لا بد من التأكيد مسبقا على أن التغييرات السياسية الكبرى لا تحدث بدون الحكومات؛ لما تمتلكه هذه الحكومات من وسائل وسلطات في داخل دولها، وعبر الحدود وفقا لموازين القوة بين الدول المختلفة؛ وبالتالي، لا بد من الضغط على الحكومات أو حشدها وطلب مناصرتها عندما يتعلق الأمر بقضايا كبرى

ولعل من المفيد حصر الحديث عن معركة الضغط على الحكومات لمصلحة حقوق الشعب الفلسطيني في الاستقلال والعودة وتقرير المصير. وهنا يتعلق الأمر بقضية كبرى في الإقليم والعالم، وقضية القضايا بالنسبة للشعب الفلسطيني والعربي، كما يتعلق الموضوع أيضا بدولة إسرائيل ونظامها العنصري وما ترتبط به من تاريخ وعلاقات تمتد وتتشابك مع الأيديولوجيات العنصرية، اللاسامية، الصراع الديني المسيحي - اليهودي والمحرقة النازية، "الايباك" وجماعات الضغط المناصرة لإسرائيل، سواء لأسباب تتعلق بالمصالح الاستعمارية أو كتعاطف إنساني نبيل مع اليهود عقب المحرقة النازية. ففي هذا السياق المتشابك والمتداخل للمشهد الفكري والإعلامي؛ لا يوجد أدني شك بضرورة الضغط على الحكومات أو حشدها لمناصرة الحق والعدل، أو على الأقل تحمل واجباتها والوفاء بالتزاماتها القانونية، ولكل ذلك يجب أن يكون السؤال الأول الصحيح، هو: هل يجب الضغط على الحكومات؟ والإجابة هنا نعم أولا ونعم دائما.

السؤال الثاني: كيف يمكن الضغط على الحكومات لتطوير إرادة دولية مساندة للحق الفلسطيني؟ ما هي الوسائل والأساليب الصحيحة؟

إن جماعات الضغط الخاصة وذات الخبرة الطويلة، وتلك التي تعمل بطريقة منظمة ومهنية جدا؛ غالبا ما تنجح في تحقيق معظم الأهداف التي تضعها لنفسها، ويوجد العديد من الأمثلة على هذه التجارب الناجحة؛ أهمها: الأولى؛ جماعات الضغط المساندة لدولة إسرائيل في الولايات المتحدة ودول الشمال عموما، وهي موزعة في الدول الرئيسية الممسكة بالقرار الدولي هذه الأيام، وهي ناجحة حتى الآن في تحقيق أعظم مساندة ودعم لدولة إسرائيل، بالرغم من صعوبة تجميل حقيقة نظام وممارسات إسرائيل الاستعمارية العنصرية. والثانية؛ جماعة الضغط الموالية للصين منذ نهاية الخمسينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي، والتي نجحت في إدخال الصين الشعبية في الأمم المتحدة كدولة دائمة العضوية مع حق النقض في مجلس الأمن، ومن الوصول لاتفاقيات وعلاقات تجارية متقدمة مع الولايات المتحدة لم تتزحزح خلال ما سمي بـ"ربيع بكين"، فقد نجحت هذه الحركة بالرغم من التباعد الأيديولوجي وحجم التنافس في المصالح التجارية بين الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وخاصة في منطقة حنوب شرق آسيا: فيتنام، كمبوديا، تايوان وهونغ كونغ. والثالثة؛ هي حركة الضغط الناجحة والأقرب لحالتنا الفلسطينية؛ فكانت الحركات والجماعات المناهضة لنظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا، التي نجحت في الإطاحة بالنظام العنصري البغيض في جنوب القارة الأفريقية؛ فقد نجحت هذه الحركة أيضا؛ رغما عن كل الصعوبات وتشابك المصالح الاستعمارية مع نظام جنوب أفريقيا العنصري.

إن لكل حركة ومجموعة من الجماعات المذكورة أعلاه ركائزها الأساسية ووسائلها وأساليبها، وبغض عن الاختلاف في الأهداف والمبادئ والقيم الأخلاقية لهذه الجماعات والحركات، فإن لها سمات عامة تتعلق بإدارتها وتنظيمها ومهنيتها، وقدرتها على استخدام إستراتيجيات بعيدة المدى، فهنا عالم المصالح والمنافسة والسياسة بكل قذارتها، ولا مكان للمشاعر والعواطف إلا  لاستهلاك مشاعر بسطاء الناس واستمالتهم نحو هذه الجهة أو تلك. وعليه؛ فإن الوصول لتحقيق الأهداف السياسية لجماعات الضغط، ليس بالضرورة أن يكون مبنيا على قيم العدل والمساواة، أو على أساس مبادئ القانون الدولي...الخ، بل يكون نابعا من القدرة والقوة والنفوذ التي تمتلكه الجماعة من أجل التأثير على عمل وسلوك الحكومات وصانعي القرار.

السؤال الثالث: ما هو السر الذي يقف وراء التأثير على سياسة أي حكومة وصناع القرار؟

فيما تستخدم الدول (وتمثلها بذلك حكوماتها) سواء تجاه مواطنيها أو تجاه الدول الأخرى سياسة التهديد والوعيد، أو الثواب والعقاب، العصا والجزرة ...الخ: إن لم تقم بكذا، تخسر كذا! افعل هذا تحصل على ذاك! وهكذا، وتقوم جماعات الضغط ذات النفوذ بهذا العمل بشكل منظم ومهني جدا مع صانعي القرار، كل بحسب القوة التي يملكها ويمكنه استخدامها في الثواب والعقاب. تبدو العملية بسيطة، لكنها بجد في غاية التعقيد، ويلزمها معرفة الجماعة لقوتها ومصادر هذه القوة التي تمنحها القدرة في التأثير على سلوك صانعي القرار والحكومات، ومدى قدرتها على استخدام قوتها لتنفيذ الثواب والعقاب في المكان والوقت المناسبين، وأن يكون الطرف الذي تريد الضغط عليه مدركا أو - على الأقل- مصدقا لقدرة الجماعة الضاغطة على الوفاء بالتهديد أو الوعد؛ وإلا فلن يعير انتباهه لأي كلام مهما كان بليغا.

السؤال الرابع: أين نحن؟ وما هو الممكن في الضغط على الحكومات لمساندة الحقوق الفلسطينية؟

للإجابة على هذا السؤال لا بد أن يكون الفلسطينيون مدركين لحجم قوتهم وقوة أنصارهم ومصادر هذه القوة، وفي نفس الوقت قوة الجماعات الموالية والمساندة للنظام الإسرائيلي ومصادر هذه القوة. ولا بد من الاعتراف أولا  أن قوانا مبعثرة ونفتقد لأي سمة من سمات التأثير الناجح عالميا، سواء بسبب غياب القيادة الوطنية الموحدة التي تمتلك رؤية واضحة واستراتيجيات وخطط ملائمة، وفي نفس الوقت طغيان الرواية الصهيونية والإسرائيلية على المشهد الإعلامي والثقافي في الدول الغربية نافذة الإرادة في القرار الدولي في هذه الحقبة التاريخية. بعد ذلك، علينا أن نعترف أيضا بأن محاولات منظمات المجتمع المدني الفلسطيني مع أنصاره في المجتمع المدني العالمي، تحرز تقدما متواضعا ومبعثرا تبعا لتبعثر الأحزاب والقوى السياسية الفلسطينية، وبسبب تمكن إسرائيل وحلفائها من تحييد منظمة التحرير الفلسطينية من المشهد السياسي الدولي بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، ونجاح إسرائيل في إلهاء المجتمع المدني الفلسطيني في قضايا محلية متفرقة لها بعد مدني محلي، تحت ضغط الحصار والتجويع مع استمرار الهجوم الإسرائيلي في كل الاتجاهات على الشعب الفلسطيني. ومع ذلك؛ من الممكن ممارسة ضغوط ناجحة على الحكومات للتأثير المتدرج والتراكمي في سياستها تجاه الحقوق الفلسطينية، وتجاه النظام الاستعماري العنصري الإسرائيلي.

السؤال الخامس: بم وأين نبدأ، وكيف؟

على الفلسطينيين أن يستعيدوا منظمة التحرير الفلسطينية لتكون الإطار والممثل الوحيد على الساحة الدولية في كل ما يخص الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، تفعيل المنظمة ووضع رؤية جديدة واستراتيجيات للعمل تتناسب من حيث الأساليب والبرامج مع الوضع الحالي والمستقبلي، وعدم التفكير في العودة لاجترار الماضي، على أن يجري تقييم علمي لكل التجربة الماضية والاستفادة من دروسها، وبذلك يكون المجتمع المدني الفلسطيني بمنظماته المختلفة ضمن أطر منظمة التحرير الفلسطينية وخاضعا لسلطاتها فيما يخص العلاقات الخارجية. من هنا يكون على منظمات المجتمع المدني الضغط أولا من أجل إصلاح وتفعيل وتحديث منظمة التحرير الفلسطينية والمساهمة في وضع إستراتيجيات مناسبة لخطط بعيدة المدى، ولا بد من رفع الصوت عاليا في وجه كل من يحاول تحييد أو تجاوز منظمة التحرير الفلسطينية مهما كانت المبررات، فهي بيت الفلسطينيين جميعا وهي حافظة حقوقهم وهويتهم، هي "الدولة الفلسطينية"، وهي ليست ملكا للون سياسي معين أو مسؤول ما، أو فصيل ولا حتى لكل الفصائل الفلسطينية، وليست كعكة معروضة للتقاسم. ومن لا تعجبه إدارتها فليسعى لتغييرها بالوسائل التي يراها مناسبة، لكن لا يفكر كائنا من كان أو حزبا سياسيا مهما علا شأنه، أن يتحدث في الخارج باعتباره ممثلا للشعب الفلسطيني إلا من خلال منظمة التحرير الفلسطينية.

وقد يكون من المناسب أن تبدأ منظمة التحرير الفلسطينية من فتوى محكمة العدل الدولية عام 2004 بشأن جدار الفصل العنصري، وتطلق حملة دولية منسقة، ثم العودة بالملف إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومطالبة الدول الأعضاء بالوفاء بالتزاماتها تجاه القانون الدولي، وبخاصة تحديد علاقاتها بإسرائيل بناء على مدى امتثال الأخيرة لأحكام القانون الدولي، المعاهدات الدولية والقانون الدولي الإنساني. وفي هذا السياق تستمر منظمات المجتمع المدني الفلسطيني في حملاتها المتنوعة مع شركائها في المجتمع المدني العالمي، وخاصة حملات مقاطعة إسرائيل، سحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها حتى تقوم بالالتزام بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالحقوق الفلسطينية. والحقيقة إن منظمات المجتمع المدني العالمي هي الآن  الحليف الحقيقي الوحيد للشعب الفلسطيني. ولكن على منظمات المجتمع المدني الفلسطيني أيضا أن تتحد وتتكاتف وتبلور رؤية واضحة وشاملة وموحدة لكي يسير الحلفاء الحقيقيون على هديها،  وليس برؤى مختلفة ورسائل متناقضة بحسب جهات التمويل، وإلا فعلى المجتمع المدني الفلسطيني أن يعيد النظر في هذا الاصطلاح كليا. فهناك منظمات مجتمع وهناك منظمات مهنية وإغاثية وتنموية تعمل لدى وكالات التنمية الأجنبية، ولا يربطها صلة بالحقوق الأساسية المشروعة للشعب الفلسطيني، صحيح يعمل فيها موظفون فلسطينيون وتسد ثغرة في ثقوب البطالة التي تفتك بالشباب الفلسطيني، ولكنها تعمل في البلاد كما لو كانت تعمل في بلد ثالث. ولذلك لا بد من إصلاح وتمييز المجتمع المدني الفلسطيني باعتباره طرفا فاعلا في مجابهة التحدي الأساس أمام الشعب الفلسطيني المتمثل في الاحتلال ونظام إسرائيل العنصري الاستعماري.

في النهاية، لا يمكن معالجة هذا الموضوع عبر مقالة سريعة، ولكن أساس النجاح في الضغط على صانعي القرار والتأثير في سياسة الحكومات، ينبع من حشد القوة من خلال التنظيم الجيد وحشد المناصرين، والصمود والثبات على المبادئ السياسية، ويتم ذلك عبر التخطيط السليم، ووضع البدائل لمواجهة الحملات المضادة للجماعات الموالية والمؤيدة للاستعمار الصهيوني العنصري، فهي جماعات تمتلك قوة كبيرة ودقة تنظيم ومهنية عالية في العمل، وتراعي كل الاعتبارات القانونية والسياسية والإعلامية و"الأخلاقية" عند ممارستها لنفوذها على صانعي القرار. ولا شك أن حركة المقاطعة الفلسطينية والعالمية ضد إسرائيل تمثل إستراتيجية ملائمة على طريق التأثير والضغط على الحكومات، علما أنها بحاجة للكثير من أجل توحيد رؤيتها ومبادئها، ولكي تكون هذه المبادئ جزءا من برامج ومبادئ كل المشاركين فيها؛ تماما مثلما يجب أن نطلب من كل دولة تدعى مساندتها للحقوق الفلسطينية أن تشرع ذلك في قوانينها الداخلية. هذا الدور الذي يجب على منظمة التحرير الفلسطينية أن تلعبه من خلال الأمم المتحدة وعبر العلاقات الثنائية مع كل دولة، ومن خلال برامج وخطط لجان المجلس الوطني والمجلس التشريعي الفلسطيني. وحتى تنجح هذه الإستراتيجية، يجب التوجه في كل الاتجاهات ببرامج واضحة وأهداف محددة، وهذا لن يكون بدون تنظيمات ومؤسسات مهنية قوية.

وأخيرا، يجب أن يكون معلوما أن الحديث يجري عن الكثير من العمل المعقد والمتراكم، والكثير من العمل البسيط لكل فرد على حدة، ولذلك يجب النظر للأمام، مع الإدراك بأن هذا طريق قد يستغرق عدة عقود حتى يثمر عن نتائج نهائية، ولذلك، فإن أعمال الضغط وحشد المناصرة والتأثير ستأخذ وقتا طويلا قبل أن تتحول إلى قرارات سياسية من قبل المجموعة الدولية لصالح إحقاق الحقوق الوطنية، وسيتخلله الكثير من العمل الشاق والمواجهات الداخلية والخارجية والاختلافات، مما يجعله يبدو غير مجدٍّ أو يؤدي لنتائج غير ملموسة، وأحيانا قليلة جدا مما يسبب الإحباط، ولكن المسيرات الكفاحية الناجحة والاستراتيجيات الصحيحة التي تستخدمها الشعوب لا تدرك بعمق إلا عند الوصول للغايات النهائية؛ أي عند التحرر والاستقلال والعودة.

 وهذا يؤكد لأنصار هذه الاستراتيجيات أن لا يقعوا في فخ المبادرات السياسية اللحظية والارتهان لها، والتي تكون غالبا للاستهلاك المؤقت أو لإدارة أزمات حادة في سياق صراع مديد. انما يجب النظر قدما والتمسك بمبادئ وأسس الإستراتيجية السليمة ومراجعتها بصورة مهنية، وبعيدا عن تأثير الهجمات التي تظهر أحيانا على شكل حلول مطروحة لإنهاء الصراع الفلسطيني الصهيوني، أو على طريقة مبادرات لإقامة دولة فلسطينية أو خرائط سياسية...الخ. فلا بد من الاستمرار في حشد المناصرين والضغط مع الإمساك بالحلقات الجوهرية لزيادة قوة التأثير حتى يتحقق الهدف النهائي في إرادة دولية مع الحق والعدل والقانون والسلام الحقيقي.

 ------------------
 سالم أبو هواش: ناشط جماهيري فلسطيني، عضو الجمعية العامة لمركز بديل.