كيف تعاملت إسرائيل مع المهجرين في الداخل؟

بقلم:د. هيلل كوهين 

لاحظت القوات الإسرائيلية في آب 1948 مع احتلالها مدينة الناصرة الواقعة في قلب الجليل وجود آلاف اللاجئين من القرى المجاورة الذين لجئوا الى المدينة، وأقاموا في الأديرة والمدارس والمباني العامة الأخرى. كانت أوضاعهم سيئة للغاية، حيث أنفقوا خلال أسابيع المبالغ الصغيرة التي كانت معهم وعاشوا على الصدقات. فيما ذهبت ظروفهم الصحية من سيء إلى أسوأ، وطاف أبنائهم في الشوارع بحثاً عن الطعام أو أي عمل مقابل ما يسد الرمق. وهي نفس الصورة، – ربما على نطاق أضيق – رأتها القوات الإسرائيلية بعد أربعة أشهر عند احتلالها لقرى الجليل الأعلى ومنطقة المجدل – عسقلان. العديد من القرى والمدن تجمع اللاجئين بأعداد كبيرة في ظروف معيشية مأساوية وهذه المرة رفضوا مغادرة أماكن لجوئهم، على أمل العودة إلى بيوتهم وديارهم التي هجروا منها.  في حالات عديدة، قامت قوات الجيش الإسرائيلي بطردهم إلى ما وراء الحدود، فيما إستطاع آخرون البقاء في الدولة وأصبحوا مواطنين فيها وكان على مؤسسات الدولة أن تقرر كيف ستتعامل معهم.

 

كان القرار الذي اتخذ في اللجنة الخاصة للشؤون العربية التي أقامتها حكومة إسرائيل في نهاية العام 1948، هو السماح بصورة محدودة للاجئين من التجمعات التي بقي فيها مجموعات كبيرة من العرب بالعودة إلى قراهم ومدنهم. وهكذا استطاع الآلاف من اللاجئين من مدينة حيفا – الذين لجئوا إلى الناصرة وقرى الشمال – العودة إلى مدينتهم، كذلك الأمر بالنسبة للاجئين من عكا، لكنهم أحياناً لم يعودوا إلى بيوتهم تحديدا، فأحيانا كانت هذه البيوت قد سكنت من قبل قادمين جدد يهود أو جنود مسرحين، حيث تم توجيههم إلى بيوت أخرى، لكنهم في النهاية عادوا إلى مدنهم أو قراهم. أما بالنسبة للاجئين من التجمعات التي تم تهجير سكانها بالكامل أو بغالبيتها العظمى فإن القرار كان عكسياً تماما: إذ لم يسمح لهم بالعودة إلى بيوتهم، وشجعتهم إسرائيل على الإقامة في التجمعات التي لجئوا إليها، وفي المقابل وضعت الدولة يدها على أراضيهم في القرى المهجرة، وفقاً لبندٍ خاص في قانون أملاك الغائبين الذي سنته الكنيست. وهكذا منعت عودة لاجئي صفورية، المجيدل، معلول، الكويكات، بلد الشيخ، الدامون، الرويس، سحماتا البصة والكثير من القرى حيث صادرت إسرائيل أراضيهم منهم وكان عليهم أن يباشروا حياتهم من جديد كـ "لاجئين في وطنهم" 

كان للسياسيين والموظفين الإسرائيليين الذي قرروا منع المهجرين من العودة إلى قراهم ثلاثة إعتبارات أساسية: الأول: حاجة الدولة لأراضي المهجرين من أجل بناء التجمعات السكانية لاستيعاب القادمين اليهود الجدد من أوروبا والدول العربية، الذين كان من المتوقع قدومهم إلى الدولة الفتية. الثاني: أن بعض القرى كانت تقع في مواقع إستراتيجية. وخوفاً من حرب ثانية مع الدول العربية (بمساعدة فلسطينية) تقرر أنه من غير الممكن ترك السيطرة عليها بأيدي العرب. أما للإعتبار الثالق فقد كان بعد انتقامي و"تأديبي": العرب هم من رفضوا قرار التقسيم وهم الذين أشعلوا الحرب، لذا كان عليهم أن يتحملوا نتائج أفعالهم لكي لا يكرروا ما قاموا به في المستقبل. 

مقابل منع المهجرين من العودة إلى قراهم، كان على السلطات الإسرائيلية أن تعالج قضية الوضع الاقتصادي المتردي والمجاعة المتفشية بين أوساط المهجرين. هكذا، وخوفاً من الضغوطات الدولية، ولأنهم اعتبروا أنفسهم  "متنورين" وبسبب رغبة حقيقية في تخفيف معاناة اللاجئين الفلسطينيين في إسرائيل، قامت السلطات الإسرائيلية بالبحث عن طريقة لحل المشكلة الاقتصادية لدى اللاجئين الفلسطينيين في إسرائيل. والطريقة الأولى كانت تأجير أراض للاجئين في القرى التي لجئوا إليها، في الغالب كانت هذه الأراضي لسكان من تلك القرى الذي هجروا منها إلى خارج البلاد. هذا ما حصل في السنوات الأربع الأولى، حيث إستأجرت آلاف العائلات أراضٍ من وزارة الزراعة وقامت بفلاحتها، ومكنتهم مداخيلهم من الزراعة والمعونات التي حصلوا عليها من الأونروا وجهات أخرى، من البقاء على قيد الحياة. العديد منهم عاشوا في خيام وبيوت من الصفيح على أطراف القرى التي لجئوا إليها، لكن مع هذا استطاعوا الاستمرار. 

في سنة 1952 تغيرت السياسة. فقد قررت إسرائيل حل قضية اللاجئين داخلها، طبعا ليس المقصود هنا السماح للمهجرين بالعودة إلى قراهم، الأمر الذي يتناقض مع الروح الصهيونية والسياسة الإسرائيلية. فقد ابتدعت إسرائيل حلا يقوم على دفع المهجرين إلى الاندماج في المجتمع العربي في إسرائيل ومحو المميزات الخاصة بهم. وبهذا أملت إسرائيل في الحؤول دون مطالبتهم بالعودة إلى قراهم. هكذا عملت إسرائيل، على العكس من معظم الدول العربية والفلسطينيين أنفسهم – ربما لأسباب مختلفة – الذين كانوا يريدون الإبقاء على قضية اللاجئين قائمةً، لهذا الهدف قامت إسرائيل برسم سياسة من ثلاث مركبات: منح اللاجئين فرصة لتحصيل العيش بكرامة، قطع العلاقة بينهم وبين أرضهم في القرى التي هجروا منها وإلغاء وضعهم الرسمي كلاجئين. 

في إطار هذه الخطة تم التوصل لاتفاق مع الأونروا بموجبه تتوقف الأونروا عن تقديم  المساعدات الغذائية للمهجرين، وتقوم بشطب اللاجئين الفلسطينيين داخل إسرائيل من قائمة اللاجئين الفلسطينيين. بالمقابل تأخذ إسرائيل على عاتقها قضية غوث هؤلاء اللاجئين. اعتبارات الأونروا كانت اقتصادية، حيث توزع اللاجئين الفلسطينيين الذي تعمل على إغاثتهم في كافة دول الشرق الأوسط ولم تتوفر لها دائماً الميزانيات الكافية، لذا أرادت أن تساهم الدول المضيفة في تأهيل اللاجئين الفلسطينيين. الدول الأخرى رفضت ذلك لأسباب وطنية وسياسية واقتصادية. هكذا في اللحظة التي توقفت فيها الأونروا عن تقديم الغوث للاجئين داخل إسرائيل، أعلنت السلطات الإسرائيلية أنه "لا توجد بعد مشكلة لاجئين داخل إسرائيل". منذ ذلك الحين اهتمت إسرائيل باحتياجات مواطنيها – يهوداً وعرباً لاجئين وغير لاجئين – وفق مبدأ الحاجة، من لم يستطع إعالة نفسه تلقى مساعدة مالية أو استمارات تموين، ومن كان يستطيع إعالة نفسه لم يتلق مساعدة حتى ولو كان لاجئاً. وهكذا مع فك العلاقة مع الأونروا لم يخسر اللاجئون الفلسطينيون فقط الاعتراف الرسمي الدولي بكونهم لاجئين وإنما أيضاً المساعدة الاقتصادية المترتبة على وضعهم ذلك. هدفت إسرائيل من وراء هذه الخطوة إلى أن يكف اللاجئون عن تعريف أنفسهم كلاجئين. 

إذا كانت إسرائيل في البداية قد منعت اللاجئين من استئجار أراضٍ في قراهم التي هجروا منها، فإنها الآن وضمن الخطوة الثانية لقطع العلاقة بين اللاجئين وأراضيهم التي سلبت منهم. اتخذت خطوة أوسع إذ عرضت عليهم الحصول على تعويضات مالية عن أراضيهم تلك، مع إمكانية الحصول على قطعة أرض من اجل بناء مسكن جديد، وفي بعض الأحيان قدمت الدولة أيضاً أرض زراعية. في المقابل طلب من المهجرين التوقيع على وثائق يتنازلون بموجبها عن أي ادعاء مستقبلي حول أراضيهم وبيوتهم في القرى المهجرة. في البداية رفضت الأغلبية الساحقة من المهجرين التوقيع على مثل هذه الوثيقة، لكن مع مرور الوقت وبسبب الضغوطات الاقتصادية والضغوطات الأخرى التي مارستها إسرائيل وقّع عدد غير معروف من المهجرين على مثل هذه الوثائق. وعملية جمع تواقيع اللاجئين على مثل هذه الوثيقة مستمرة للآن، بالأساس داخل إسرائيل ولكن خارجها أيضاً، لكن لا تتوفر معطيات حول نسبة اللاجئين الذين وقعوا على مثل هذه الوثائق وحصلوا على تعويضات. 

إتخذت إسرائيل خطوات أخرى لقطع العلاقة بين اللاجئين وأراضيهم، مثل الإعلان عن القرى المهجرة كمناطق عسكرية مغلقة. هذه الخطوة هدفت لمنع المهجرين من زيارة أنقاض قراهم واخذ أولادهم لهناك وتربيتهم على المطالبة بالعودة. إسرائيل، ومنذ سنوات الخمسين، امتنعت عن إجراء أي حوار مع لجان المهجرين حول أي  قضيةٍ كانت، وأجرت أي حوار مع الأفراد كأفراد، وذلك من أجل الحؤول دون نشوء قيادة للمهجرين، أو استمرار "مجموعة الذاكرة" للمهجرين كذلك للتعبير عن عدم الاعتراف بأي تنظيم للاجئين في البلاد. في مجال التعليم أيضاً امتنعت إسرائيل عن ذكر قضية المهجرين داخل إسرائيل أو اللاجئين بشكل عام. وحتى السنوات الأخيرة فإن الموضوع بقي محرماًً ولم يذكر تقريبا في المدارس الإسرائيلية – عربية كانت أم يهودية. 

لقد نجحت إسرائيل نوعاً ما في الخطة التي رسمتها لنفسها: الغالبية العظمى للمهجرين في الداخل استقرت في القرى والمدن التي لجئت إليها داخل إسرائيل، ومن ناحية المنظر العام لا يمكن التمييز بوجود لاجئين (على العكس من الضفة الغربية غزة لبنان والأردن.. حيث مخيمات اللاجئين جزء لا يتجزأ من المنظر العام). إضافة الى ذلك، فإنه ومنذ سنوات الستينات إلى نهاية الثمانينات لم يسمع أي طلب من المهجرين بالعودة إلى قراهم، نجاح آخر سجلته السياسة الإسرائيلية تمثل في أنه،  وبشكل شاذ عن باقي تجمعات اللاجئين، فإن اللاجئين داخل إسرائيل – حتى بداية التسعينات – لم يكونوا منظمين في لجان ونواد ومنظمات حملت اسم قراهم ومعه المطالبة بالعودة. 

ولكن، منذ بداية التسعينات يمكن تمييز "طفرة" في نشاطات المهجرين ومن جديد طرح مطلب العودة إلى قراهم، وأحد مظاهر هذه الصحوة نشوء عشرات اللجان للقرى التي تمثل المهجرين من عشرات القرى. والتي تقوم بالعديد من النشاطات كمخيمات العمل والجولات لقراهم وتحاول جمع كل المهجرين حول مطلب العودة. مظهر آخر هو إدراج المطالبة بحق العودة في البرامج السياسية للأحزاب العربية وإحياء ذكرى النكبة من قبل لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إحدى القرى المهجرة. 

إن انبعاث قضية طرح العودة للمهجرين من جديد يرجع إلى حدٍ ما للعملية السياسية التي انطلقت في مدريد واستمرت في أوسلو، والتي لم تقم خلالها منظمة التحرير الفلسطينية بطرح قضية المهجرين، فوصل هؤلاء إلى قناعة أنه يجب عليهم أن يمثلوا أنفسهم بأنفسهم. في فترة حكومة رابين (1992-1995) سجلوا حتى بعض النجاحات الرمزية، مثل السماح لهم بإقامة الصلاة في – وربما ترميم – بعض المساجد في القرى المهجرة. ولكن جو التصالح هذا لم يدم طويلاً ولم يؤدي إلى تغيير حقيقي في سياسات الحكومة. فشل مباحثات كامب ديفيد سنة 2000 وأحداث أكتوبر ذلك العام في القرى والمدن العربية، طبعت في الذاكرة الإسرائيلية مطالبة اللاجئين الفلسطينيين بالعودة كتهديد حقيقي لوجود إسرائيل. ومن وجهة نظر إسرائيلية يمكن فهم ذلك، فأغلبية اليهود الإسرائيليين يطمحون للعيش في دولة يهودية أو على الأقل ذات أغلبية يهودية بارزة. عودة اللاجئين ستحول اليهود من أغلبية إلى أقلية، أو على الأقل لأكثرية بفارق صغير، وهذا مرفوض بالنسبة لهم. 

عند الحديث عن عودة المهجرين داخل إسرائيل إلى قراهم، لا يوجد هنالك أي خوف من الإخلال بالتوازن الديموغرافي داخل إسرائيل، إذ إن المهجرين في الداخل هم على أي حال مواطنين إسرائيليين. لكن هنالك تهديد من نوع آخر، التهديد الجغرافي: فالسلطات الإسرائيلية تخشى من التغيير في توزيع القرى والتجمعات العربية ما من شأنه أن يجعل الوجود العربي ملموساً أكثر. سبب آخر ربما أكثر أهمية هو أن إعطاء حق بالعودة للمهجرين قد يتم اعتباره كاعتراف إسرائيلي بمسؤولية إسرائيل عن نشوء قضية اللجوء وعن مسؤوليتها في حلها. ومثل هذا الوضع مناقض للموقف الإسرائيلي القائل بان الفلسطينيين والدول العربية هم المسئولين عن نشوء قضية اللجوء لأنهم هم من ابتدئوا الحرب عام 1948. هذا الموقف كان وعلى مر الستين سنة الماضية  الموقف السائد وتقريباً الوحيد على الساحة الإسرائيلية، لكن في السنوات الخيرة هنالك أصوات على هوامش السياسة الإسرائيلية تقول بان إسرائيل تتحمل مسؤولية جزئية في نشوء قضية اللاجئين ويطالبون الدولة بالاعتراف بذلك. إذا ما قررت إسرائيل الرسمية، في أطار المفاوضات، الاعتراف بقسم من مسؤوليتها فربما سيتغير تعاملها أيضاً مع مطلب العودة للمهجرين في الداخل.

_______________

د. هيلل كوهين هو باحث في معهد ترومان التابع للجامعة العبرية في القدس. وهو مؤلف كتاب "الغائبون الحاضرون: اللاجئون الفلسطينيون في إسرائيل منذ العام 1948".