدهم يركبونا بالسيارة... وهيك عشنا بالرامه واشتغلنا لحد ما بنينا بيوتنا وعلمنا أولادنا، بس مع هيك بضل اسمنا لاجئين".

القرية اليوم
الموقع مغطى بركام الحجارة المبعثرة حول نبات الصبار واشجار التين المتناثرة. لم يبق من القرية سوى بناء كبير استعمل في الماضي كصيرة للمواشي وبيت خالد يوسف طه الواقع على طرف القرية من الجهة الغربية. أما المقبرة فهي مهملة منذ ستين عاما وبالكاد يستطيع الزائر أن يرى حجارة قبورها. معظم أهالي القرية اليوم هم لاجئون في مخيم نهر البارد وسوريا، ومن هجّر داخل الوطن سكن في حي الدبّة في الرامه احد أحياء المهجرين الكبيرة في البلاد.
بس احتلونا هدموا حوالي سبع بيوت"، حدثني حسن منصور. "أهل بلدنا رفعوا قضية عام 1952 عن طريق محامي من الناصرة اسمه محمد نمر الهواري، لما عرفت السلطات بالموضوع اجو على البلد وفجروا البيوت وراحت القضية. يومها انا كنت بالصف العاشر بمدرسه الرامه وسمعت الألغام والهدم ورحنا ولاقينا فعلا البيوت بالأرض.

وتضيف أديبة شقير:
بلدنا كان فيها مقبرتين. بعد التهجير توفى مهنا شقير من بلدنا ورحنا قبرناه بمقبرة كفر عنان. بعدين توفى احمد سعيد كروم من فراضه ولما رحنا عشان ندفنه بمقبرة كفر عنان أجا علينا الحاكم العسكري "دوف" ومنعنا، وقدمنا لمحاكمة لحد ما تدخل عضو كنسيت عربي وتعهدنا انه هاي آخر مره راح نقبر فيها هناك. يعني لا الأحياء رجعوا ولا الأموات منهم.
• تم تجميع الشهادات في أيلول، 2009،
• مركزة مشروع التاريخ الشفوي في جمعية زوخروت (ذاكرات) – حيفا