أخطبــوط الاستيطــان ورأس المــال خلــف جــدار الإحتــلال

بقلم:هشــام نفـــاع

هنالك جدار ضخم يقف بين الوقائع على الأرض وبين إصرار بعض السياسيين والصحفيين العرب على منح اريئيل شارون لقب "رجل السلام" مجانًا. هذا الجدار الذي يلقي بظلـّه القاتم حيث يجب أن تظل الحقيقة تصرخ، ليس استعاريًا فحسب، بل أنه جدار فعلي، ملموس ومرئي بكل ما صبّ جهاز الاحتلال الاسرائيلي فيه من بشاعة بصريّة ورمزية.

سأتناول هنا عددًا من التطورات الأخيرة المرتبطة بالجدار (الذي تسميه الجهات الإسرائيلية الرسمية "جدار أمن") بالذات في مقطعه المحاذي لقرية بلعين المحتلة. والتي باتت رمزًا جديدًا يُضاف الى سجلّ نقاط المقاومة المشرّفة لهذا المشروع الاحتلالي-الاستيطاني الذي صرفت عليه سلطات الاحتلال 3,5 مليار شيكل إسرائيلي بين الأعوام 2003 و 2005. فما يتفاعل في هذا الموقع من شأنه كشف ومن ثم نسف العديد من الأكاذيب التي يـُدفع بها الى الواجهات الدبلوماسية بعد لفـّها بالرزم الأمنية. بالمناسبة، قد لا نحتاج لهذا الجهد، لأن وزيرة القضاء الاسرائيلية (التي أضيفت اليها وزارة الخارجية مؤخرًا) تسيبي ليفني كانت قالت صراحة أن الجدار "سيشكـّل الحدود المستقبلية لإسرائيل"، وضمن تلاعب بالكلام ومحاولة للتلاعب بالعقول فسّرت: "إن القرار بإقامة الجدار اتخذ لاعتبارات أمنية، لكن ستكون له انعكاسات على رسم الحدود في الـمستقبل، ليس لأن هذا كان السبب في إقامته، ولكن قد تكون للجدار انعكاسات سياسية". والحقيقة أنه بدا واضحًا وليس منذ الآن أن حكومة اسرائيل لديها خارطة خاصتها غير خارطة بوش الشهيرة. إنها "خارطة الطريق المتوازية" التي تحاول حكومة اليمين السير فيها بحيث تبدو كمن تلتزم بالتفاوض الأوّلي المحدود من هنا، بينما تواصل ترسيم الحدود من طرف واحد هناك، بشبكة معقدة من الأسوار والجدران والمنشآت العسكرية القابعة في العمق الفلسطيني. ولا جديد في القول إنها مجرّد "خارطة معدّلة" بعد أن وضعت الحكومة الاسرائيلية عليها 14 تحفـّظًا.

في أواخر آذار من العام 2005، التمست مؤسستان حقوقيتان اسرائيليتيان (جمعية حقوق المواطن وبمكوم) الى المحكمة المركزية في القدس مطالبتين بكشف خرائط التخطيط الهيكلية لمستوطنة "موديعين عيليت". فقد رفضت السلطات، من تلقاء نفسها، كشف هذه الخرائط التي تطال أراضي قرية بلعين. وبعد إلزام "الإدارة المدنية" التابعة للاحتلال بكشف تلك الخرائط اتضح ما أثار الريبة، وهو وجود مخطط خفي لإقامة حيّ استيطاني على 900 دونم من أراضي بلعين، التي سبق أن ابتلع منها الجدار 2000 دونم أخرى. ويحمل هذا الحي بدل الإسم الواحد ثلاثة أسماء هي: "متتياهو مزراح"/ "نحلات حفتسيبا"/ "غرين بارك".. تعدّدت الأسماء والنهب واحد!

سلوك السلطات الاسرائيلية الساقط قانونيًا وأخلاقيًا يخالف حتى القانون المعمول به في اسرائيل. فقد بـُدئ العمل لإقامة هذا الحي (يشمل 3008 وحدات سكنية)، بموازاة جعل مسار الجدار يحيطه مبتلعًا أرض بلعين، قبل إنهاء المصادقة على الخرائط، وفقًا لما ينص عليه القانون. من جهة أخرى سبق أن كشفت وزارة البناء والاسكان انها تخطط لتوطين 150 ألف نسمة حتى 2020 في هذه المستوطنة، التي أقيمت أصلاً على أراضي قرى مجاورة تمت مصادرتها في السابق. وفي أيلول 2005 قدم أهالي بلعين التماسًا جديدًا الى المحكمة الاسرائيلية العليا لاستصدار أمر بوقف بناء الجدار، لأنه جاء ليحيط المستوطنة من الشرق، ولا يطابق حتى "المعايير الأمنية" التي حددها الإحتلال. بل إنه جاء ليضم حيًا لم يـُصادَق عليه بعد وفقًا للنظام الاسرائيلي الداخلي.

لكن المؤامرات التي تـُحاك في الخفاء ليست استيطانية فحسب. بل إن هناك فسادًا تختلط فيه المصالح المالية بنهب الأراضي وشركات العقارات والبناء، واستقدام شرائح فقيرة لتوطينها في هذا المكان. وهو ما تناوله بروفيسور غادي الغازي، المحاضر في جامعة تل أبيب، وأحد الناشطين ضد الجدار، في بحث نشره مؤخرًا، وبيـّن فيه كيف التقت مصالح رأسماليين كبار وشركات عقارات ضخمة مع نوايا وممارسات الضم الاستيطاني. وهو يكتب أنه من المهم التعرّف قليلاً عن قرب على الشركاء في بناء "موديعين عيليت". فالمبادرون الأساسيون هم شركات "دينيا سيبوس" التابعة للمجموعة الاقتصادية "أفريقيا-اسرائيل" التي تنفذ مشاريع بناء في مستوطنات إضافية؛ رجل الأعمال ورئيس اتحاد مقاولي البناء السابق مردخاي يونا؛ وشركة "تسيبحا انترناشينال". وفقًا للبحث فقد ادعى هؤلاء أنه "لا يوجد أية قرية عربية قرب مكان البناء"، فبلعين غائبة عن خرائطهم التي يبنون حتى من دون المصادقة عليها، في مشهد صارخ تجتمع فيه خيوط الاحتلال بالمصالح الاقتصادية لحيتان كبيرة تسبح في مياه الرأسمالية الاسرائيلية.

يفضح التعاون الحثيث بين مجلس مستوطنة "موديعين عيليت" وتلك الشركات التقاء المصالح. وحسب تقرير مراقب الدولة الاسرائيلي فقد نالت شركات العقارات حق البناء حتى من دون نشر مناقصة، حسبما تنص الأنظمة. وتراوحت الحجج بين "وجود هذه الشركات في مشاريع بناء سابقة" وبين "الحاجة الملحة في إنهاء بعض المشاريع". فالحرامي يسارع لإنهاء مهمته قبل أن يخسر ما تبقى من عتمة يتستّر تحتها. ويقول الغازي يقول في استعارة من أيام الغرب الأمريكي المتوحّش: "أنظروا بأم عينكم: ففي الشرق المتوحّش يسمح بفرض الحقائق الناجزة على الأرض بحرية التحرّك لكبار المقاولين. أما الحاجة الماسة لإنهاء المشاريع فمصدرها بالضبط هو الحاجة الملحـّة لدفع العملية الاستعمارية".

في تحقيق صحفي نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" مطلع العام 2005 ورد أن جهازًا كاملاً من السماسرة يعمل للسيطرة على الأراضي في مختلف مواقع الجدار، وهو يضم عملاء فلسطينيين خدموا الاحتلال وتم كشفهم، عناصر في جهاز الشاباك سابقاً "يبيعون "المعلومات حول أصحاب قطع الأرض بغية ابتزازهم، وموظفين سابقين في جهاز الحكم العسكري ممن يعرفون كيفية السباحة في قنوات القوّة والسيطرة وإتمام الصفقات. بعض هذه الصفقات تم دون علم أصحاب الأراضي، وبعضها قام خلالها سماسرة عرب بشراء أراضٍ كوسطاء في الخفاء لمليونيريين يمينيين يهود، وبعضها صفقات غامضة اكتشف بعض أصحاب الأراضي أنهم فقدوا بسببها ملكيتهم على أرضهم دون علمهم.

التقاء المصلحة الاستيطانية الاستعمارية والمصلحة الاقتصادية يحتاج الى "زبائن". وقد وجدت أذرع هذا الأخطبوط في شرائح اسرائيلية فقيرة جسرًا تمرّر فوقه سكة وصولها الى إشباع نهمها. فغالبية سكان هذه المستوطنة هم من اليهود الحريديين (المتشددين)، ذوي العائلات كثيرة الاولاد والحالة الاقتصادية الصعبة. أحد الأمثلة على استغلالهم هو مشروع "هايتك" أقامته شركة تدعى "ماتريكس" التي تشغّل نساء متدينات بأجور منخفضة، تتراوح بين ربع ونصف ما يتم دفعه في هذا القطاع. فالعامل التقني المبتدئ في تل أبيب مثلا يتلقى 10000 شيكل شهريًا، ويصل الى 20000 بعد اكتسابه تجربة. أما هؤلاء العاملات فلا يُدفع لهن أكثر من 5000 شيكل، وسط فرض نظام عمل قاسٍ عليهن، يستغل فيه أصحاب العمل تقاليد دينية واجتماعية لمنعهن من المطالبة بتحسين ظروف عملهن وزيادة حقوقهن. رئيس بلدية المستوطنة نفسه كان قد صرح لصحيفة "هآرتس" في العام 2003 أنه جرى إحضار الحريديين الى المناطق (الفلسطينية) خلافًا لرغبتهم، وجرى استعمالهم "لحمًا للمدافع". إعتراف واضح لا يحتاج الى تعليق! بالامكان تعميم هذا المثال الصارخ في اتجاهات عدة، تقود جميعًا الى المحطة التي تلتقي فيها مراكز القوة الاسرائيلية. ففي نهاية المطاف لم يستفد كل الاسرائيليين من الاحتلال، بل إن غالبيتهم اليوم باتوا يدفعون الثمن بشكل فعلي – من جيوبهم.

فالمعطيات تفيد أن الاحتلال الاسرائيلي ظلّ "مشروعًا مربحًا" إلى أن اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في كانون أول من العام 1987. حتى ذلك الحين، كانت اسرائيل تجني المليارات من الاحتلال، دون أن تضطر لتمويله من جيوب مواطنيها. فمثلاً، كانت أرباح مشروع الاحتلال لا تقدّر بثمن من حيث نهب مياه الضفة الغربية المحتلة. وقد ابتلعت ميزانية اسرائيل حوالي 25 مليار شيكل بين 1970 و 1987 من الضرائب الجمركية على البضائع التي تصل الى المناطق المحتلة من الخارج. وفي الثمانينيات جعلت اسرائيل من السوق الفلسطينية الخاضعة لاحتلالها ثاني كبريات أسواق صادراتها. ووصل حجم المقتطعات من ضرائب الضمان الاجتماعي المفروضة على العمال الفلسطينيين داخل اسرائيل حتى مطلع التسعينيات الى المليار وربع المليار شيكل، دون تمكين هؤلاء العمال من الاستفادة الفعلية مما اقتـُطع من أجورهم، ناهيك عن تشغيلهم بأجور زهيدة.

بالمقابل، فإن مشروع الاستيطان الاستعماري امتص حوالي 45 مليار شيكل من الميزانية حتى العام 2003. ومنذ الانتفاضة الاولى بلغ مجموع الزيادات على الميزانية العسكرية 29 مليار شيكل، ولا يشمل هذا ميزانية الشرطة. أما جدار الفصل العنصري الذي جاء لتعميق انفصال اسرائيل عن التفاوض السياسي واستبداله بالحلول الأحادية المتعجرفة الفاشلة، فقد كلـّفها 3,5 مليار شيكل بين السنوات 2003 و 2005. وبلغ مجموع التعويضات من ميزانية الدولة للمصابين الاسرائيليين في الانتفاضتين مليار شيكل، وهو ما لا يشمل قيمة التعويضات عن الممتلكات المتضرّرة (باصات، مطاعم، محلات في الأسواق). وبلغت خسارة الناتج القومي الاجمالي بين سنة 2000 حين اندلعت الانتفاضة الثانية و 2004 ما يقارب الـ55 مليار شيكل، بسبب ارتفاع نسبة البطالة وتراجع الاستثمارات الاجنبية، وتراجع عدد السياح بين 2000 و 2002 بمليون و 800 ألف سائح، والركود وغيرها (المعطيات عن بحث أجراه مركز "أدفا" الاسرائيلي للعدالة الاجتماعية).

وهكذا، فخلف مؤامرة سرقة الأراضي الفلسطينية ومصادرة حقوق أساسية لفقراء ومتوسطي الحال الاسرائيليين، نعثر على الوجه الحقيقي للسياسة التي تختلط فيها الايديولوجيات المتعصبة بالعنجهية العسكرية والأموال. والصحيح أنه لا تبدو في الأفق بعد طريقة يمكن بواسطتها قياس كميات دموع التماسيح والأكاذيب على الألسن الرسمية وشبه الرسمية. فلا يوجد أحد بين السياسيين أو مسؤولي الوزارات والمؤسسات الرسمية يتأخّر عن تقديم وصلته الخاصة من البكاء الكاذب على "مساكين اسرائيل"، من ضحايا الفقر وانتهاك الحق في مكان عمل أو في تلقي العلاج باحترام أو العيش الكريم عامة. مع ذلك فإن المسافة ما بين هذا الكلام الذي يُطلق مسلّعا معبأً بشتى أشكال الرزم الرقطاء فاقعة اللون وناعمة الملمس وبين ممارسات المتبجّحين، هي كالمسافة ما بين حديث شارون (حمامة الغفلة!) عن "السلام" وبين ما تبقره بلدوزراته في جبال الضفة الغربية لتعميق استعمارها.

على هذه الخلفية القاتمة، تزداد القيمة المعنوية والأخلاقية للنضال ضد الجدار في بلعين. فهو يجسّد معركة شعبية غير مسلـّحة حيّة، تعيد ترتيب عناصر المعادلة التي تحاول سلطات الإحتلال تشويهها تحت شعار "الأمن" إياه. معادلة يقف في طرفها الأول أصحاب الأرض وأصحاب الحق ومعهم متضامنون يؤيدون قضيتهم، وفي طرفها الثاني أخطبوط تتشابك أذرعه الكولونيالية والاقتصادية والعسكرية. وفي عودة لما افتـُتح به المقال: إزاء العمليات التجميلية التي لا يتردّد بعض العرب أيضًا في اجرائها لسياسة شارون وزمرته ومكملي دربه، يسلـّط نضال بلعين ضوءًا على بشاعة ما يمارسه الإحتلال فعلاً على الأرض. نضال يبدو متواضعًا لكنه كتلك الشمعة التي مهما خفت نورها، فلا يمكن لكل ظلام الكون أن يطفئها.

____________________

هشام نفاع هو صحفي ومحرر في جريدة "الإتحاد" اليومية الصادرة في حيفا.