مشاهد متكررة للنكبة المستمرة للمجزرة ثقافتها... للمخيم وجدانياته

أصوات لانفجارات تدفعك مرتبكا لمغادرة دفء فراشك، عند ضحى يوم  شتائي، تنظر لسماء الجنوب باتجاه المخيمات الوسطى، سماء البريج، النصيرات، المغازي، دير البلح، دخان كثيف يتصاعد، وطائرات تحتل السماء، وتلقى بأسلحتها على مقرات ومباني ومؤسسات، تتجه بنظرك تجاه الشمال، لتشاهد أعمدة دخان تتحول إلى سحب هرمية، قاعدتها بأرض غزة وقممها تحاكي سماؤها...

 يدفعك المشهد إلى جهاز تلفازك، لاكتشاف هول الضربات...، رجال متناثرة أجسادهم على الإسفلت، وأخرى مدفونة بين الركام، وآخر يطلق صرخته الأخيرة، بشهادة لكي يلاقي الرب على دينه...، وآخر يرفع سبابته معلنا إيمانه.

  يطل علينا أحد مراسلي الفضائيات من مستشفى الشفاء، ناقلا مشاهد لأكوام من الأشلاء (أيدي وأرجل وأجزاء من أجساد مكومة في زوايا غرف المستشفيات، مشهد يقارب لقطع الغيار المهملة في كراج قديم لسيارات مدمرة....).

 تعلن الضحايا بصيحاتها وصمتها الأبدي...هي المذبحة... منذ دير ياسين تتواصل، هي المجزرة...المجسدة لصبرا وشاتيلا تستنسخ، هي الحرب...منذ 1948 معلنة...، وتعلن دولة الاحتلال، بذلك حربها على مدينة غزة ومخيماتها لتجسد أخلاقيات الحرب والعدو لتؤكد لمن يوهم نفسه بالأخر، بأن لا وجه للعدو إلا  الرعب ولا أخلاق لحربه إلا الموت...!

  تصدمك المشاهد...، وتدفعك لتساؤل أن كانت البداية بهذا الحجم...، والمجزرة بتلك البشاعة...، كيف سيكون السيناريو؟ وهل سيكون مسلسل للعديد من المجازر يجسده محترفي الإبادة على أرض غزة ومخيماتها...؟ وأي أخراج يعده قادة الحرب لها...؟ وهل ستكون الملحمة بطولية أم مأساوية...وهل ستكون نكبة جديدة...؟

 وبعد ذلك تأخذ الطائرات بإلقاء حممها على بيارات البرتقال، التي تلتف حول البيت وتصاحب حممها بيانات ورقية تطالب أهالي المنطقة بالمغادرة والرحيل، معلنة بذلك بداية الحرب البرية، ليأتي في الصباح مشهد الرحيل...عندها تأتي جدتي بصيحاتها البكائية (الظواهرة[1] أطلعونا من البلاد ..... واليوم رحلوا الناس من بيوتها ..... الناس رحلت من المغراقة[2])تطل عبر سياج بيتك لمشهد الرحيل، نساء وأطفال يحملون صرر صغيرة...، المشهد ألتقط بالأبيض والأسود عام 1948م، لكي يكون مادة تثقيفية لأطفالي في مجموعات عائدون، بالمخيم الذي تلجأ إليه تلك العائلات الهاربة من دبابات الاحتلال، تحاول عبرها عكس المشهد لذاكرتهم الصغيرة، وترسيخ الوعي بالنكبة التي لم يشهدها أبائهم، ولكن أجدادهم هم من عاشوها قبل أكثر من ستين عاما.

 الآن المشهد ليس بحاجة لعدسة، ولا للون الأبيض والأسود، يتجسد لهم بمعايشة حالة البحث عن ملجأ، يقيهم من المجزرة، المشهد بحاجة لوعي يحلل ما مدى صدقنا مع قيم المواجهة والصمود والمقاومة...

 يطرح نقاش داخل الأسرة، على إثر رحيل أهل المغراقة، ماذا سنفعل؟ يقرر والدي مدعوما بنا بأن لا مغادرة للبيت، ودعواته أن تمر الحرب بسلام ويلطف بنا الرحمن الرحيم, وأحاول إقناع نفسي بأن دفء الفراش هو الوطن...! والمشهد لن نكرره مرة أخرى بهروبنا من الموت الذي يعايشنا منذ هروبنا الأول، قبل أكثر من ستين عاما...، لنواجه كل يوم الموت بذل اللاجئين خمسين ألف مرة...، ولتكن مواجهة مرة واحدة وبعدها الحياة...!

 كل ما تناقلته وسائل الإعلام من مناظر للمجازر، التي ابتكرتها الآليات التي تربض على بعد 400 متر من بيتك، تعزز القلق الذي سكن صدر طفلة بالسابعة من عمرها عام 1982م، على إثر مشاهد لمجزرة صبرا وشاتيلا، وحالة الخوف المتنامية على مخيم شاركت مقاعد الدراسة أبنائه، كانت حالة اكتشاف للقضية ولواقع اللجوء، لطفلة ولدت في بيت ريفي ولاعبت فراشات البيادر والبساتين المنتشرة حول بيتها، ولكي يكون مشهد اللجوء الأول للأزقة الضيقة وللبيوت المتلاصقة، لمكان يطلق عليه المخيم، ليأتي الانتماء لهؤلاء البشر، كونها لاجئة...وتتجسد علاقات الحب معهم، من خلال مقاعد الدراسة ويكبر ليعزز بداخل الطفلة معنى الانتماء الحقيقي، دافعا بذلك حالة الخوف والقلق على من شاركتهم مقاعد الدراسة، من هول المجزرة التي تجسدها كوابيس وأحلام مشاهد لضحايا صبرا وشاتيلا، تلاحق ذاكرة الطفلة بهذيان فكري، بان علينا مقاومة المجزرة، وعلينا حماية المخيم، الشاهد والشهيد على جريمة الاقتلاع لشعب من أرضه...

 يتكرر المشهد بمجزرة جنين 2002، لترسخ ثقافة المجزرة في وجدانياتنا،التي ثرنا عليها عام 1987، عندما دعمت صبرا وشاتيلا عند أطفال المخيم وجدان الرفض لثقافة الضحية، ولتنهض لتنتفض على عدو يرسخ ثقافة أن تعيش الضحية بوجدان المجزرة...، كان رد على أثر تراكم وجداني ووعي لدى جيل يرفض استلابه كشعب، ليعلنها ثأرا لضحايا صبرا وشاتيلا بحجارته...

 تجسدت انتفاضة الأقصى بمجازر، وأن كانت أرقامها بالعشرات، أو المئات، أو الألوف...، فالإنسان في قاموس الإعلام والسياسة ما هو إلا رقم، معززة بذلك حالة التعاطي الوجداني مع ثقافة المجزرة، التي جسدت بعد مجزرة جنين، دفعني ذلك في عام 2002 على إثر ما حدث في مخيم جنين، بتشكيل مجموعات عائدون بالمخيمات الوسطى، لكي ندعم بداخلهم وعي الانتماء لذاكرة العودة، ونواجه بذلك ثقافة المجزرة التي تنقلها تقارير إخبارية وبيانات حزبية عبر أرقام وقصص بكائية للضحية، تستجدي النصرة من الغير، والعطايا من موائد  اللئام والكرام...!

 أخذ وجدان الأم لهؤلاء الأطفال بداخلي ينمو، ليدعم حالة صمود داخل بيتي، الذي يبعد عن المخيم 2000 متر، ولكي يعزز حالة حراسة للمخيم من تحرك آليات، تنتظر على بعد 400 متر قرار التوجه للمخيم لسحقه، مشاهد وصور مفجعة لأطفالي عبر تخيل المشهد الكارثي إن تقدمت...، وتساؤلي القلق، من منهم سيبقى على قيد الحياة؟ وهل سيكون لقاء بعد الحرب إن بقينا على قيد الحياة؟

 يكبر الخوف وتزداد وتيرته، مع واقع التقارير الإخبارية على مدار الساعة، حول مجازر هنا أو هناك ، لتلجأ لذاتك دافعا كل قناعات الصمود والمقاومة في زوايا العبث أمام هول ما يجري حولك....!كل لحظة تقول:  هو الموت، هو القدر، مصيرنا.

 وحالة تساؤل تنتابك حول تاريخنا المجسد بسلسلة متصلة من المجازر، وهل مازلت قناعات المقاومة لثقافة المجزرة باقية، وتحمل برأسي...!، ولماذا الإنسان الفلسطيني في ميزان الإنسانية لا قيمة له إلا كرقم, وهل علينا إعادة حساباتنا مع المؤسسة والقيادة والحزب؟

 إن الأرقام في صيغة الضرب، والطرح، والقسمة، يجب أن تأخذ بجدول الحياة عندهم...، لا قيمة لانتصار إلا عندما يحقق أهدافه، بالعودة وإنهاء وجود المخيم من جغرافية المعمورة العابسة بوجه قاطنيه...، ولكي نقضي على ثقافة المجزرة، يجب تعزيز ثقافة الإنسان وقيمته في قاموسنا الإعلامي والسياسي والثقافي.

 ---------------------------------------

فاطمة مصالحة، ناشطة فلسطينية في مجال الدفاع عن حق العودة، قطاع غزة.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] الظواهرة / احدى عائلات قبيلة الحناجرة ومعظمهم لاجئون من بئر السبع عام 1948

[2] المغراقة/ منطقة ريفية بين مدينة غزة والمخيمات الوسطى، أثناء الحرب تقدمت عبرها الآليات وتمركزت قربها بهدف الدخول والانقضاض على مدينة غزة من جهة الجنوب، معظم منازلها دمرت أثناء الحرب.

--------------------------------------------------------------------------------