حقــوق اللاجئيــن وخيـــار دولـــة الكانتونــــات

بقلم:هانــي المصــري

عندما توقفت أمام الموضوع الذي سأكتبه لجريدة "حق العودة" حول حقوق اللاجئين وخيار الدولة، وبعدما أمضيت التفكير قي ملف العدد، خيار الدولة الواحدة وخيار الدولتين وحقوق اللاجئين الفلسطينيين، قفز إلى ذهني بسرعة، وتوصلت الى قناعة بأن العدد سيكون ناقصاً إذا لم يتضمن مقالاً حول حقوق اللاجئين وخيار دولة الكانتونات، دولة الحدود المؤقتة، وهي الدولة الناقصة التي يراد إقامتها على جزء من الاراضي المحتلة عام 1967 لا تتجاوز 50 % من مساحة هذه الاراضي.

النقطة التي حسمت بأي موضوع سأكتب عنه، وفي أي اتجاه هو ملاحظتي بأن خيار دولة الكانتونات مقطعة الأوصال فاقدة السيادة التي لا تضم القدس ولا كتل المستوطنات الأساسية وتسقط قضية اللاجئين، هو الخيار الذي يجري تطبيقه على أرض الواقع، ولن يمر وقت طويل إذا استمرت المعطيات الراهنة نفسها، إلا ويصبح هذا الخيار، اللعبة الوحيدة في المدينة، مثلما حدث بالنسبة لخطة فك الارتباط عن قطاع غزة. ولا يجب أن نخدع أنفسنا ولا بد أن نعترف بأن إسرائيل استطاعت أن تقطع شوطاَ بل اشواطاً هامة باتجاه جعل هذا الخيار هو الخيار الوحيد العملي والمطروح على جدول الأعمال، وعندما تستكمل مشروعها الاستيطاني، وتهويد القدس وفصلها واستكمال بناء جدار الفصل العنصري سيصبح خيار دولة الكانتونات، أمراً واقعاً من الصعب -اذا لم يكن من المستحيل- تجاوزه.

إن خيار الدولة الواحدة أصبح بعيداً جداً -الآن أكثر من أي وقت مضى- لأنه بعيد كل البعد عن الإجماع الإسرائيلي – أبعد بكثير من خيار الدولتين مثلاً-، والدليل الحي على ما سبق أن إسرائيل حسمت قرارها بحيث أصبحت تعتقد أن إقامة كيان فلسطيني يسمى دولة ولا يملك من مقومات الدولة إلا الاسم، بات مصلحة إسرائيلية: فإقامة مثل هذه الدولة يمّكن إسرائيل من "الادعاء بإنهاء الاحتلال" والتخلص من أعبائه دون التخلص من مزاياه وفوائده كما أنه يبطل مفعول القنبلة الديموغرافية ويبعد خطر إقامة الدولة الواحدة التي إما ستؤدي الى دولة ثنائية القومية ستقضي على يهودية دولة إسرائيل أو ستؤدي إلى دولة تمييز وفصل عنصري تمثلها إسرائيل تجعلها دولة معزولة عن العالم كله ومدانة مما يضعفها ويسهل معركة اعدائها ضدها.

لقد أصبح هدف إقامة دولة فلسطينية محل اجماع عالمي، وجرى إقراره في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، وبات جزءاً من رؤية الرئيس الامريكي بوش وخارطة الطريق الدولية. ووجدت إسرائيل -وخصوصاً وهي في عهد شارون- أنه من غير المجدي "مناطحة" هذا الإجماع الدولي وارتأت القبول بمبدأ الدولة نظرياً وتفريغها من مضمونها عملياً. لقد أصبح الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي يدور ليس حول مبدأ إقامة الدولة الفلسطينية وإنما حول مساحتها وعاصمتها ومقومات السيادة فيها ومدى سيطرتها على الأرض والسكان والحدود والمعابر والمياه والأجواء.

من أجل استكمال هذه المقالة بشكل صحيح لا بد من التوقف قليلاً أمام مسألة حقوق اللاجئين الفلسطينين، فقد قيل إسرائيليا بعد سيادة خيار دولتين لشعبين أن هذا الخيار لن يقوم له قائمة إلا إذا حصر مسألة "تطبيق" حق العودة للاجئين في الدولة الفلسطينية المقبلة، على أساس أنه بغض النظرعن شكل الحل الذي سيظهر في نهاية الأمر لمشكلة اللاجئين وكيفية تطبيقه، من الطبيعي أن يكفل هذا الحل لكل فلسطيني الحق في الإقامة والعمل في الدولة الفلسطينية المستقلة عند قيامها والحصول على جنسيتها.

وإذا أشرنا إلى أن اللاجئين الفلسطينيين يشكلون معظم أبناء الشعب الفلسطيني ويعيش غالبيتهم خارج وطنهم فلسطين مع العلم أن 40 % من سكان الضفة وغزة هم من اللاجئين، ما يعني أن الدولة الفلسطينية ستواجه مشكلة ضخمة تتمثل في استيعاب الأعداد التي قد ترغب بـ "العودة" من الخارج وأولئك المتواجدين في الضفة والقطاع. وهذا يتطلب قدرة استيعابية ضخمة وإمكانات مالية هائلة وتوفير مساحات كافية من الارض. وهذا يقضي أن الدولة ستكون غير قابلة للحياة والتطور والاستقرار وسيدفع مواطنيها الى التفكير بالهجرة بحثاً عن العمل وعن مكان أكثر أمناً واستقراراً وهدوءاً وقادراً على توفير احتياجاتهم واحتياجات أسرهم.

لا أظنني أبالغ في فهم العقلية القيادية الاسرائيلية حين أقول أن من أهم الأسباب والأهداف التي تدفع إسرائيل لتأكيد خيار دولة الكانتونات هو أن هذه الدولة لن تستطيع "استيعاب" أعداد ذات شأن من اللاجئين الفلسطينيين سواء الذين يمكن أن يعودوا من الخارج أو المتواجدين في الوطن. فآخر ما تريده إسرائيل هو "عودة اللاجئين" حتى الى الدولة الفلسطينية. هي ستوافق على "عودتهم" ولكنها ستفعل كل شئ لجعل هذه العودة غير مرغوبة بل ومستحيلة. فإسرائيل تريد أقل عدد من الفلسطينيين المتواجدين من النهر الى البحر لأنها تفكر في المستقبل وكيفية احتواء خطر الزيادة السكانية الفلسطينية وتلبية احتياجاتها التوسعية للأرض واستيعاب مهاجرين يهود جدد.

تأسيساً على ما سبق، يجب أن نعرف أن ما يجري تطبيقه على يد إسرائيل وبدعم الولايات المتحدة الامريكية، في ظل عجز عربي ودولي واضح ليس محاولة لحل الصراع على أسس عادلة أو حتى متوازنة، بل هناك مخطط واعٍ مدروس لتصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها، مبني على أساس قناعة شارون وأوساط إسرائيلية واسعة، أنه من المستحيل التوصل الى تسوية نهائية  الآن أو في القريب العاجل، لأن أقصى ما تطرحه أو يمكن ان تطرحه إسرائيل على الفلسطينيين أقل مما يمكن أن يقبله الفلسطينيون حتى المعتدلين منهم. من هذه النبتة الشيطانية ظهرت فكرة الحل الانتقالي طويل الأمد متعدد المراحل والحلقات، الذي أحد عناوينه خطة فك الارتباط عن غزة، وعنوان آخر خطة "محاربة الارهاب أولاً"، وعنوان ثالث محطة إقامة دولة فلسطينية مؤقتة، ورابع إسقاط الحل المتفاوض عليه لصالح حل إسرائيلي أحادي الجانب يتم فرضه على خطوات ودفعات ومراحل بالتناسب مع نضج إسرائيل نفسها لتمرير هذه الخطوات والدفعات والمراحل، فإسرائيل لا توافق كلها على تقديم تنازلات محدودة مقابل تطبيق الحل الاسرائيلي للقضية الفلسطينية، فهناك في إسرائيل من لم يوافق على الانسحاب من غزة وإخلاء المستوطنات فيها، ولن يوافق على إزالة البؤر الاستيطانية والمستوطنات المعزولة في الضفة، لأن هذا البعض يعتقد أن إسرائيل في وضع مريح استراتيجياً يجعلها قادرةً على أخذ كل شيء والحفاظ على كل شيء وأن الفلسطينيين والعرب لا يفهمون سوى لغة القوة والحرب والعدوان، ولا يجب عقد التسويات معهم.

أما شارون ومن يؤيده فهم يدركون حدود القدرة الإسرائيلية ومستعدون لتقديم تنازلات محددة من أجل الحصول على أمن إسرائيلي أكبر ودور إسرائيلي سياسي واقتصادي أكبر ليس في فلسطين فقط وإنما في عموم المنطقة، فمقابل غزة يريدون أن يحصلون على أكثر من نصف الضفة الغربية بما في ذلك القدس، وإسقاط قضايا الوضع النهائي كلها، وقطع الطريق على إمكانية قيام دولة فلسطينية حقيقية ذات سيادة أو دولة واحدة، وقطع الطريق على المبادرات الدولية والعربية التي ستصبح مفروضة على إسرائيل إذا لم تستطع الأخيرة الإمساك بزمام المبادرة الاستراتيجية.

المطروح إذاً ليس "عودة" اللاجئين إلى الضفة والقطاع إلى الدولة الفلسطينية العتيدة كما يمني البعض نفسه، أو كما يروج البعض الآخر، وإنما المطروح مخطط يرمي في النهاية لتوطين الفلسطينيين وإعادة تهجير أقسام منهم الى أماكن أخرى في الشتات مع اعتراف بحقهم بالعودة، ولكنه غير قابل للتحقيق عملياً، مثل "شيك" بدون رصيد. وبدلاً من الخلافات حول الحل الممكن والمستحيل، وبدلاً من الدعوة لحل متفق عليه لقضية اللاجئين يعطي حق الفيتو لإسرائيل، يجب توحيد الجهود كلها الفلسطينية والعربية والدولية من أجل إسقاط الحل الاسرائيلي الجاري فرضه حالياً، وقبل اسقاطه لا معنى للخلاف الفلسطيني الداخلي، فهذا الخلاف يظهر وكأن المسالة خلافاً على عودة كل أو نصف أو جزء من اللاجئين إلى إسرائيل أوالدولة الفلسطينية العتيدة بينما ما يجري هو في الحقيقة تصفية لقضية اللاجئين التي هي أساس وجوهر القضية الفلسطينية. فهل نعي ما يخطط لنا، ونكون بمستوى التحديات أم نغرق بالتفاصيل والخلافات الثانوية ؟

______________

هاني المصري هو صحافي فلسطيني وكاتب دائم في جريدة "الأيام" التي تصدر من رام الله وجريدة "الحياة" التي تصدر من لندن. يشغل السيد المصري منصب مدير عام دائرة المطبوعات وشؤون المؤسسات الإعلامية بوزارة الاعلام الفلسطينية. ورأس قبل عودته الى الوطن في العام 1994 تحرير مجلة نداء الوطن.