أصعب الجراح تلك التي لا تنزف الدماء

 
بعد 61 عاما على النكبة، وبعد قرابة قرن على بدء الصراع المسلح مع العصابات الصهيونية اليهودية التي احتلت فلسطين، لا تزال الذاكرة الفلسطينية حية وعميقة. وان جفت بعض الدماء هنا أو هناك، الا أن الجراح لا تزال راعفة، ويصدق القول أن أصعب الجراح تلك التي لا تنزف الدماء. ومن خلال القصص التي قدمها المشاركون في مسابقة جائزة العودة 2009 – مضمار القصة الصحفية المكتوبة – لمسنا نحن لجنة التحكيم، مدى الألم الذي ينبعث من هذه القصص، وقد شعر كل واحد فينا بالحسرة تعتصر قلبه وهو يقرأ عن مأساة شعب كامل تعرض للذبح والتقتيل والتشريد لصالح فكرة إقامة وطن لشعب آخر جاء من أصقاع الأرض.

 

الموت هروبا، أو الفناء في مواجهات بين الحقول، الحسرة وفقدان الأهل، أو إشعال النار في كبار السن والمكفوفين، ودفن العائلة خشية أن تنهش الكلاب لحم الأموات.
وفي كل مرة نقرأ فيها هذه القصص، وفي كل مرة نسمع فيها حكايا النكبة، نعرف باليقين أن هناك ظلما تاريخيا لا يوصف وقع على شعب بسيط في ارض صغيرة وجميلة، وان القصص لا تنتهي، وان العذاب لا يمكن أن يصبح عادة مقبولة بالتقادم.
فوراء كل سيدة مستوطنة شقراء تلبس سروالا قصيرا على باب مستوطنة في فلسطين، هناك المئات من الفلاحات العربيات اللواتي أصبحن أرامل أو ثكالى وسلبت منهن أراضيهن على مرأى ومسمع من كل العالم الذي يدعي الحضارة.
قصصنا لا تنتهي، لأن جرحنا راعف ولا يزال أخضر، ولن ينتهي؛ لأن العالم أصابه الطرش ولا يسمع أنين جراحنا، فيما لا نزال نعض قلوبنا ولا نريد أن نفقد إنسانيتنا.
وما بين تاريخنا ومستقبلنا، ما بين جراحنا والجراح النفسية لأطفالنا، ما بين رام الله "العاصمة" ومخيمات اللجوء، ما بين كازينو أريحا وعين الحلوة...لا نزال نبحث عن خيط رفيع يوثق صلتنا بالثقافة الإنسانية.
 فجلسنا في صبرا والدهيشة ونهر البارد ومخيم جنين نقرأ لتولستوي، وارنست همنغوي، وسبارتاكوس، وفرانس فانون، وفيكتور هيجو، وجورج امادو،  واجاثا كريستي، وانجلز، وروزا لوكسمبريغ... علنا نجد على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
تقرأ قصص النكبة، فتلبسك شخصية جان فالجان في كتاب البؤساء، وكيف تمضي بك الحياة من مصيبة الى أخرى فتتحول الى ضحية العصر، يبكي كل العالم وأنت تفقد الرغبة في البكاء.
ان فلسطين، قصة إنسانية تشبه حقبة العبودية، وقصة ملحمية تشبه الإلياذة، وقصة أسطورية - تاريخية تشبه جلجامش، وقصة خيالية تشبه دونكشوت؛ لكنها ستبقى أكبر وصمة عار في جبين العالم المعاصر.
-----------------

 ناصر اللحام، صحفي وإعلامي فلسطيني.