بقلم:الفنان والمخرج محمــد بكــري 

سألت أحد المقاتلين في جنين المخيم أثناء تصويري لفيلم "جنين جنين" (الذي أقام اسرائيل وأقعدها حتى أصبح شغلها الشاغل على مدار سنتين جرجرتي الى المحاكم التي ما زالت مستمرة حتى اليوم، وآخرها اولئك الجنود الخمسه "الأبرياء" الذين تقدموا بشكوى تطالبني بدفع "شرفية" لتلويث سمعتهم)، سألته: أخشى أن يكون قد ذهب دم الشهداء  هدرا!! إستفز المقاتل من سؤالي، تريث قليلا ثم أجاب متلعثما وكأنه يقرأ أفكاري: لا تخف هنالك من يطالب!!! صمت، ولم أكن من جهتي مقتنعا بالإجابة. فجوابه كان متأخرا، وبه قدر من الإحباط المدثر بالدبلوماسية!

لقد لاحقني الجيش الاسرائيلي والاعلام الاسرائيلي، الكنيست والحكومة الاسرائيلية لم تبخلا ايضا، وبقيت وحدي أحارب دولة عظمى  فرضت علي الحرمان على انواعه، وهدرت دمي في الشارع الاسرائيلي بصفتي خائن أعظم لمواطنتي الاسرائيلية على حد قولهم، وها أنا ذا قابع في قريتي البعنة الباقية، محبوس في وطني أحارب من أجل بقائي بكرامة في بلدي. لم تدافع عني صحفنا العربيه لا في فلسطين المحتلة (ما عدا وليد أبو بكر في جريدة الايام) ولا في صحفنا في الداخل، استثني أيضا "الاتحاد" التي وكمن يؤدي واجبه عندما يذهب لتعزية من فقد غاليا. كتبت هنا وهناك استنفارا ضد من هاجموني.

 

كان وما زال الهجوم الإسرائيلي شرساً، منظما ومدروساً. أما دفاعنا فكان كإتمام واجب لا غير. لم تتحرك السلطة الفلسطينية ولا الهيئات الشعبية لتقف إلى جانبي وتقول كلمتها. لقد أحسست حينها (وما زلت) كما أحس أهل مخيم جنين أثناء الاجتياح الإسرائيلي، وحيداً، مهملاً ومنبوذاً من ذوي الشأن العالمي، الفلسطيني والعربي ايضا على السواء. ولست هنا لخوض أناويتي، ولا للحديث عن مدى معاناتي الشخصية. فما قدمته وما يقدمه الآخرون الكثر من أمثالي يبقى ضئيلا، وضئيلا جدا، أمام ملايين اللاجئين الفلسطينيين، ممن يعيشون ولا يعيشون، بعد ان نستهم القوانين الدولية باتفاقاتها المكتوبة، وحرموا من حقهم الأساسي: حق العودة، حجر الأساس الأول لسلام حقيقي  مستقبلي بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. 

وماذا يعني نضالنا أمام الشهداء والجرحى والمعاقين والأسرى والأمهات والزوجات والأخوات الثكالى  وآلاف اليتامى؟! وآلاف البيوت المدمرة والأشجار المقتلعه؟! ومع ذلك، فإن السؤال لا يزال ينتظر الإجابة: هل من مطالب حقيقي لكل هؤلاء الضحايا؟ وهل من ممثل لهذا الكم الكبير من المعاناة؟! يبدو لي أننا قد فقدنا بوصلتنا القيادية في الداخل والخارج. وإلا، فما معنى هذا التشرذم؟ هذه الطائفية؟ وهذه الرجعة الى العرف القبلي والعائلي والطبقي؟ ما دام المشروع واحد وهو تحرير الارض والانسان؟ تحريرالأرض المحتلة وإستعادة كرامة الانسان فينا؟ 

أمثلة كثيرة تعلو في السياق. فماذا أجيب سائلا سألني في أحد المؤتمرات الأوروبية: أنتم عرب الـ 48 تشكلون 20 % من سكان إسرائيل تستطيعون ان تكونوا قوة مانعة بالحصول على 20 مقعدا في الكنيست أو أكثر. فلماذا لا يحدث هذا؟ كان جوابي مقتضبا، ولكنه لم يكن الجواب الحقيقي، فقد خجلت من مواجهة نفسي بحقيقتنا: "لأننا اغبياء". أمثلة أخرى، وأسئلة كثيرة تنتظر من يجيب عليها، ولكن ليس هذا هو المهم. 

المهم هو ماذا تعلمنا منذ النكبة الاولى؟ وجوابي هو: لا شيء على الاطلاق. لأننا لو تعلمنا، لكانت لدينا سينما. لكان لدينا إعلام حقيقي غير القصيدة والمقالة. لكان لدينا مسرح. لكان لدينا موسوعات فلسطينية. لكانت لدينا مؤسسات ترعى كل هؤلاء المبدعين. لكان لدينا حقا مشروع حياة. ولكننا على ما يبدو، لم نتعلم شيئا منذ النكبة غير الخطاب المباشر  السياسي الغبي الذي لا يحمل في قالبه مشروعا حقيقيا يهدف الى استعادة كرامة الانسان. نعم، لم نتعلم شيئا. وقد تدجنت الثورة ودخلت في طور"الوظيفة" حتى أصبح القائد المغوار مجرد موظفا ينتظر الكثير إلا الدرس والعبرة، إلا الدولة العتيدة. 

لقد صنعت المؤسسة الصهيونية وما زالت آلاف الأفلام والمسرحيات وطبعت آلاف القصص ووضعت الملايين المرصودة للاعلام فقط. هذا إضافة الى المتاحف والمنابر والفن التشكيلي والموسيقى، الاعلام المدروس والموجه. أما نحن، فماذا فعلنا بـ 58  عاما من النكبة؟ أين وضعنا أموالنا وبماذا استثمرناها؟ ماذا فعلنا غير الصراخ والعويل. أنظروا الينا، وشاهدونا في المرآه. شاهدو تلفزيوناتنا، مسارحنا، سينمانا. لو كنا نحترم الانسان فينا، لو كنا حقا نحترم الانسان؟ 

وساقول هنا أمرا قد يغضب الكثيرين: فلنتعلم من إسرائيل كيف تحترم انسانها اليهودي فقط!! فيا ليتنا نحترم انساننا لينطبق علينا مثلنا "ما في حق بضيع ووراه مطالب". فقط عندها نصنع الأبطال ونخلق قيادة نبيهة مسؤولة تسوقنا الى بر الأمان. عندها فقط نستحق الدولة وعندها فقط نستطيع أن نعلمهم كيف يحترمون الإنسان أيا كان. عندها فقط.