شهــادات حيــة تحــاول تسليــط الضـــوء على دور نســاء الريــف الفلسطينــي حتــى النكبــة

بقلم:رنيــن جريـــس

في هذه المقالة، سأحاول أن أخط تجربتي مع التاريخ الشفوي لنساء الريف الفلسطيني. فالتاريخ الاجتماعي والإنتاجي لنساء الريف الفلسطيني وتجاربهن قد يكون شبه غائب عن رفوف مكتباتنا العربية وعن سجلات التاريخ، في وقت تركزت فيه معظم دراسات المرأة حول نساء النخبة ونساء الطبقة الوسطى المتعلمة وعلى دورهن السياسي والاجتماعي والثقافي على مدار التاريخ الاستعماري وعبر التحولات المجتمعية الهامة، متجاهلة نوعا ما المؤسسات المجتمعية غير الرسمية وغير المرئية وأدوار الطبقات الأخرى والنوع الاجتماعي وتأثيرها على صيرورة هذا التاريخ.


وبرأيي، فإنه من غير الممكن فهم الاقتصاد الفلسطيني والتاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي ما قبل نكبة فلسطين في العام 1948، دون التطرق الى أدوار النساء عموما ومنهن نساء الريف. وقد بدأت في الآونة الأخيرة محاولات تعتمد على التاريخ الشفوي أساسا، بدأت بسد هذا النقص، سواء في إعادة كتابة التاريخ من منظور إجتماعي (طبقي) أو من منظور النوع الاجتماعي، حيث تظهر الأدوار التي قامت بها النساء (جاد، 2003). سأحاول هنا التركيز على النشاط الانتاجي الاقتصادي لنساء الريف وذلك اعتمادا على مقابلات أجريتها مع بعضهن، يسردن فيها تجاربهن الحياتية ونشاطات عمل الأسرة بشكل عام والنساء بشكل خاص.

 

مــا قبــل النكبـــة

حول نشاط النساء الزراعي، تقول خزنة سمعان وهي مهجرة من قرية سحماتا: "إيد الزلمه والمرا مع بعض، كنا نزرع دخان، وقمح وعدس وشعير، كرسنة، حلبة، فول، حمص حتى سمسم. بأيامات زرع الدخان يكون الواحد عنده شوية سمسم، يروح يرشهم بين الارض الخفيفة اللي ما منقدر نزرع فيها دخان. بأمايات قطيفة الدخان، كنا نقطف ونشك الدخان ونعلقه بالمساطيح، بهاي الفتره يصير السمسم، نروح نقلعه، ويطلّع الواحد مونته تنكة سمسم او تنكتين".

وتؤكد مرتا سوسان وهي مهجرة من قرية كفر برعم وتقول: "عنا النسوان بتشتغل مثل الرجال وزياده، عنا ما في كسل، متعودين المرا تشتغل مثل الزلمه، تروح مع جوزها ع الأرض وتشتغل، ما حدا بترك أرضه. كنا كمان نروح نحطّب، النسوان كانت تجيب الحطب على راسها ، كل شغلنا كان على النار. النسوان كانت كمان تصنع الطوابين وكوانين النار والمواقد... كنا نتعب كتير".

من خلال المقابلات التي أجريتها مع نساء الريف، لاحظت أن التقسيم الجنسي لنشاطات العمل بين النساء والرجال مرناً نوعا ما، حيث ان هنالك نشاطات عمل كثيرة مشتركة لكليهما ولا تنحصر على احد الطرفين كالحراثة، والزراعة، جلب الحطب والماء، بناء البيوت والبيع وغيرها من النشاطات. كما أن التقاسم الحاد الحاصل اليوم بين المجالين الخاص والعام، لم يكن حينها بهذا الصرامة، فقد كان يتميز بالمرونة الى حد ما وذلك نتيجة للقواسم المشتركة بين هذين المجالين. وتؤكد ميعاري (2005) في دراستها حول أدوار النساء الفلسطينيات الريفيات ببعديها الثقافي والاقتصادي: "تأتي أهمية المرونة في تقسيم العمل، كونها تظهر حقائق تتحدى الأفكار عن التضاد (الأنثى/الذكر) وقدرات كل منهما. فتلك الحقائق تثير الجدل حول ميزات النوع الاجتماعي وأدواره في هذه الفتره من التاريخ الفلسطيني".

وتحدثنا الحاجة رقية الصانع من مدينة بئر السبع: "النسوان كانت تحصد وتشتغل بالأرض والحلال والبيوت. النساء كانت تتعب أكثر من الرجل، كانت تبني البيت الاسمر، بيوت الشعر، تغزل وبعدين تعمل برامه، بعدين نسيج وبالاخر بتخيط البيت". أما تفاحة ناطور وهي مهجرة من قرية عمقا فتحدثنا عن النساء اللبانات وتقول: "كان عنا نسوان لبّانات، اللي كان عنده طرش، معز أو بقر وبده يبيع حليباته كانت النساء تروّب الحليب وتحمل ع راسها وتروح على عكا تبيع، كنا نطلع من الساعة تنتين بالليل مشي ع اجرينا حتى نوصل مدينة عكا الساعة عشره الصبح، نبيع الالبان والاجبان وبعدها نرجع على عمقا".

وتؤكد تفاحة على استمرار الكثير من النساء في العمل حتى في فترات الحمل والولادة، وتقول: "اللي عندها حدا كانت تحط الولد عنده واللي ما عندها حدا توخذهم ع الحصيدة. كانت النسوان تحمل السراير على روسهم ويروحوا على الحصيدة، ع القمح. يا ما اولاد ماتوا، كانوا يتركوا أولادهم ويلتهو بالحصيدة وييجو بعد فتره يلاقوا إشي باخخ عليهم [كالحشرات السامة]. حتى المرا الحبلى كانت تشتغل بالارض ولما تخلّف تروح ترتاح يوم او يومين وبعدها تنزل ع الارض، الناس كانت فقيرة وعايشي ع البركة".

تؤكد الأقوال المقتبسة أعلاه على حرية الحركة والتنقل للنساء، خصوصا في الأسر التي تعتمد على عمل المرأة في الزراعة. حول هذا الموضوع تشير ميعاري (2005) إلى صعوبة الحد والسيطرة على حركة النساء والفصل التام بين الجنسين بسبب الحاجة الماسة لعمل النساء في الزراعة وكونها جزء أساسي في العمل الانتاجي.

لم يقتصر نشاط النساء داخل الوحدة الاسرية الانتاجية فقط، حيث تأثر بالثورات والاحداث المتعاقبة في فلسطين، وفي هذا السياق تشير جاد (2003) إلى الدور النضالي المقاوم لنساء الريف الذي تركز على تقوية الثوار وإطالة أمد الثورة المسلحة، كبناء الحواجز، وإمداد المقاتلين في الجبال بالمؤن الغذائية، استكشاف مواقع وتحركات العدو، رشق الحجارة من على أسطح منازلهن مما ادى في بعض الحالات الى استشهاد بعض النساء على أيد الجنود، إضافة للمشاركة في المظاهرات الاحتجاجية والنشاطات العسكرية. لقد كان إعداد الطعام للثوار وجيوش الإنقاذ عملا شاقاً تذمرّت منه العديد من النساء، وحدثتني عن هذا مرتا سوسان وهي مهجرة من قرية كفر برعم قائلة: "جيش الإنقاذ ما كان ينام عنا، كان ينام بمعسكرات الجيش، بس كانوا يشرطوا علينا كل بيت يعطي حمل حطب [ما يستطيع المرء حملهُ] وتخبز المرا كمية طحين. كل يوم كنا نخبز 15 كيلو خبز ونجيب حمل حطب، والله انا واخوي كنا صغار، امي كانت مريضة وما تقدر تروح، واحنا كنا نروح نحطبلهم من الوعر . غصبن عنا، مش بخاطرنا، هيك كانوا يفرضوا علينا". وتضيف غوسطا دكور من قرية ترشيحا: "كنا نطبخ للثوار وكانت النسوان تروح على الجبال توّدي اكل، بس كمان الثوار كانوا ييجيو عنا على البيوت، كل مرّه بختاروا بيت عشان يتغدوا او يتعشوّا فيه، بتذكر انه كنّا نحضرلهم كتير اكل".

نكبـــة فلسطيـــن 1948

تتحدث النساء بفخر عن المساعدات الانسانية التي قدمتها للاجئين، حيث سارعن الى تأمين المأوى والطعام للمهجرين. وتتحدث نديمة طنوس من قرية المكر في هذا السياق: "لما صارت الحرب أجو عنا على القرية كتير لاجئين من البروة والمنشية، في البداية حضّرنالهم الكنيسة والجامع حتى يناموا هناك، وكانت نسوان البلد تلتقي وتحضر أكل للأطفال والكبار. بتذكر أنه كل يوم كنت أحلب البقرات وأعمل ألبان وأجبان ونروح ع الكنيسة عشان نطعمي اللاجئين. نسوان البلد كانت تعجن وتخبز كل يوم وتبعث للكنيسة والجامع، أجو عنا كتير لاجئين وما كنا ملحقين".

وكما كان للمرأه الدور الأساسي في الأعمال المنزلية وتربية الأطفال، نرى بوضوح هذا الدور المسؤول عند التهجير، حيث أخذت المرأة على عاتقها مسؤولية تأمين الطعام والملبس لأسرتها. وفي هذا السياق تحدثنا خزنة سمعان المهجرة من قرية سحماتا: "أنا كنت عم بخبز رقيق وبعدني ما كملت الخبزات، أجت جارتنا، وجابت خمس أرغفة وخبزتهم عنا، قلتلها يا جارتنا بلاهم، قالت لا يا جارتنا، الدنيا فيها موت وحلى، حطتهم بين الخبزات، حسّت إنه في خطر. قمت عن الخبز، تركت العجين، بعد ما خبزت سبعة او ثمانية ما بذكر قديش، يمكن عشر أرغفة، وأخذت الخبزات مع الطبق، فتت ع البيت عشان أطول شرشف من الخزانة، ما قدرت أدعس، الدخان كان مثل الغنم مرمي على الأرض من حم الطيارة. بصعوبة دعّست وأخذت شرشف ولفيّت الخبزات، وحملتهم على راسي لفسوطه، عشان بدي اطعمي اخوتي الصغار، كل عمري خايفة على اخوتي. أختي شو عملت، أختي كانت تحب الحياكة، طلعت على السدّة، أخذت بطانية وكفتت الحياكة، حياكة المناديل، التنتنه للشلحات، روس المخدات، كفتتها وأخذتها اللي أجا برا ضللو بسحماتا واللي اجا بالبطانية اخذته معها".

وكما أخبرتني غوسطة دكور من قرية ترشيحا: "يا عمي إحنا كنا واعيين، لما أجت الطيارات أجت ع الساعة خمسة الصبح ضربت، هاي الغارة اللي تضرر فيها كتير قمت أركض، عجنت شوي عجين عشان ناخذ خبز معنا، صرت أحط كل رغيفين سوا". وحول الأثمان الباهظة التي دفعتها النساء أثناء أداءها هذا الدور الشاق، حدثتني تفاحة ناطور المهجرة من قرية عمقا: "ياما أولاد ماتت وهي طالعة مع أمهاتها، اللي حاملي ولدين وثلاثة، وحاملي ملابس وأكل وأغراض، كيف بدها تدبر حالها؟، في وحده ناسي ابنها بالسرير وحاملي مخدّه. بتذكر واحنا طالعين من عمقا، تعبت بالطريق ووقفت، اجت امي وسحبتني بالقوه من شعري". وتضيف تفاحة عن المخاطر اللي واجهتها لتأمين الطعام لعائلتها: "لما تهجّرنا على يركا، كنت أروح لحالي على عمقا عشان أقطف من أرضنا بامية وذرة وكوسا وبندورة، لما طلعنا الارض كانت مزروعة. وحياة الله، مرّة وأنا بعمقا طخّ اليهود علي، وأجت الرصاصة بقلب سلة الخضرا. كنا كتير مرّات نيجي بالليل ع عمقا عشان نوخذ أغراض من بيوتنا، زيت، سميدة، قمح، رز، سكر، طحين... بس لما يشوفونا اليهود يصيروا يطخّوا علينا".

وكما ركزّت النساء اهتمامهن بالحفاظ على الوحدة الأسرية في ظل العدوان والتهجير، أخذت الكثير من النساء على عاتقهن إعادة الرجال والأبناء الذين هُجّروا أو رحلوا إلى الدول المجاورة متحديات المخاطر التي قد تواجهنها في الطريق من ألغام وإعتداءات. وحول هذا حدثتني غوسطة دكور من قرية ترشيحا: "كانوا الشباب يخافوا، راحوا إخوتي ع لبنان، راحت خالتي وجابتهم كلهم بليلة وحدة قبل ما يعملوا القسايم [بطاقات الهوية الإسرائيلية]، وقتها كانت النسوان تطلع تجيب الرجال من لبنان، لأنه الرجال كانوا يخافوا يطلعو أحسن ما يطخوهم. كان في وحده إسمها أم ركاد، هاي أم ركاد كانت تروح ع لبنان وتهرب من هناك كل شي، رز... سكر... عرق، وكانت عايشة من هاي الشغلة".

لم يتجمد تراثنا الفلسطيني وثقافتنا الشعبية عند التهجير بل سارعت النساء الى تأليف الأغاني التراثية وتجنيدها للتعبير عن مشاعر الغربة والفقدان التي تغلغت الى أبسط تفاصيلهم الحياتية تاركة جرحاً عميقا لا يندمل. فقالت لي خزنة سمعان باكية:

"والصبر يا مبتلي والصبر يا أيوب

والصبر جبتو معي حتى ينمحى المكتوب

والصبر جبتو معي من يوم هجرتنا

وحجارة الدار يا يما تبكي يوم فرقتنا

نزل دمعي على خدي وهوّد

ع اللي رحل من سحماتا وما عوّد

يا رايح ع لبنان هي يا معوّد

سلّم ع اهل بلدنا وع الصحاب

رحت صوب سحماتا حتى اسلي همومي

لقيتها خالية ومليانه هموم

سايرتك يا سحماتا وين اهاليك وعمومي

هدوك هاجروا وما منهم حدا

نزل الدمع على خدي غريبة

وتبكي العين على خدي عشانها غريبة

يا ربي لا تموتني غريبة

إلا غير بين أهلي والصحاب

ودمعي يا يما على خدي وحابس

وشبه السيل بالوديان حابس

امانه يا يما ان متت حطوني بنواعش

واقبروني بالوطن على دروب الحباب".


وعليه أعود لأؤكد أنه لا يمكننا فهم التاريخ الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي بجميع أبعاده، بمعزل عن تجارب النساء التي تعتبر مكوناً اساسياً في صناعة التاريخ. ولا يمكننا ايضاً فهم العلاقات والأدوار الجندرية بمعزل عن التطورات السياسية والتأثير الكولونيالي على المنطقة، وهنا تكمن اهمية التاريخ الشفوي كما اشارت ميعاري (2005) في تفكيك القيم السائدة، وإعادة صياغة قيم جديدة تسمح بالتكامل والتوافق بين تجارب النساء والرجال.
________________________________
مصادر
جاد، إصلاح. "المرأه والسياسة- مفهوم الدور السياسي الرسمي والغير رسمي". دراسات وتقارير حول وضعية المرأة الفلسطينية، المجلد الاول، 2003.

ميعاري، لينا. أدوار النساء الفلسطينيات الريفيات ببعديها الاقتصادي والثقافي بين الاعوام 1930-1960 "قرية البروة نموذجاً". جامعة بير زيت، معهد دراسات المرأة. 2003.

________________

رنين جريس هي ناشطة نسوية ومركزة مشروع التاريخ الشفوي في جمعية زوخروت (ذاكرات) ومقرها في تل أبيب.