بقلم: سلمان ناطور

مؤتمر "حق العودة والسلام العادل" الذي عقد في حيفا بين 26 إلى 28 آذار 2004 وشارك فيه يهود إسرائيليون (محاضرين وجمهوراً واسعاً) فكك عقدة الربط في أذهانهم بين النكبة وحق العودة وبين السلام العادل، بين ماض أسود هم يتحملون مسؤوليته وبين مستقبل مشرق هم أكثر المستفيدين منه. (نظم المؤتمر معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية وجمعية الدفاع عن حقوق المهجرين واتجاه – اتحاد جمعيات عربية ومنظمة زوخروت التي تعنى بالنكبة ومعظم أعضائها من اليهود، بعد هذا المؤتمر كثرت الأطر الإسرائيلية اليهودية التي تريد أن تعرف عن النكبة) 

يوماً بعد يوم يدرك الإسرائيليون أنهم لا يستطيعون الحديث عن سلام دون الحديث عن النكبة وحق العودة. في الماضي كان هذا الموضوع من المحرمات، أما اليوم فقد بدئوا يتناولونه في الصحف والمؤسسات الثقافية والجامعات، ويصغون، ربما باضطراب أحياناً، إلى الفلسطيني الذي يحدثهم عما فعلوه في عام 1948، استقلالهم (إذا كان حقا استقلالا) ونكبة الشعب الفلسطيني 

منذ عقد المؤتمر دعيت إلى عدد كبير من المحاضرات والندوات للحديث عن النكبة، إضافة إلى عروض مسرحية "ذاكرة" المترجمة إلى العبرية، ويحضرها جمهور يهودي لا يقل عن الجمهور العربي، كانت ندوات في حيفا والجليل وتل أبيب، ولم يكن سهلاً عرض هذا الموضوع على أسماعهم، لكن عندما تتحدث إليهم بلغتهم العبرية وبمنطق وبراهين، وتنحاز إلى الأخلاق، فإن النقاش يأخذ بعداً أعمق من مجرد طرح موقف سياسي ورؤية معاكسة. 

بعد كل عرض مسرحي أو محاضرة تأتي إلي امرأة والدموع في عينيها وهي تسأل: هل حقاً هذا ما فعلناه بكم؟

قلت لامرأة من تل أبيب وجهت إلي هذا السؤال: هل رأيت ماذا فعل الجيش الإسرائيلي في رفح وغزة، إطلاق صواريخ وقذائف على مظاهرة سلمية وقتل أطفال؟

قالت: نعم، انه جريمة بشعة.

قلت: بعد خمسين عاماً قد يسأل حفيدك حفيدي: هل هذا ما فعلناه في غزة؟

انتفضت وقالت: لن نترك لأحفادنا ما تركه لنا آباؤنا، لو عرفنا ما حدث بالأمس لمنعنا ما يحدث اليوم.

هذه المرأة رأيتها مرة أخرى في الثاني من حزيران في مظاهرة واجتماع شعبي جرى في جامعة تل أبيب في ذكرى حرب حزيران ومرور 37 عاماً على الاحتلال، تحدثت في خطابي عن الإبادة الثقافية التي تنفذها الصهيونية منذ النكبة وحتى اليوم، لم تأت هذه المرأة إلي تذرف دموعها، خرجت من بين الجمهور واقتربت من المنصة ورفعت لافتة: الصهيونية تساوي العنصرية، وظلت واقفة إلى أن انتهت المظاهرة. 

عن الأحلام والحالمين  

دعيت لإلقاء محاضرة في كلية النقب أمام حشد كبير من أساتذة الكلية وطلابها ومدعوين من المنطقة، وما فكرت بالكتابة عنها لأنقل ما قلته وقد امتدت المحاضرة إلى ساعتين ونصف، بل لأن ما يلفت الانتباه؛ أولا عنوانها، وثانيا الموقع والحضور. لقد جاءت هذه المحاضرة ضمن سلسلة من المحاضرات أعدتها الكلية وهي تحت عنوان: "عن الأحلام والحالمين وما هو موجود"، تتضمن مواضيع مختلفة مثل الحلم الصهيوني وحلم الكيبوتس والحلم الديني السلفي وغيرها، ألقاها عدد من المفكرين والأدباء لتسليط الضوء من زوايا مختلفة على هموم المجتمع الإسرائيلي على عتبة قرن جديد ولفتح نافذة لحوار مفتوح حول مجمل هذه الهموم.

قال لي معدو البرنامج، عندما استقبلوني، بشيء من الاعتذار المسبق: أن المحاضرة مفتوحة للجمهور الواسع وآراء الناس متضاربة ومواقفهم متنوعة وبينهم من ينتمون إلى اليمين وآخرون معتدلون أو يساريون، وقد يكون النقاش ساخناً. قلت لهم: هذا ما أريده، وسأعمل على تسخينه. تحدثت عن الحلم الفلسطيني منذ مطلع القرن، هذا الحلم الذي كان جزء من الحلم العربي القومي في إقامة الوطن العربي الكبير بعد طرد المستعمر العثماني ولكن عندما تكالبت الدول الاستعمارية للانقضاض على الشرق تمزق هذا الحلم الكبير وأصبح أحلاماً عربية، وعندما استعمرت بريطانيا هذه البلاد واشتد الخطر الصهيوني الاستيطاني لم يعد للفلسطينيين وقت للحلم، بل انغمسوا في واقع يومي قاس لإبعاد هذين الخطرين وكل الأحلام التي تبلورت حتى عام 1948 مزقتها النكبة وكان علينا بعد ذلك أن نطرز حلمنا من جديد في واقع أشد مرارة وقسوة. إن ما تلا هذا الحلم هو واقع التشرد والاحتلال والمنفى والموت اليومي وأنتم تتحملون تبعته الأخلاقية. 

بين الحين والآخر كانت هناك محاولات للمقاطعة والمعارضة والتحفظ لكنها أخرست من المنظمين والجمهور ووعدوا بتخصيص القسم الثاني للملاحظات والأسئلة. كان الجو مهيئا لانفجار، خاصة عندما تحدثت عن النكبة وتدمير أكثر من أربعمائة قرية وتشريد حوالي سبعمائة ألف فلسطيني ما زال معظمهم مشتتين في مخيمات، وأن حق هؤلاء في العودة لا يستطيع أن يمحوه أحد ولا واقع ولا أي مفاوضات، لهؤلاء المشردين من بيوتهم وأراضيهم، لهم وحدهم، كل الحق في ممارسة حقهم  بالعودة أو التنازل عنه أو الاستعاضة عنه. 

الخوف من السلام 

عندما حان وقت الأسئلة كانت أكثر من عشرين يداً مرفوعة، وكان الجدل الذي دار بينهم وبين أنفسهم مثيراً جداً، وفي أحيان كنت أقف متفرجاً أتأمل في عمق الصراع الأخلاقي الذي يدور في أوساط شعب سجل لنفسه انتصارات عسكرية واقتصادية وسياسية، ولكن المسألة الأخلاقية تظل كالصخرة الرابضة على صدره. هذا المشهد مألوف لي ففي كل مرة التقي جمهوراً إسرائيلياً تكون محطتنا المركزية في اللقاء أخلاقيات هذا المجتمع، أخلاق المعتدي والمعتدى عليه، القاتل والضحية. لم يكن مصادفة أن السؤال الأول الذي طرح كان: من الضحية؟ العرب هم الذين اعتدوا علينا. 

وجهت هذا السؤال فتاة في الثلاثينات من عمرها وكان يجب أن نعود ثانية إلى التاريخ لأن المعلومات التي تعرفها هذه الفتاة عن هذا التاريخ تجعل من المعتدي ضحية، فهذه هي الرواية التي نشأ عليها هذا الجيل، من المكلف بتصحيحها أو بنشر الرواية الأخرى؟ هذا السؤال نوجهه نحن إلى أنفسنا، ليس من أجل تصحيح معلومات هذه الفتاة فقط بل من أجل صياغة روايتنا التاريخية ليعرفها أبناء الجيل الذي ولد بعد النكبة من شعبنا نحن. وقف شاب وقال: إسرائيل استوعبت اليهود الذين قدموا من الدول العربية، لماذا لم تستوعب الدول العربية الفلسطينيين الذين لجئوا إليها؟ العرب تاجروا بالقضية الفلسطينية. 

أحيانا تحتاج إلى أعصاب من فولاذ لكي تصمد أمام هذا النوع من الأسئلة التي تساوي بين لاجئ من دير ياسين وبين يهودي مغربي أقنعوه أنه قادم إلى أرض الحليب والعسل، "كل الدول العربية ترحب بعودة اليهود إليها، فهل أنتم ترحبون بعودة العرب الفلسطينيين إلى بلادهم؟ لماذا تساوون بينهم في المشكلة ولا تساوون بينهم في الحل؟" كان الحوار يتوتر جداً عندما يجري الحديث عن العودة ويهدأ عندما أتحدث عن السلام بلغة السلام . قلت لهم : الحرب شوّهت كل المفاهيم حتى الجغرافيا، فلو سألت أيهما أقرب؟ نيويورك أم دمشق؟ لتبادر إليكم أولا أن نيويورك أقرب، لأن الوصول إليها يحتاج إلى عشر ساعات في الطائرة وهذا ممكن في كل يوم، أما دمشق فالوصول إليها يبدو مستحيلا، فهي تبدو أبعد بكثير. يمكن الوصول إلى دمشق من النقب في ست ساعات وبسيارة عتيقة، فما الذي يجعلها أبعد من نيويورك؟ 

إنهم يخافون من السلام، ويتحدثون عن السلام بمفاهيم الحرب، يريدون الاحتفاظ بالسلاح النووي "من أجل السلام" ويريدون محطات إنذار على الأرض السورية من أجل السلام ويريدون الإبقاء على جيوشهم على نهر الأردن من أجل السلام، إذا كان السلام يحتاج إلى كل هذا التسلح، فأي سلام هذا؟ السلام يلغي كل هذه الترتيبات الأمنية، وإذا كنتم تفكرون بالسلام على أساس هذا المنطق فلن يتحقق شيء منه. 

يذكرونك بالسلام مع مصر؟ سألت: هل تعتبرون هذا سلاما؟ قالوا: إنه ليس سلاماً لأن الفنانين يقاطعوننا. والمصريون لا يأتون ونحن نخاف من الذهاب إلى مصر. إذن لم توقعوا على سلام مع مصر، لقد وقعتم على تسوية مع بلد عربي واحد وهذا لا يكفي من أجل تحقيق سلام، لا مع مصر ولا مع كل العرب، أمامكم تسويات مماثلة مع الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين لتتوفر شروط  تحقيق سلام شامل وستضيع الفرصة إذا واصلتم التعنت، وإن ضاعت فسيكون الوضع أسوأ بكثير، فهل أمامكم خيارات أخرى أفضل؟ 

صهيون الفلسطيني اليهودي 

في مثل هذه اللقاءات تتوفر الفرصة للمعرفة المباشرة لما يختلج في نفوس الإسرائيليين، وتكتشف جهلهم لك وسعة معرفتهم لأنفسهم. معظمهم لا يعرفون التاريخ العربي ولا الحضارة العربية، كأن العرب شعب يعيش في أمريكا اللاتينية، بينما يخضعون كل العالم لمعاييرهم هم، السياسة والثقافة والحضارة وكل شيء في الحياة. هذا الانطباع تتركه عليك مثل هذه اللقاءات مع الإسرائيليين، وعندما تخاطبهم بلغتهم وتحاول أن تعرفهم على واقعهم وتظهر إدراكا واسعاً لثقافتهم ومعرفة بما يدور في قلب مجتمعهم، فإن الحوار يكتسب طابعاً من الجدية والتحدي وتلاحظ عملية الفرز بين القوى التي تعرف وتعرف أنها تعرف وبين القوى التي لا تعرف ولا تعرف أنها لا تعرف.

 

الدولة الفلسطينية العتيدة أخذت حيزاً واسعاً في الحوار معهم، ما هي حدودها وكيف ستدير شؤونها وتبني اقتصادها ومن سيدافع عنها، وهل ستكون ديمقراطية أم دولة عربية أخرى، وإذا أقيمت دولة فلسطينية هل سينتقل إليها العرب الذين يعيشون في حدود دولة إسرائيل؟ في إسرائيل ينتظرون زعيماً عربياً ليأتي ويخطب في الكنيست. هكذا يصبح رجل سلام في نظرهم. أنور السادات وضع سابقة مهينة وكاذبة عششت في أذهان الإسرائيليين، مع أن غالبيتهم رفضوا في حينه من حيث المبدأ أن يأتي ياسر عرفات ليخطب في الكنيست، بل أن غالبيتهم أيدوا فرض الإقامة الإجبارية عليه في  المقاطعة برام الله وكثيرون أيدوا تصفيته مثلما تمت تصفية غيره من القياديين الفلسطينيين من أبو جهاد وحتى الشيخ أحمد ياسين.

 

في طريق العودة من النقب الى الكرمل حدثني سائق التاكسي، وهو يهودي من أصل كردي ولد في القدس واسمه تصيون، قال: أنا أشعر أنني عربي، ولدت في القدس وأبي وأمي أيضاً، نشأت مع العرب، أحسن أصدقائي من القدس، أزورهم في بيوتهم ويزورونني، لي صديق من سلوان أعزه مثل أخي. أنت فلسطيني! قلت له. أنا فلسطيني يهودي.  قال وواصل حديثه عن القدس ووالده وأصدقائه. سائق التاكسي، يهودي فلسطيني واسمه تصيون. بماذا يحلم هذا الفلسطيني الطيب؟ هل يكون حلم هؤلاء الفلسطينيين موضوعاً لندوة في كلية عربية؟ إذا دعيت إليها، سأحضر معي تصيون، ليس كسائق بل كصاحب حلم لم نعرفه بعد.

 

نحن لا نصغي جيداً إلى صوت اليهود العرب، المؤسسة الإسرائيلية الأشكنازية المهيمنة تصورهم وكأنهم الأشد عداء للعرب لتستر على عدائها الأيديولوجي العنصري ليس فقط لما هو عربي بل لما هو شرقي. اليهود العرب في المجتمع الاسرائيلي هم الأقرب إلى المصالحة والسلام وهم الأبعد عن العنصرية العرقية، لأنهم شرقيون وعرب تاريخياً وثقافياً. دعيت مؤخراً أيضاً لإلقاء محاضرة في كلية "بيت بيرل" نظمتها الكلية مع منظمة اليهود الشرقيين (هكيشت همزراحيت) وعنوانها "الأشكناز" (اليهود المهاجرون من أوروبا) وكان معظم الحضور من أصل شرقي، أي من اليهود العرب، وعندما تحدثت عن نقاط الالتقاء بين الفلسطينيين العرب واليهود العرب ووصفت الحركة الصهيونية بقيادتها الأشكنازية أنها حركة عنصرية وكولونيالية امتعض بعض الأشكناز وحاولوا المقاطعة، لكن الشرقيين صفقوا، وصفقوا مرتين عندما قلت انني أصر على أن الصهيونية كولونيالية وعندما قلت بإصرار أيضاً ،ردا على مقاطعة، أن الصهيونية تحاول القضاء على الشعب الفلسطيني وتصفيته.

 

"هكيشت همزراحيت" (القوس الشرقي) تضم مجموعة من المثقفين والأكاديميين اليهود العرب الذين يصيغون خطابا آخر للوجود اليهودي في الشرق العربي، وجود أشبه بذلك الذي كان قائماً في الدولة العربية الكبرى في العصور الوسطى لكن بمفاهيم القرن الحادي والعشرين، في موقع بين الحداثة وما بعد الحداثة، أي بين الدولة القومية والدولة المعولمة، إنهم طرف جاد للحوار الديمقراطي ليس فقط على المستوى الإسرائيلي والصراع، بل على مستوى الشرق وصراعه مع الغرب ضد الكولونيالية الجديدة.

 

_____________________

الكاتب سلمان ناطور هو مدير معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية في حيفا. وهو محرر مجلة "قضايا إسرائيلية" التي تصدر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار). لناطور أكثر من ثلاثين عمل قصصي ومسرحي وروائي ونقدي.