تعالوا ننبش قبور الفلسطينيين!

بقلم: محمود زيدان

 
زيارة تقليدية أقوم بها الى المقبرة كل عيد. كنت أقوم بها وأبي منذ سنوات، ثم داومت عليها بعد موته. صرت أزور أبي الميت وألتقي أقاربي وأصدقائي الأحياء. قلما تجد مكانًا بهذه المساحة الضيقة يجمع هذا العدد من الناس؛ تزور مئات بل ألوف الأشخاص في وقت واحد وفي مكان واحد.

 

على مدخل المقبرة ثمة حارس وحيد، يتأبط بارودته ويرتدي بزّته العسكرية، ذكرني بحراس القصور في مسرحيات شكسبير؛ إلا أن دوره أقل شأنًا. هو لا يحرس شيئًا؛ انه ينظم السير فحسب. أحزنتني رؤيته. أليس له عائلة ليقضي معها ساعات العيد الأولى؟ رغم ذلك، ترى البسمة تعلو محياه لعله، عدا أيام العيد، يرتعب من الوحدة، فلا أحد يمر من هنا سوى مواكب الأموات.

زحمة قاتلة تملأ المكان. حراس، مرافقون، مسؤولون من كافة التنظيمات والأحزاب، فرق الكشافة وفرقة موسيقية تعزف نشيد النصر. في المقبرة المارش العسكري، جنباً الى جنب والعاديون الذين دفنوا أحباءهم هنا في هذا المكان الذي يجمع الجميع؛ بل أكثر من ذلك فكل التنظيمات التي لا تجتمع على شيء خارج هذا المكان؛ موجودة في هذه البقعة... تؤدي زيارة جماعية للنصب. بعد ذلك ينصرف كل منهم الى بيته، من كان له ميت منهم، يزوره ويقرأ له الفاتحة ثم يمضي... ثمة قبور لا يقربها أحد!

رويدًا رويدًا صارت "العجقة" تتبدد. أخذت طريقي بين القبور أقصد قبر أبي. زحمة الأحياء تتبدد لكن زحمة الأموات تزداد في كل يوم وكل عام. أكاد لا أصدق: تمتلىء المقبرة بسرعة قياسية، عمر هذه المقبرة أقل من ثلاث سنوات واليوم فيها أكثر من ألف قبر.

انفضّ الجميع من دون أن ينظروا الى القبور. من دون أن يلحظوا سبب تلك العجقة الضاجة التي لا تتوقف في المقبرة. عندما سألت مسؤول الشؤون الاجتماعية في منظمة التحرير قبل سنوات عن سبب رفض دفن الفلسطينيين في مقبرة صيدا. قال: ان ثمة اتفاقاً بين دائرة الأوقاف ودائرة الشؤون الاجتماعية في منظمة التحرير على عدم دفن أموات الفلسطينيين في مقبرة اللبنانيين في صيدا، مبررين ذلك أن الفلسطينيين يموتون أكثر وأسرع من اللبنانيين.

كنت أسمع أن سلاح الفلسطينيين الأكثر فتكًا اليوم هو التوالد الطبيعي أوالتكاثر، الذي تعتبره اسرائيل قنبلة ديمغرافية موقوتة، ولم أتخيل أن يصبح الموت في المنفى موضوعًا للتنافس وبسببه تمنع دائرة الأوقاف دفن من ليس له قريب في المقبرة القديمة. ولم أتوقع أن يطال التمييز العنصري أموات الفلسطينيين مثلما يطال الأحياء منهم، فيستكثر عليهم مساحة لرقدة عظامهم لا تتجاوز مترين تحت أرض!
فكرت لماذا لا نصحو نحن الأحياء ونفكر فيما يجمعنا من واقع ومصير؟ أيصح أن تفرقنا البرامج السياسية ويجمعنا الموت؟

أكملت طريقي بين القبور فأخذني مشهد لم أعهده في مخيمات أحياء الفلسطينيين؛ الجميع هنا من كل الأطياف، من كل قرى فلسطين، من كل الأحزاب والتنظيمات من كل الجنسيات من كل الطبقات من كل الأعمار يرقدون بسكون، مجتمعين لا خلافات ولامناوشات وكأن برنامجهم واحد.

ثمة قبور لا يقربها أحد. قبور تحمل شعارات العهد الماضي، منظمة التحرير الوطني الفلسطيني، حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وغيرها من الجبهات التي كانت تنادي بتحرير فلسطين، كل فلسطين. لفتني أن كل القبور القديمة والجديدة، لكبار السن وحتى للصغار الذين ولدوا في المخيمات ممهورة باسم الميت وعمره وتاريخ وفاته وقريته في فلسطين. وكنت قد لاحظت في المقبرة القديمة أن أبناء القرى المجاورة في فلسطين يتجاورون في المقبرة، وزيادة على ذلك ذيلت قبور الشهداء منهم بعبارة: عائدون. استوقفتني "عائدون" هذه (الجامعتنا كلنا...) عائدون؟ من؟ والى أين؟ وكيف؟ ولماذا ينادي بالعودة الأموات في الوقت الذي يتنكر للعودة كثير من الأحياء؟ وفي الوقت الذي يدق فيه ناقوس التوطين كل ما دق الكوز بالجرة؟

تذكرت كلام أبي مروان حمد من قرية الصفصاف قبل عشر سنوات كأنه يجيبني الآن على تساؤلاتي قال: عندما خرجنا من الصفصاف مقاتلين على أثر المجزرة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في قريتنا، هجرنا الى بنت جبيل ومن ثم الى مخيم الرشيدية. خلال الفترة الأولى كنا ندفن كل أمواتنا في بنت جبيل. وعندما سألته عن السبب، قال: كنا نقول عند عودتنا سيكون من السهل نقل رفاتهم الى بلدنا أو على الأقل زيارتهم، لأنها أقرب الى بلادنا...
كذلك أجابني ابو ابراهيم من قرية لوبية حيث أوصى أولاده أن يحملوا عظامه ويدفنوها في لوبية.
لقد كان أبو مروان وأبو ابراهيم متيقنين من العودة ولو بعد حين. وكانا يصران على أن لا يتركا وحيدين هنا متمسكين بالعودة كلمة هي البدء، في حين نسي من غير ميثاقه وبرنامجه ونظامه الداخلي أن هناك أشياء نقشت على القبور، ومات الشهداء من أجلها لا تمحى... ربما نسوا أنها لا تموت.
فكرت في نفسي؛ لو أن المسؤولين يجولون قليلاً بين القبور ويقرأون ما عليها. لو أنهم يرون كيف تجمعنا الأحزان حتى في الأعياد، وكيف أن زوار ذلك المكان المهيب يتآزرون ويتحلون بالوقار والخشوع فثمة من يقترب منك يواسيك ويقرأ الفاتحة لميتك!
اقتربت مني سيدة في مقتبل العمر. تقف على قبر بجوار قبر أبي. حيتني، ثم وقفت معي وقرأت الفاتحة لوالدي. ثم سألتني:
- مين إلكم؟
- أبوي.
- الله يرحمو، كيف مات؟
- موت طبيعي.
لو أنهم يرون كيف القبور كالدفاتر تؤرخ الماضي. تعالوا ننبش هذه القبور لنتعلم من أهلها، لنستعيد منها تاريخًا مجيدًا. تعالوا نبعث ذلك الماضي ونستدل منه ونوجه خطواتنا المستقبلية على هدي صدقه ووطنيته... تعالوا نسلك درب الرجوع الى فلسطين علنا نحيا من جديد.
ما دام أمواتنا يصرون على العودة؛ ألا يجدر ان نعمل نحن الأحياء من أجلها؟

* عضو مؤسس لمجموعة عائدون/لبنان، وقائم على مشروع أرشيف التاريخ الشفوي للنكبة في لبنان.