أثــر البيــت وفقدانـــه علـــى المــرأة الفلسطينيــة اللاجئــة

بقلم: د. روزمــاري صايــغ

مقدمــة

في العام 2005، فكّر بعضنا في بيروت بإنتاج كتاب صوّر حول بيوت اللاجئين في مخيم برج البراجنة للاجئين (إحدى ضواحي بيروت). وقد فكرنا في إنتاجه بأنفسنا باستخدام حواسيبنا النقالة وتوزيعه على المنظمات غير الحكومية المحلية ومموليهم الدوليين. لقد كانت الفكرة هي تصوير هذه البيوت من خلال أعين صاحباتها النساء عن طريق اختيارهن للمشاهد التي يرغبن في لفت الأنظار إليها، وفي نفس الوقت تسجيل قصصهن مع ذلك البيت والبيوت الأخرى اللواتي سكنّ بها. وبهذه الطريقة كنا سنحقق كلا من السجلين السمعي والبصري عن بيوت اللاجئين في لبنان، وبقدر الإمكان من وجهة نظر النساء اللواتي عشن بها.  لقد كانت فكرة إنتاج هذا الكتاب بالتعاون مع المنظمة الإنسانية للنساء الفلسطينيات (PWHO)، وهي منظمة غير حكومية محلية تتخذ من برج البراجنة مقرا لها، حيث كانت تنفذ بعض الإصلاحات البسيطة على بيوت الناس الذين لا يستطيعون توفير ذلك.

لم يذهب هذا المشروع في ذلك الوقت ابعد من اجتماعات البحث في تنفيذه. ولكن واحدا من بيننا، وقد كان فنانا تناول الفكرة بطريقة مختلفة، وهي: إدارة البيت، كموضوع لجلسة أسبوعية تجري في ناد للأشخاص الذين  تزيد أعمارهم عن الستين عاما، والذي تديره ذات المنظمة النسائية الإنسانية في برج البراجنة. الأشخاص الذين يترددون على النادي ممن تجاوزوا الستين، هن بشكل أساسي نساء. هذا وقامت الفنانة إيمي بتقديمهن لفكرة صندوق الكنز الذي سيصنعنه كإرث يمرر إلى بناتهن، وهو مملوء برموز لأشياء ترتبط بالبيت. وفي كل أسبوع كان يستخدم نوعا آخر من المواد وكذلك أجزاء مختلفة من البيت الذي استحضرته الذاكرة. وفي نهاية العام قمن بإنتاج معرض يتضمن بعض التسجيلات الصوتية وقد كانت جميعها مؤرشفة. وقد قامت الفنانة الأمريكية الفلسطينية دوريس بيطار بزيارة البيوت المختلفة. وقد طلبت من النساء الإشارة إلى الأشياء والأجزاء الخاصة بالبيت، والتي احتلت مكانة خاصة في نفوسهن ثم قامت بتصويرها. لم أتمكن آنذاك من مرافقة دوريس  ولكنني كنت مهتمة جدا بقصص النساء، الأرامل عادة، اللواتي بذلن قدرا كبيرا من الطاقة والإبداع في إعادة ترتيب وتزيين منازلهن.

وفي النقاشات التي دارت تحت عنوان البيت، والتي سجلت في نادي من تجاوزوا الستين عاما كان  النقاش مثيرا للاهتمام. اكتشافنا أن بعض النساء يتذكرن فترة اللجوء المبكرة باعتبارها الأفضل من حيث بيوتهن، ولا بد في هذا المقام من ذكر أن معظمهن لم يستطع تذكر فلسطين. فالقلة القليلة من ذلك الجيل ما زال على قيد الحياة في لبنان. أتت الذكريات عن العقدين الأولين جيدة بشكل مفاجئ، لأن تلك الفترة تميزت بأشد فترات الفقر والقمع. وظهرت صور وكالة الغوث الدولية-الأونروا أن البيوت آنذاك كانت عبارة عن عرائش من صفائح الحديد الموجية الشكل.كيفما كان، فإن ما تذكرته النسوة عن ذلك الزمن، كان جلوسهن خارج البيوت بعد الانتهاء من عمل ذلك اليوم، والاستمتاع باجتماعهن سوية. إحدى من تجاوزن الستين قالت عن تلك الفترة:"كنا جميعا أسرة واحدة". يؤكد هذا التعليق على نقطة تم تجاهلها  في معظم دراسات البيئة الطبيعية وهي أن خاصية الإحساس بالانتماء إلى البيت ليست ملازمة للبناء المادي بنفس القدر الذي يعتمد فيه ذلك الإحساس  على المجتمع المحلي المحيط به. وهذا صحيح خاصة بالنسبة لأولئك الذين يمضون معظم وقتهم في البيت أو بجواره، كالنساء والأطفال والمتقدمين في السن. وتؤكد هذه الذكرى تحديدا قدرة الذاكرة التحويلية وأن الطريقة التي تتجسد بها تجارب الحياة اليومية غالبا ما تشطب، عن طريق إعادة بناء أقوى للتاريخ، بالاعتماد على التاريخ الثابت في المجتمع المحلي أو قطاع محدد بداخله. وعادة ما تكون عملية إعادة البناء تلك شديدة الحساسية للتغيرات الأيديولوجية والسياسية، مما فرض على الباحث أن يبحث في أسسها الاجتماعية، وفي الجيل، والجنس، والطبقة الاجتماعية، والتوجه السياسي.

تتكون البيوت في مخيم برج البراجنة اليوم، من مباني إسمنتية وهي في حالة تنامي رأسيّة-عمودية. فهي تنمو بالرغم من حقيقة أن التربة التحتية لمخيم برج البراجنة، هي تربة رملية مما يجعل الأبنية مرتفعة العلو مبان غير آمنة. فهي تنمو فقط لأن الأسر في حالة نمو واتساع، ذلك أن الدولة تمنع البناء على الأرض "الموات" التي تقع خارج المخيم، وكذلك فإن القانون يمنع اللاجئين الفلسطينيين من امتلاك أو توارث العقارات. وبنفس الوقت وضعت بلدية بيروت خطة لطريق سريع  سيمر من الطرف الشمالي لمخيم برج البراجنة وسيقتطع صفا من البيوت التي تم ترقيمها، بالرغم من أن مباشرة العمل في شق الطريق قد تأجل. أضف إلى كل تلك الأسباب، أنه بسبب ارتفاع قيمة العقارات فإن المالكين الأصليين للأرض التي يقوم عليها المخيم، قد رفعوا قضية لاستعادة ملكيتهم.

إن الهدف من عرض كل هذه التفاصيل هو توضيح مدى ركاكة الأمن البيتي لهؤلاء الذين ينتمون إلى مجتمع غير المواطنين، مثل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وكذلك بسبب رغبتي في إظهار أن البيوت موضوع الدراسة، هي ببساطة حرما للحياة الأسرية دون الانتباه إلى الإطار البنائي للقوانين والسياسات التي تخضع لها تلك البيوت، وتنتقص من حساباتها أهمية البيئات الوطنية والمحلية في صنع البيوت. ومع أن البيوت تبقى غير مدروسة في معظم الحالات باعتبارها موازية للأسرة، فهي في الحقيقة حلقة وصل بين الأنظمة الواسعة مثل القانون وسياسة الدولة وحراك السكان أو الحرب من ناحية، والمستويات الضيقة للتخطيط مثل تحديد مواقع تلك المجتمعات المحلية والبيوت والأسر والأفراد من ناحية أخرى. وباعتبارها أبنية مادية، فإن دراسة البيوت هي من اختصاص المعماريين ومخططي المدن والمؤرخين الثقافيين. وأما اعتبار البيت مساحة مخصصة لتكاثر الروابط الاجتماعية والسياسية، ابتداء من الأسر ووصولا إلى الأمم، فهو مجال اهتمام علماء الاجتماع من كافة التخصصات، بما في ذلك منظري الأنثوية. لقد كان واضحا للأنثويين منذ زمن بعيد، أن البيوت هي المواقع الأساسية التي تبنى فيها الهوية الجنسية وتمارس فيها العلاقات بين الجنسين.

البيــوت كمؤشــر علـى مكانــة اللاجئيـــن


تعتبر البيوت من أكثر المؤشرات الدالة مباشرة  ليس فقط على الطبقة الاجتماعية ولكن أيضا على مكانة المواطنة. وحتى نسبيا فإن مشروعات الإسكان الجيدة للاجئين يمكن أن تزدرى من قبل أولئك الذين اضطروا للعيش بها، وذلك بسبب اختلافها عن الأحياء الطبيعية، فهي تميزهم عن غيرهم وتصم ساكنيها بوصمة اللاجئين (Zetter 1991). فاكتساب وصمة من خلال مكان السكن، يتسم بقوة خاصة عندما تكون ملكيته مؤشرا على المكانة أو القيمة، سواء للاجئين أم للسكان المضيفين. يضاف إلى ذلك أيضا أن كلا من بيئة المخيم أو بنية البيت من حيث الموقع والنمط المستخدمين في مرحلة ما قبل اللجوء كما هو الحال بالنسبة للبيوت المؤسساتية، لا يتم اختيارها بحرية فالمخيم يشبه السجن من هذا الجانب. وفي لبنان، وباعتبار أن المخيمات مناطق واضحة للفقر، فهي تصبح منبوذة من قبل العديد من السكان المواطنين، فهي أشبه بالتشوه في التضاريس القومية، ويحمل سكانها قدرا أكبر من المشاعر المتناقضة. فمن ناحية يمقتها سكانها بالطبع، باعتبار أن المخيمات تجسيد للخسارة وانعدام الدولة وغياب المستقبل. ومن ناحية أخرى فهم أيضا مرتبطين بها باعتبارها الأمكنة التي يجب الدفاع عنها كمواقع للهوية الفلسطينية وباعتبارها مجسّدة لمطالبهم أمام المجتمع الدولي.

يشكل اللاجئون حوالي 70 % من مجمل تعداد الشعب الفلسطيني وقد تواصلت تجربة لجوئهم عبر ثلاثة أو أربعة أجيال. ويمكننا أن نتوقع أن تكون تلك التجربة عنصرا هاما في التاريخ والهوية الفلسطينيين.  ومع ذلك ليس بالضرورة أن تكون كذلك. فالبنية الطبقية والثقافة الفلسطينية من شأنهما أن تجعل الأمر أكثر صعوبة على الأصوات التي لا تنتمي للصفوة، أن تصبح جزءا من السجل الوطني. كما أن السياسات المتبعة أيضا تلعب دورا في إشهار أو كبت قضية اللاجئين.  فالإحياء الرسمي لذكرى نكبة 1998، يمثل إحدى الحالات الراهنة لتجسيد قضية اللاجئين الفلسطينيين لأسباب سياسية. ومن بين الشهادات التي نشرت في صحيفة الأيام على مدى ما يفوق السنة، سجل عدد قليل منها بواسطة رجال من أصول ريفية، قدمت سبعة منها فقط من قبل نساء. لقد كان الصوت النسائي مفقودا تماما من قائمة المثقفين المدعوين من قبل صحيفة الأيام للإدلاء بتحليلات سياسية عن النكبة (حمامي 2005). إن احتكار قضية اللاجئين يشير إلى احتمالية نسيانها أمام الاهتمام ببناء الدولة. ذلك يعني أن على الناطقين باسم اللاجئين من رجال ونساء، أن يندمجوا معا ويصرّوا على كتابة تجربتهم الجماعية كسجل للتاريخ الوطني.

المــرأة والبيــت: تذكيــر وتأنيــث المجــال الأســري

من المهم للمرأة بشكل خاص أن تكون شريكة في عملية التوثيق تلك. فهنالك العديد من الأسباب لهذا، ولكنني سأذكر ثلاثة منها فقط: أولا، إحياء ذكرى النكبة التي تطرقت إليها لأظهر حقيقة أنه إن لم تتدخل المرأة بشكل فعّال فستبقى خارج القصة، أو سيذكرن فقط إذا كنّ عضوات في الحركة الوطنية.  ثانيا، تتميز المرأة اللاجئة بأنها حادة الحواس وأنها مراقب مطلع على سياسات الحركة الوطنية بما لها من أثر على بنية الأسرة وما لها من أثر في تغيير العلاقات التقليدية بين الأجيال والجنسين.  ثالثا، فإن عمليات التوثيق القليلة التي أنجزت بمشاركة نساء لاجئات تقضي بأنهن بانيات ومعيلات لبيوتهن خاصة في السنوات الواقعة ما بين الهجرة وتأسيس وكالة الغوث الدولية-الأونروا، أي عندما كان حرمان اللاجئين على أشده وهي فترة تحتاج إلى المزيد من البحث. لقصص النساء عن بيوتهن قدرة على إحداث حقائق عدّة حول النكبة والطرد. من الأمثلة على ذلك الطريقة التي تمت بها عملية الطرد الأولى حيث تظهر تفاصيل وجوانب أخرى لعمليات التهجير أخرى والخسارة المتجددة للبيوت، كما تبين التناقض بين الوعود الدولية القاضية بالعودة من خلال قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 وعدم تطبيق ذلك القرار، كما تظهر انفصال الأسرة المتفرعة عن الاسرة الاصل وما تكابده الأسرة من أجل تربية الأطفال ممن ينتظرهم مستقبل مجهول سببه حالة اللجوء. نحن نعرف كيف تستثني روايات التاريخ الوطني الممالك الأسرية باعتبارها غير هامة وغير ملفتة للنظر وذلك لأن المؤرخين لا يعرفون كيفية التعامل معها وكذلك لأنهم ينظرون إلى تكاثرها باعتباره أمرا مضمونا. إن أيديولوجية الفصل بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي واعتبار ما هو سياسي كأنه مملكة خاصة بالرجال وأن ما هو اجتماعي هو للنساء، يشكل جزءا من معظم الأيديولوجيات القومية وأن القومية الفلسطينية كما لاحظ الباحثون أمثال إصلاح جاد وجوزيف مسعد وميري لايون لا تختلف في محصلتها عن البقية.

كتبت كيت يونغ، باحثة الأنثروبولوجيا والناشطة في الحركة النسوئية، أن طبيعة العمل المنزلي متشابهة في كل مكان، كما يفترض تكرارا، ولكنها في الحقيقة تختلف بشكل كبير من ثقافة إلى أخرى. وربما كانت سعاد جوزيف أولى الباحثات التي لاحظت القدر غير العادي من الجهد الاجتماعي والسياسي غير الرسمي، الذي تبذله النساء في البيئات الشرق أوسطية إلى جانب عملهن المنزلي. ففي دراستها حول أنماط زيارات النساء في أحد أحياء بيروت الذي يتميز بالاختلاط الثقافي والدخل المتدني، (برج حمود)، قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، اكتشفت أن زيارات النساء تتجاوز الحدود الثقافية والطائفية، فبنفس القدر الذي تعزز زيارات النساء فيه أواصر القرابة والطائفة، فقد اعتبرت من جهة أخرى وسيلة تفسد التعبئة الطائفية الداعية للذهاب إلى الحرب. و بنفس الطريقة تنخرط المرأة الفلسطينية اللاجئة في بناء شبكات العلاقات التي من شأنها إعادة إنتاج مجتمعات محلية في المخيمات وثقافة وطنية للاجئين، إضافة إلى علاقات القرابة والصداقة والتأييد السياسي وما يرافق هذا من تفاصيل. إن توسع دائرة العمل المنزلي على هذا النحو وبما له من اثر خاص يقتضي توثيقه على نحو أكمل.

ولان عزة مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين، وكذلك المجتمعات المحلية اللبنانية تستند بشكل واسع على نساء ينظر إليهن كأمثلة حية، تجسد القيم العربية كزوجات صالحات، وأمهات، ويتميزن بالحشمة الجنسية، ويفين بمطالب المجتمع  من خلال توفير البيوت الصالحة. فإدارة البيت الصالح لا تتطلب فقط قدرا عاليا من الجهد الجسماني، ولكن أيضا مهارة في التعامل مع الناس والإدارة المالية. فليس الآباء بل الأمهات هن اللواتي يتحملن مسؤولية سلوك الأولاد حيث تصبح مسؤوليات علاقة الأمومة هامة بشكل خاص في حالات البنات. وبالنسبة للنساء فان المكانة الاجتماعية طبعا تعتمد على خصائص كثيرة متنوعة، ولكنني لاحظت أنه لا العمل ولا العمل الوطني يعفي نساء المخيمات من واجب إدارة البيت بشكل ملائم، وهو مفهوم لا بد من الإشارة إلى أنه يذهب في مضمونه الى ابعد من ذلك المتصل بسلوك  الطبقة الأوروبية الوسطى المتعلق  حصرا بالنظافة،  ليشمل أيضا الضيافة. تتداخل كل من الجوانب السياسية والاجتماعية والأسرية وتقع ضمن مسؤولية المرأة اللاجئة الفلسطينية عن بيتها. ويمكن إعادة صياغة النقطة نفسها بطريقة أخرى وهي أن البيوت في المخيمات، بيوت مسيّسة ليس فقط لأن السياسات الوطنية تتخللها، ولكن أيضا بسبب الطريقة التي يجب أن يرتقي بها البيت إلى مقاييس احترام المجتمع التي تتطلبها العزة القومية. وخير دليل على ذلك هو تعاظم أكبر تجاه اللياقة البيتية، فهي المسؤول الأول عن زجر ومتابعة القيل والقال ومعاقبة المخالفين.

أحد الأسباب التي تجعل من تسجيل قصص النساء عن البيت ضرورة، هي قدرة المرأة على صنع بيت. ويبدو صنع البيت بالمعنى الكامل للمفهوم (الإنجليزي) مستحيلا بالنسبة للاجئين عموما، وللمرأة اللاجئة بشكل خاص. لذا فإن الخطوة النظرية الأولى في هذا البحث الذي أقترح، هي إسقاط انقسام الجمهور إلى نوعين باعتباره مؤشرا غير دقيق (مضلل). فمدلولات هذا الانقسام تفيد – كما طرحت الكثيرات من أنصار المرأة – أن اضطهاد المرأة ينشأ في الإطار البيتي ويمكن إنهائه أو تقليله إلى حده الأدنى من خلال النشاط في المجال الجماهيري. ولكن اعتبارات المجتمعات المهجرة أو اللاجئة – وخصوصا النساء بداخل هذه المجموعات – تفيد بوضوح أن المجال الجماهيري المتوفر للمواطنين غير متوفر لهن. وكما طرحت (أنايا بهاتاكارجي) في دراستها عن النساء الجنوب آسيويات اللواتي هاجرن إلى الولايات المتحدة: ينزلق كل من مفهوم العام والخاص في الآخر، و يعتمد ذلك على زاوية النظر إليهما (أنايا بهاتاكارجي1977). إذ انه لا يمكن فصل مفهوم المجال الجماهيري (العام) عن الدولة، فالدولة تتحكم في تركيبة سكانها من خلال قوانين انتقائية خاصة بالهجرة والتجنيس وبهذا المعنى يتداخل العام في الخاص من خلال تأثير تلك القوانين على تكوين الأسرة كوحدة اجتماعية-قومية خصوصا وان تلك القوانين تستثني بعض الفئات وتحرمها من امتياز اكتساب صفة الأسرة القومية.  وعليه، لا يمكن أن يعتبر المجال الجماهيري حلبة تحظى كافة الطبقات الاجتماعية وكلا الجنسين فيها بفرصة متساوية لتحقيق العدالة. ففي حالة الولايات المتحدة تستطيع النساء الجنوب آسيويات دخولها فقط إذا تقدّم رجل بطلبهن وبهذا ازداد اعتمادهن على الرجال. وفي لبنان تعتبر المرأة الفلسطينية موجودة فقط بعلاقتها مع والدها أو زوجها. أضف إلى ذلك أن المجموعات الإثنية التي تنشئها انتقائية الهجرة وتعتبر عامة وخاصة في نفس الوقت من وجهة نظر النساء المهاجرات:  فمن جهة، التسابق على المكانة بين المجموعات الإثنية، يجعل منها قمعية تجاه النساء بشكل عام خاصة عندما تكون الأواصر مع الوطن الأصلي تحت إدارة مجتمع أبوي ومن جهة ثانية يمكن للمرأة المهاجرة واللاجئة المقموعة في بيتها اصلا أن تجد في المجتمع المحلي مهربا لها وبذلك لن تجد العدالة في المجال الجماهيري (العام).

يوفر تحليل بهاتاكارجي لوضع النساء الجنوب آسيويات المهاجرات إلى الولايات المتحدة، فهما معمقا لوضع المرأة الفلسطينية اللاجئة في لبنان. حيث تعرف لبنان بقوانين جنسيتها الانتقائية يستثنى اللاجئون الفلسطينيون ليس فقط من حق اكتساب الجنسية ولكن من الحقوق المدنية أيضا. أما فرصتهم في التأثير في القانون اللبناني فهي محدودة للغاية. وهم مفصولون عن السكان اللبنانيين من خلال اضطرارهم للعيش داخل الحدود المعروفة لمجتمع المخيمات. وكما هو حال المخيم حال النساء، تحتوي مجتمعات اللاجئين على مساحة خاصة شبيهة بحال الجيتو الإثني، فخيار مغادرة البيت القمعي بالنسبة للمرأة غير وارد تماما كما هو خيار مغادرة المخيم غير قائم، وذلك لأن لكليهما حدودا واحدة.

ولتلخيص ما أشعر به من قيمة لتسجيل قصص النساء عن بيوتهن أقول: إن امتلاك بيتا آمنا في غير متناول الفلسطينيين بشكل عام، سواء عاشوا تحت الاحتلال الإسرائيلي أو في دول الشتات العربية. وتجدر الملاحظة هنا أن  الأمن البيتي ينعدم أو يتضاءل في مناطق أكثر من غيرها؛ كما هو الحال في مخيمات اللاجئين في لبنان وكما شهدنا مؤخرا في العراق. وتعتمد حقوق المرأة القانونية في بيتها على النظام القانوني الوطني للقطر المضيف، وعادات المجتمع ولكن لكونهن لاجئات غالبا ما تتضاعف المسافة بينهن وبين إمكانية اكتساب أية ملكية، وذلك لأن ظروف الشتات قد حالت دون نشوء القانون الفلسطيني ودون تطبيقه عموما. فالتوترات الموجودة أصلا في علاقة المرأة ببيتها قد أصبحت بالتأكيد أعظم في ظل ظروف اللجوء. فمن ناحية أصبحت مسؤوليتهن عن بناء البيت وصيانته عبئا أثقل، ومن ناحية أخرى أصبحت حقوقهن في الملكية أكثر هشاشة. إن مجتمعات المخيمات المحلية، باعتبارها امتداد للبيت، حمل الكثير من المؤثرات السلبية والإيجابية للنساء اللاجئات الموازية لمؤثرات البيت ذاته. فكلاهما، مجتمع المخيمات والبيت، يفرضان القيود بطرق ذات خصوصية ثقافية. فكل منهما عالم  تمارس فيه النساء النفوذ ويكسبن من خلاله الاحترام ولكنهن أيضا يخضعن للسلطة الأبوية.  فعلى الرغم من أن البعد عن الموطن الأصلي عموما يعد أمرا مؤلما للفلسطينيين دون استثناء، تعاني النساء من ذلك بطرق خاصة: كأشخاص بلا مكانة قانونية وأمهات لأولاد مستقبلهم مهدد. تمتلئ البيوت الفلسطينية بالرموز التذكارية لأشخاص مفقودين أو ميتين أو مسجونين أو في أفضل الأحوال يدرسون أو يعملون في الخارج. كيف ستعبّر تلك النسوة كل في قصتها عن ملامح وضعها الخاص وعن نفسها داخل بيتها؟

وسيــلة التنفيـــذ

بدأت في السنة الماضية بتوثيق قصص بعض الفلسطينيين في لبنان، عن زياراتهم لبيوتهم في فلسطين. كانت تلك القصص لافتة للنظر بأكثر من طريقة. فالكتابة عن الطبيعة الحيوية لتشكيل الإسرائيليين للتضاريس السطحية والبيئة الطبيعية كثيرا ما يفيد أن اللاجئين الفلسطينيين لن يتمكنوا من الاستدلال على الطرق المؤدية إلى بيوتهم – هذا إذا كانت ما تزال موجودة -  ولكن اللاجئين الذين دونت قصصهم لم يجدوا أية صعوبة في العثور على منزلهم الأصلي، ولا حتى في الحالات التي كانت فيها تلك المنازل قد دمرت. يرجع ذلك إلى أن لجميعهم أقاربا ما زالوا يعيشون في، أو بالقرب من، بيوتهم الأصلية. لقد وفر الأقارب صلة مع التضاريس السطحية. ومن المزايا المذهلة الأخرى لتلك القصص، زيارة البيت التي تمتد لتصبح جولة في القطر بأسره أو على الأقل لمواقعه المميزة، فالأسر التي يرجع أصلها إلى الجليل مثلا، والذين ربما لم يسبق لهم زيارة أي جزء آخر من فلسطين قبل 1948، يحملون الآن صورة كاملة عن المنطقة المعروفة لديهم "بالوطن" .

يجب عليّ الآن توسيع نطاق التوثيق لكي يتضمن ثلاث مستويات من مفهوم البيت – البيت والمخيم والوطن – والتي سبق أن ذكرتها. أعتقد أن الطلب من النساء اللاجئات رواية قصصهن عن البيت سيستحضر إلى دائرة الاهتمام مساحة أخرى من تجارب اللاجئين والتي قد تكون قصص متكررة في حياة الأشخاص. ويمكنني وصف وسيلة البحث التي ستستخدم بأنها أحاديث موجهة، تميل إلى استدعاء بعض سير الحياة المستقلة،على أن موضوعها الأساسي البيت بمستوياته المختلفة؛ حيث تتداخل فيها اللحظات المختلفة من حياة الراوي. وبما أن نفوذ النساء في مجال بناء البيوت وإدارتها يأخذه الرجال إلى حد كبير وكأنه أمر محتوم، أتوقع أن يكون هنالك ضرورة لتوجيه انتباه النساء المتحدثات إلى التركيز على دورهن في بناء البيت والعائلة  والمحافظة عليهما وذلك بغرض التنقيب عن المشاعر حول بيوت الماضي وبيوت الحاضر وحول الروابط الداخلية مع بيت الأسرة والمجتمع المحلي والموطن الأصلي وكذلك معايير مشاعر المتحدثين حول البيت. إن عملية التوثيق المنشودة يجب أن تشجع المتحدثين على التأمل في تجربتهم وذلك بهدف الغوص إلى أبعد من المستوى التقليدي أو خطاب الدعاية السياسية. أعتقد أنه سيكون مهما المقارنة بين مجموعة المتحدثات المتوفرة وتبيان المفارقات ونقاط التشابه بين القصص عن بيوت النساء اللاجئات في الضفة الغربية وفي لبنان من جهة وبين النساء الشابات والنساء الأكبر سنّا من جهة ثانية وبين النساء والرجال من جهة ثالثة.

______________________________
المراجـــع:

      Anannya Bhattacharjee (1997), "The Public/Private Mirage; Mapping Homes and Undomesticating Violence Work in the South Asian Immigrant Community" in Jaqui Alexander and Chandra Mohanty eds. (1997), Feminist Genealogies, Colonial Legacies, Democratic Futures. New York: Routledge
    *

      Rema  Hammami (2005) "Gender, Nakbe and Nation: Palestinian Women's Presence and Absence in the Narration of 1948 Memories" Review of Women's Studies vol 2.
    *

      Islah Jad (2004), "Women at the Cross-Roads: The Palestinian Women's  Movement Between Nationalism, Secularism, and Islamisim, PhD dissertation, SOAS, London 2004.
    *

      Mary Layyoun (in Nationalisms and Sexualities)
    *

      Joseph Massad (1995), "Conceiving the Masculine: Gender an Palestinian Nationalism" Middle East Journal vol 49 (3) Summer.
    *

      Roger Zetter (1991), "Labelling Refugees: Forming and Transforming a Bureaucratic Identity", Journal of Refugee Studies vol 4 (1).

_______________________

د. روزماري صايغ هي عالمة انثروبولوجيا وباحثة في مجال التاريخ الشفوي. لصايغ العديد من المقالات والإصدارات البحثية حول اللجوء الفلسطيني.