بين تقرير المصير اليهودي وحق العودة للاجئين الفلسطينيين

بقلم: د. مايكــل كيجــان

في الوقت الذي لا تزال فيه قضية "حق العودة" مثيرةً للجدل في أوساط اليهود الإسرائيليين، اذ يطالب بعض المثقفين الإسرائيليين بالاعتراف بعدالة المطالب الفلسطينية من جهة، وإيجاد المبررات المختلفة لمعارضة تطبيق حق العودة بشكل كامل من الجهة الأخرى. مثل هذه الادعاءات تركزت حول تأثير حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة على اليهود ودولة إسرائيل. وتفترض معظم هذه الأدبيات مسبقاً التعارض بين حقوق الفلسطينيين والإسرائيليين اليهود. يحاول هذا المقال تطوير مسألة "الحقوق المتضاربة" من خلال استعراض "التحفظات الإسرائيلية" على حق العودة. ومع ذلك، فإن نقطة الانطلاق في هذا المقال تعتمد على أساس ان حق العودة للاجئين الفلسطينيين هو حق جوهري يجب على إسرائيل أن تتبناه من أجل الوصول إلى سلام عادل ودائم يتوافق ومواثيق القانون الدولي.  إضافةً الى ذلك، فإن هذا المقال يهدف إلى التعريف بمختلف الادعاءات اليهودية والإسرائيلية التي لا يمكنها أن تتوافق مع تطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين. 

حــق تقريــر المصيــر اليهـــودي

 

من بين الادعاءات التي يجري التركيز عليها والأكثر تردداً ضد حق العودة، الموقف الصهيوني القائل بأن لإسرائيل الحق في أن تكون دولة يهودية. وغالباً ما يجري طرح هذا الموقف من خلال إظهار مخاوف إسرائيل الديموغرافية الخاصة بالحفاظ على أغلبية يهودية. وأحيانا باعتباره "حق إسرائيل في الوجود"، وربطه بالادعاء بأن الفلسطينيين يركزون على حقهم في العودة، منطلقين في ذلك من رغبتهم في إنهاء وجود إسرائيل كدولة يهودية، لا من رغبتهم في تحقيق العدالة لأنفسهم.  

ولا يشكل حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى ديارهم في حد ذاته، تحدياً لسيادة إسرائيل باعتبارها دولة. فكما تغير التكوين السكاني لدول أخرى عبر التاريخ، يمكن أن يتغير التكوين السكاني لإسرائيل. وبالمثل، فإن عودة اللاجئين لا تشكل تحدياً لقدرة اليهود على العيش في إسرائيل. إلا أن العودة الفلسطينية قد تشكل تحدياً لمحاولات إسرائيل إيجاد "أغلبية يهودية مسيطرة".  فالموضوع هنا إذن، هو الطابع السكاني اليهودي وليس دولة إسرائيل نفسها، أو حق اليهود في العيش فيها.  

المسألة القانونية الأساس نظرياً هي: هل اليهود (أو الإسرائيليون اليهود) هم "شعب" له الحق بحسب القانون الدولي في السيادة السياسية داخل دولة مستقلة؟ إذا ما تجاهل المرء حقوق الفلسطينيين، فليس من الصعب الإجابة على هذا السؤال "بنعم".  إلا أن استخدام حق تقرير المصير اليهودي ليس كافياً في حد ذاته، لإلغاء حق آخر هو حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وتبرز اسرائيليا العديد من الادعاءات في هذا الصدد منها، أولا أن للمجتمع اليهودي في إسرائيل، و/ أو الشعب اليهودي عموماً حق جماعي في تقرير المصير في إسرائيل/ فلسطين. وثانيا، إن وجود مجموعة كبيرة من السكان غير اليهود قد يهدد تقرير المصير اليهودي وثالثا أن الحق القومي اليهودي في تقرير المصير، يفوق الحقوق المتعارضة للسكان غير اليهود في العودة إلى بيوتهم، أو العودة إلى المنطقة التي أصبحت إسرائيل. 

بالنسبة الى المقولة الاولى فهي صحيحة ومقبولة. فهنالك سلطة قانونية تدعم فكرة أن اليهود هم شعب، رغم أنهم لم يكوّنوا إطلاقا الشعب الوحيد الذي له بيوت في إسرائيل/فلسطين. ومع ذلك، فلو سلّم المرء جدلاً بالنقطة الأولى من هذه النقاط، فإن النقطتين الأخريين هما أكثر تعقيداً. فعلى الرغم من أنه إذا ما جرى النظر إلى اليهود بمعزل عن الآخرين، فإن لهم الحق في تقرير المصير، إلا أن بإمكانهم تحقيق ذلك بالمشاركة مع غير اليهود في دولة يتساوى فيها المواطنون جميعا. وحيث أن تقرير المصير هو بالأساس حق ضد السيطرة الخارجية، فإن إنهاء السيطرة اليهودية على العرب في إسرائيل، لن ينقص من حق اليهود في تقرير المصير. وحتى لو كان من الممكن أن يتعرض تقرير المصير اليهودي للخطر بسبب عودة اللاجئين، فإنه لا يوجد أساس سليم يمكن أن يجعله يفوق الحقوق الفلسطينية. فبموجب القانون الدولي، يقصد من تقرير المصير تسهيل التمتع بالحقوق الأخرى وليس إنكارها. لهذه الأسباب، فإن إنشاء دولة يهودية والحفاظ عليها هو الحق المتعارض الأضعف، في مواجهة حق العودة. 

من هو المؤهل لحق تقرير المصير؟ 

جرى تطوير حق الشعوب في تقرير المصير، في العقود نفسها التي كان المجتمع الدولي منشغلاً فيها  بالصراع الناشئ في فلسطين. وما زال قانون حق تقرير المصير غامضاً حتى اليوم، بل وكان مبهماً بشكل خاص في سنواته الأولى. ولذا فإنه من الصعب البت في ما إذا كان لليشوف (التجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين ما قبل عام 1948)، حق قانوني في إنشاء دولة مستقلة ذات سيادة عام 1948 أم لا. 

لقد تطورت حقوق الشعوب في تقرير المصير من كونها مبدءاً سياسياً في العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى، إلى حق كامل اليوم. إذ لم تكن الدول قبل الحرب العالمية الثانية قد اعترفت بعد بحق الشعوب كلها في تقرير المصير. وقد أدخل هذا الحق في أحد قوانين المعاهدات لأول مرة في ميثاق الأمم المتحدة.  ويبدو أن إشارة الميثاق إلى تقرير المصير كانت مجرد نطق بمبادئ وأهداف مرشدة. إلا أن تقرير المصير لم يصبح راسخاً لا خلاف عليه باعتباره حقاً واضحاً في القانون الدولي إلا في الستينيات، مع إعلان الأمم المتحدة الخاص بمنح الاستقلال للدول والشعوب المستعمرة (1960) ، وإقرار الشرعية الدولية للحقوق (1966). وقد تم إدخال تقرير المصير مادةً أولى في كل من الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية التي تنص على أن: "لجميع الشعوب حق بتقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي، والاجتماعي والثقافي". 

وحيث أن القانون كان لا يزال قيد التطوير عام 1948، فإن أي نقاش حول تقرير المصير في ذلك الوقت، كان يمكن أن يتعرض لشكوك فورية من جانب الرسميين القانونيين. ومع ذلك، فمن الواضح أن تقرير المصير عام 1948 كان في الطريق إلى أن يصبح معترفاً به تماماً باعتباره حقاً قانونياً. كما كان قد اكتسب أيضاً ثقلاً سياسياً جوهرياً، من خلال الطريقة التي تعامل بها المجتمع الدولي مع مشكلة فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى. 

إن أكثر الأسئلة إرباكا وإغاظة هو ما إذا كان الحق ملكا لكل مجتمع من المجتمعات القومية-الاثنية، أم أنه مجرد حق لشعب في منطقة معينة في أن يكون متحرراً من سيطرة أجنبية. وينسحب هذا جزئياً على مسألة التقسيم في إسرائيل –فلسطين. فهل يمكن استعمال حق تقرير المصير لتبرير إقامة دولتين يهودية وعربية، في المنطقة التي كانت ذات يوم منطقة فلسطين الموحدة؟ أم أن حق تقرير المصير سمح لشعب فلسطين كله (يهودا وعربا)، بتحرير نفسه من السيطرة الأجنبية (أي الانتداب البريطاني) وحسب؟ 

لقد سعى القانون الدولي عموماً إلى حماية السلامة الإقليمية. وفي سياق القضاء على الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، اتجه المفسرون إلى تعريف "الشعب" على أنه ببساطة سكان منطقة محددة، لا كل مجموعة عرقية في منطقة معينة. لقد عارضت الدول ومفسرو القانون الدولي باستمرار، أية تأويل لتقرير المصير يجيز لكل الأقليات الانفصال إقليمياً لتشكيل دول مستقلة. وقالت لجنة الحقوقيين الدولية التي قررت في التوصيات الخاصة بجزر آيلند عام 1920، بأن "القانون الدولي الإيجابي لا يقر بحق مجموعات قومية على هذا النحو، بأن تفصل نفسها عن الدولة التي تشكل جزءا منها بمجرد التعبير عن رغبة في ذلك." ولذا، فبدل السعي لتقسيم الدول إلى دول عرقية- قومية متجانسة أصغر، فإنه يمكن تطبيق حق تقرير المصير ببساطة، من خلال حكم ذاتي ديموقراطي في إقليم موجود أصلا من قبل. 

لكن، ينبغي أن يكون مفهوما بأن تقرير المصير في أحسن الحالات، لا يدعم تقسيم مناطق ثابتة إلا في حالات استثنائية فقط.

وإذا ما أريد تحديد تقرير المصير بموجب العرق والدين لا بحسب المنطقة، فسيحتاج الناس الذين نتحدث عنهم هنا إلى منطقة يكونون فيها مسيطرين بما يكفي لتشكيل دولة، دون انتهاك المبادئ الديموقراطية الأساسية. فإذا كان من المشروع تعريف اليهود بأنهم شعب، وبالتالي إنشاء دولة يهودية، فإنه سيكون من المعقول منطقيا الاهتمام بكيفية ضمان أغلبية يهودية مسيطرة. لقد كانت إمكانية تحقيق الاستقلال اليهودي بدون انتهاك لحقوق الفلسطينيين العرب مهمة غير ممكنة، بسبب أن اليهود كانوا أقلية في فلسطين حتى عام 1948. وكان الترانسفير أيضاً حاضراً في التفكير الصهيوني بشكل بارز. 

ومع ذلك، فحتى لو سمح القانون الدولي في حالات نادرة بتخطيط حدود إقليمية جديدة، فإن تقرير المصير ليس على الإطلاق إجازة لتغيير التركيبة السكانية في منطقة معينة بشكل مصطنع، أو لإعطاء امتياز لحقوق مجتمع ما على حساب مجتمع آخر. ويعترف ميثاق الأمم المتحدة بتقرير المصير إلى جانب مبادئ العدالة وحقوق الإنسان عموماً. ولا يوجد أي بند يجعل تقرير المصير أعلى مرتبة من حقوق أخرى. تعتبر ثلاث وثائق توفرت قبل عام 1948، أساسية لفهم الطريقة التي حاول بها المجتمع الدولي تطبيق مبادئ تقرير المصير الناشئة على فلسطين. الوثيقة الأولى هي إعلان بلفور عام 1917، والثانية هي قرار مجلس عصبة الأمم في 24 تموز/ يوليو 1922، بإقرار هدف إعلان بلفور وهو إقامة " وطن قومي يهودي" في فلسطين. أما الوثيقة الثالثة فهي قرار التقسيم الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 (القرار 181). الوثيقة الثانية من بين الوثائق الثلاث هي فقط التي لها قوة قانونية ملزمة.

كان المجتمع الدولي باستمرار غير راغب في الموافقة على أي نقل (ترانسفير) للسكان، من أجل التوصل إلى تقسيم إقليمي في فلسطين. ففي عالم 1937، أشارت "لجنة بيل" إلى أنها فهمت بداية بأن التقسيم قد يشمل نقلاً للسكان، إلا أن الحكومة البريطانية رفضت هذا الاقتراح تماماً. وقد أشار بعض المعلقين إلى أن عصبة الأمم أعلنت فلسطين بكاملها دولة مستقلة مؤقتاً عام 1919، لا منطقة يمكن تقسيمها وفق خطوط عرقية، وقد اعترفت لهذا السبب بسيادة الشعب الفلسطيني. كان دور بريطانيا باعتبارها سلطة الانتداب هو " تقديم المشورة الإدارية" وتوفير "الوصاية". وبدل أن تتصرف كدولة مستقلة، فإن دور بريطانيا كان دورا إئتمانيا وتدير "وديعة". ومع الحاجة إلى تقرير كيفية استبدال دور بريطانيا الإداري عام 1948، فإن حق تقرير المصير الفلسطيني كان قد تحقق (نظريا على الأقل) عن طريق الاعتراف المؤقت لعصبة الأمم بالبلد دولة مستقلة. 

وبحلول عام 1948، تم تثبيت الإبعاد القسري بوضوح على أنه جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية. وبالتالي كانت إسرائيل ملزمة بأن تقبل السكان جميعهم يهودا وغير يهود، من المنطقة التي أخذتها في حرب 1948. فحق تقرير المصير ما كان ولا يمكن أن يكون مبررا للتطهير العرقي أو نقل (ترانسفير) السكان قسرا. ويشير هذا إلى التحدي القانوني الصعب الذي يواجهه المنادون بتقرير المصير اليهودي عند معارضتهم حق الفلسطينيين في العودة. 

تفسير تقرير المصير في فلسطين   

الجانب الأقوى في الطرح الخاص بتقرير المصير اليهودي الذي قدمناه هنا، هو القول أن اليهود شعب له ارتباط بأرض فلسطين التاريخية، وحق في وطن قومي فيها. أما مبدأ أن لليهود الحق في إقامة "وطن" فقد اعترفت به عصبة الأمم في الانتداب الذي أقرته لفلسطين. إلا أن هذا لا يعني أن الحقوق الجماعية اليهودية تفوق الحقوق الفلسطينية، كما لا يعني أن تقرير المصير اليهودي يتضارب مع حق اللاجئين في العودة. إن إجازة إقامة وطن قومي يهودي لم يكن بمثابة حق لتشكيل دولة يسيطر عليها اليهود على حساب الجماعات الأخرى. الإجازة شبه القانونية الوحيدة لفصل إسرائيل عن فلسطين كانت في قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة (القرار 181) في 1947. ولو كان نقل (ترانسفير) السكان عملا شرعيا في عام 1947، لقامت الجمعية العامة بإدراج تبادل السكان في توصيتها الخاصة بالتقسيم، كما جرى في تقسيم الهند وباكستان. إلا أن الجمعية العامة بدل ذلك، أوصت للعرب في الدولة اليهودية المنتظرة، بمساواة وحقوق مدنية وسياسية كاملة. لقد كان القرار 181 واضحاً جداً بالنسبة لحقوق الأقليات. فعلى الرغم من أن خطة التقسيم الصادرة عن الأمم المتحدة، كانت ستسمح للعرب الفلسطينيين في إسرائيل أن يغيروا ولاءهم طواعية للدولة العربية، إلا أن القاعدة التي لم تذكر هي أن العرب في الدولة اليهودية يظلون فيها مواطنين متساوين. فكل إنسان غير يهودي في الدولة اليهودية (الفلسطينيون مثلا)، كان سيحق له الحصول على المواطنة في الدولة اليهودية، والشيء نفسه انطبق على اليهود في الدولة العربية. وقد نص القرار على أن المواطنين الفلسطينيين جميعهم "يصبحون مواطنين في الدولة التي يسكنون فيها ويتمتعون بحقوق مدنية وسياسية كاملة" 

"الوطن القومي اليهودي" والدولة اليهودية 

يشير تاريخ صياغة إعلان بلفور إلى أن السلطات البريطانية في ذلك الوقت لم  تكن تعتقد بالضرورة أنها كانت بذلك تقر إقامة دولة يهودية مستقلة. فخلال الثلاثينيات والأربعينيات، ترددت سلطات الانتداب (واللجان المختلفة التي أنشأتها) فيما إذا كانت صياغة إعلان بلفور التي أقرت "وطنا قوميا" تعني إقامة دولة يهودية، أم تطوير مجتمع قومي يهودي داخل دولة فلسطين. فقبل عام واحد من صدور خطة التقسيم عن الأمم المتحدة أي في عام 1946، وقفت لجنة التحقيق الأنجلو أميركية ضد مشروع التقسيم. 

ومع ذلك، فالمجتمع الدولي يتأقلم مع الظروف المتغيرة، إذ يمكن لدول جديدة أن تحصل على شرعية دولية، من خلال مجرد وجودها باعتبارها وحدات سياسية ذات سيادة تحكم سكانا دائمين ولها قاعدة إقليمية.  ويمكن للدول أن تحصل على ذلك من خلال مبدأ تقرير المصير، كما تقول إسرائيل بأنها فعلت عام 1948. إلا أن القانون الدولي يجيز الاعتراف بدول جديدة بحكم الأمر الواقع وليس فقط بحكم القانون. ولذلك ومع أن جزءا كبيرا من المجتمع الدولي (بما في ذلك الأمم المتحدة) لم توافق صراحة على الطريقة التي أقيمت بها إسرائيل، إلا أن إسرائيل حصلت على الشرعية مع الوقت. 

كما اكتسب مفهوم تقسيم فلسطين إلى دولتين شرعية قانونية أيضا. ففي عام 2003، أقر مجلس الأمن صراحة مفهوم تقسيم فلسطين التاريخية باعتبار ذلك حلا أخيرا للصراع. فقد دعا القرار رقم 1515 الصادر في 19 تشرين الثاني عام 2003، الأطراف جميعا إلى تنفيذ خطة "خارطة الطريق المستندة إلى ألأداء لتحقيق حل للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني على أساس إقامة دولتين دائمتين". لقد أقر القرار 1515 تحديدا "رؤية دولتين تعيشان جنبا إلى جنب بسلام وأمن". 

إن كون إسرائيل دولة ذات سيادة، وكونها دولة يهودية تحديدا، هما مسألتان منفصلتان. فقد اكتسبت إسرائيل شرعية باعتبارها دولة فقط لا دولة يهودية تحديدا، ولا تذكر خطة خارطة الطريق شيئا عن الهوية الإثنية والدينية لأي من الدولتين. ولا تنص على أنه يجب أن تكون إسرائيل "يهودية" والدولة الفلسطينية المقترحة "عربية". ويمكن للمرء بالتأكيد، أن يقول بأن هذا متضمن في حل الدولتين، إلا أنه يمكن للمرء أيضا أن يقول بأن وجود إسرائيل باعتبارها دولة يهودية تحديدا، لم يحظ بالإقرار الصريح في أي صك ملزم قانونا أبدا. وتسمح صيغة الدولتين بمرونة عالية فيما يتعلق بالتكوين السكاني لكل دولة، تماما كما كان قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 قد أوصى بإقامة دولة "يهودية" ذات أغلبية يهودية بسيطة. 

ولو افترضنا شرعية تقسيم فلسطين عام 1948، أو حل الدولتين اليوم، فستظل هناك مسألة ما إذا كان تقرير المصير اليهودي يتطلب تجانسا عرقيا كاملا، أي أغلبية يهودية مسيطرة. فالأمر يختلف عند أخذ المكونات السكانية بالحسبان لتعريف "شعب" ما لغرض تقرير المصير، عنه إذا ما كنا ننظر إلى المكونات السكانية وحسب. فتوصية الأمم المتحدة للتقسيم كانت إقليمية أساسا، ولكنها استخدمت العرق دليلا عند تحديد المنطقة. فعندما أوصت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالتقسيم عام 1947، ما كان ليكون في الدولة "اليهودية" سوى أغلبية يهودية بسيطة. وقد أقرت الأمم المتحدة الطبيعة اليهودية لهذه الدولة، من خلال التوصية فقط بحدود تكون فيها أغلبية يهودية ضئيلة، وتوفير "تسهيلات لهجرة رئيسية". وبموجب القرار، فإنه ما كان من الممكن إنشاء، أو تعزيز الطابع اليهودي للدولة، أو الحفاظ عليه، من خلال التضحية بالحقوق العربية. 

القول بأنه لا يوجد ارتباط بين اللاجئين الفلسطينيين و"الشعب" الإسرائيلي، ولذا فإنه لا يمكن دمجهم في تقرير المصير الإسرائيلي هو طرح مستمر، ومنظور يهودي ذاتي فعليا. فقد استثني اللاجئون الفلسطينيون من إسرائيل بسبب رفض الإسرائيليين لحق العودة. اللاجئون الفلسطينيون على أبعد تقدير متميزون اجتماعيا عن الإسرائيليين اليهود لا عن كل الإسرائيليين. إذ يشترك مواطنو إسرائيل الفلسطينيون ثقافيا ودينيا مع اللاجئين الفلسطينيين وتجمعهم بهم علاقات عائلية، ناهيك عن أنهم من أماكن المنشأ نفسها في فلسطين التاريخية. إضافة إلى ذلك، فإنه ينبغي عدم تجاهل العلاقات الاقتصادية بين الأراضي الفلسطينية المحتلة (بما فيها مخيمات اللاجئين) وإسرائيل، ولا القرب الجغرافي لمخيمات اللاجئين من إسرائيل. إن علاقات اللاجئين الفلسطينيين بوطنهم ليست قضية مطروحة للنقاش كثيرا على غرار مسألة ما إذا كان لليهود حق جماعي في الاحتفاظ بسيطرة سياسية واقتصادية على البلاد. 

الهجرة والعودة 

أفرز الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مفردات مربكة تتعلق بالهجرة، يرتبط الكثير منها بأفكار عامة متضاربة لتقرير المصير. فالفلسطينيون يصرون على حقهم في العودة، بينما يوجد في إسرائيل قانون للعودة يسمح لليهود من دول أخرى بالهجرة إليها. وفي الوقت الذي شكلت فيه الهجرة اليهودية بالنسبة للصهيونية وسيلة لإعادة بناء وطن، فإنها كانت بالنسبة للفلسطينيين شكلا من الاستعمار وآلية للتهجير.  كذلك الأمر بالنسبة للعودة، فبينما تشكل بالنسبة للفلسطينيين تعويضاً منصفاً للوضع الراهن، فإنها بالنسبة للإسرائيليين "فرض شعب أجنبي على دولة ذات سيادة". ومن خلال اعتبار كل من الطرفين هجرة الآخر (هجرة للإقامة بالنسبة لليهود، وعودة بالنسبة للفلسطينيين) على أنها غير شرعية، فانهما يفهمان تقرير المصير بشكل زائف لا يوجد فيه الآخر بأعداد كبيرة. 

حيث أن الأغلبية الواسعة من الإسرائيليين اليهود جاءت إلى البلاد بعد صدور إعلان بلفور، فإن للفلسطينيين سبب وجيه للنظر إلى حجم السكان اليهود في وطنهم، على أنه نتاج مصطنع للسياسات الاستعمارية. لقد أقرت عصبة الأمم الهجرة اليهودية في الانتداب الذي أقرته لفلسطين، وربطت الهجرة باستيطان الأرض. ولقد حرم ذلك الفلسطينيين من وضع سياسة هجرة لبلدهم كما تفعل الدول الغربية منذ القرن التاسع عشر، وكما فعلت إسرائيل حين انتهزت الفرصة للقيام بذلك بعد عام 1948. وفي بعض الأحيان، عندما سعت بريطانيا إلى الحد من الهجرة اليهودية أثناء فترة الانتداب، قامت المنظمات الصهيونية بتنظيم هجرة غير قانونية. وبعد خروج اللاجئين الفلسطينيين عام 1948 مباشرة تقريباً، قامت إسرائيل والمنظمات الصهيونية بتسهيل هجرة مئات الآلاف من اليهود الذين تم إسكان بعضهم في أراضي وبيوت اللاجئين المطرودين المصادرة. 

لهذه الأسباب كلها، ينبغي اعتبار جزء كبير من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وإلى إسرائيل فيما بعد على أنها مرتبطة بالاستعمار والعنصرية، ومع ذلك، ليس من المهم كيف جاء المهاجرون اليهود إلى إسرائيل، فأبناؤهم وأحفادهم هم اليوم مواطنو إسرائيل، ولهم حقوق في البقاء في إسرائيل مواطنين متساوين إلى جانب اللاجئين العائدين. هناك ثلاثة أسباب لذلك، الأول هو أن إسرائيل دولة ذات سيادة، يحق لها أن تقرر قوانينها الخاصة بالهجرة والجنسية، والثاني هو أن عصبة الأمم، سواء أكان ذلك جيدا أم سيئا، أقرت الهجرة اليهودية في انتدابها ومنحتها الشرعية، والثالث هو أن كثيرا من اللاجئين اليهود (ليس كلهم بالتأكيد)، كانوا لاجئين إما من النازية في أوروبا أو من التمييز ضد اليهود في الدول العربية بعد عام 1948. ولمثل هؤلاء الناس الحق في البحث عن ملجأ. 

إن لدولة إسرائيل الحق، إن لم يكن واجبا عليها، أن تحافظ على الثقافة اليهودية والعبرية. فالمادة 15 من الميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، تضمن حقوق كل شخص في أن " يشارك في الحياة الثقافية". وتقع على الدولة مسؤوليات مماثلة تجاه المجتمعات غير اليهودية وهي كبيرة (عربية بالأساس). إن الحفاظ على ثقافة ما لا يعتبر نفيا لثقافة أخرى. للإسرائيليين اليوم الحقوق نفسها التي كانت للفلسطينيين عام 1948، وتشمل هذه الحقوق حق البقاء في بلدهم، وأن يكونوا مواطنين متساوين فيه. 

لقد سعى بعض المدافعين عن الصهيونية بشكل متزايد، إلى تبرير السيطرة اليهودية في إسرائيل من خلال القياس على قانون الهجرة الدولي. فهناك عدد من دول العالم تعرّف نفسها بجنسية، أو ديانة أو إثنية معينة. ولعل هذا من الأسباب التي جعلت القانون الدولي يسمح بالتمييز في سياق قانون الهجرة، كتفضيل مهاجرين لهم صفات عرقية، أو دينية، أو عنصرية معينة مثلاً. ومع أن هذه المساحة من القانون الدولي غير مريحة أخلاقيا، لأنها تسمح بأشكال من التمييز لو وردت في أي مجال آخر لكانت ممجوجة وبغيضة، إلا أنها مع ذلك مظهر من المظاهر الحالية للقانون الدولي 

صحيح أن القانون الدولي يسمح لإسرائيل بأن تميز في قانون العودة بتفضيل المهاجرين اليهود. إلا أن المشكلة مع هذا القياس، هي أننا عندما نتحدث عن اللاجئين الفلسطينيين، فإننا في واقع الحال لا نتكلم عن هجرة مواطنين جدد. إن حق العودة هنا يتعلق بإعادة أناس إلى وطنهم، بعد أن كانوا طردوا من بيوتهم بالقوة وجردوا من جنسيتهم لأسباب تمييزية. يمكن للدول ذات السيادة، أن تحد من الهجرة بشكل قانوني من أجل الحفاظ على وضع سكاني عرقي أو ديني معين، إلا أنه من غير المسموح لها أن تطرد، أو تمنع الناس من العودة إلى بيوتهم بغرض خلق واقع سكاني. فمنذ عام 1948، استخدمت إسرائيل القوة العسكرية والسياسية لإعادة صياغة التوازن العرقي فيها بشكل دراماتيكي، وهذا غير مسموح به في القانون، ولا تبرره ادعاءات تقرير المصير.  الوضع الفلسطيني تغطيه المادة الخامسة من معاهدة التمييز العنصري: "تتعهد الدول الأطراف بمنع التمييز العنصري والقضاء عليه بكل أشكاله..... خاصة فيما يتعلق بالتمتع بالحقوق التالية..... (بما فيها) حق مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده/ها، والعودة إلى بلده/ها، والحق في الجنسية، (و) الحق في حيازة أملاك وحده/ها وكذلك مع الآخرين".(ترجمة غير رسمية). 

وعلقت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في تفسيرها للبنود المشابهة في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية قائلة: "إن حق العودة ذو أهمية قصوى للاجئين الساعين إلى عودة طوعية إلى الوطن. كما أنه يتضمن أيضا منع نقل (ترانسفير) السكان القسري أو الطرد الجماعي إلى دول أخرى"  فإذا ما جاز لنا أن نتقبل الطرح الإسرائيلي أعلاه، فإنه سيكون بالإمكان إلى حد ما قراءة  اتفاقية وضعت للقضاء على التمييز، وكأنها تسمح بالتطهير العرقي. ومن الواضح أن مثل هذه القراءة تنسف القانون الدولي لحقوق الإنسان، وهي غير مبررة. 

__________________

د. مايكل كيغان هو خبير قانوني أمريكي متخصص في حقوق اللاجئين، حاصل على درجة الدكتوراه في الحقوق من جامعة ميشيغان عام 2000. يعمل كيجان منذ عام 2004 موجها في مركز حقوق اللاجئين في كلية بوخمان للحقوق التابعة لجامعة تل أبيب. وهو إلى جانب ذلك، مستشار قانوني لدى عدد من المنظمات الحقوقية المعنية بقضايا اللاجئين والهجرة لقسرية في الشرق الأوسط، ومنها بديل/ المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين. اعتمد هذا المقال على ورقة عمل مطولة اعدها كيغان الى مركز بديل بعنوان: “هل تتضارب الحقوق الإسرائيلية مع حق الفلسطينيين في العودة؟ تحديد الحجج القانونية المحتملة”. ورقة العمل مؤرشفة على موقع مركز بديل على شبكة الانترنت www.badil.org.