جريمـــة العصــر فــي لبنــان وفلسطيــن

بقلم:  د. سليــم الحـــص

يُحكى عن جرائم في حق الإنسانية، تُسمى إرهابًا. وما تعرض له لبنان منذ 12 تموز 2006  كان شريطًا لجريمة من أفظع الجرائم التي تُرتكب ضد الإنسانية، متميّزة بحجمها واستهدافاتها والأدوات والأساليب المستخدمة في تنفيذها، وكذلك بأصدائها وارتداداتها على مراكز القرار في العالم وردات الفعل حيالها داخل بلدنا وفي الجوار العربي كما في سائر أقطار العالم.

المنطلق كان عملية فدائية نظيفة: فريق من المقاومين من حزب الله يجتاز الخط الأزرق في الجنوب اللبناني فيهاجم آلية عسكرية إسرائيلية فيُردي بعض أفرادها ويلقي القبض على جنديين يعود بهما أسيرين برسم المبادلة مع أسرى لبنانيين في السجون الإسرائيلية بينهم سمير القنطار الذي انقضى على وجوده في غياهب المعتقلات الصهيونية 27 سنة، ولا أمل يُرجى في الإفراج عنه في الأفق المنظور. كان يمكن أن يقضي ورفاقه بقية العمر في السجون الإسرائيلية.


أعلنت إسرائيل، ومعها حليفتها أميركا، أن ما جرى هو بمثابة عمل حربي أو إعلان حرب. فأطلقت آلة الإبادة والتدمير الجامحة في وجه لبنان واللبنانيين، فسقط مئات القتلى في صفوف المدنيين، بينهم الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة، وكان تدمير منهجي للمرافق والبُنى التحتية فما سَلِم جسر أو طريق أو مزرعة أو معمل أو شاحنة أو سيارة إسعاف، وانصبّت الحمم على الأحياء الآهلة فقوّضت المنازل على رؤوس قاطنيها، واستهدفت هوائيات وسائل الإعلام للحؤول دون وصول صور ما يدور من فواجع إلى مرأى العالم. فإذا بالقتلى في صفوف العزّل الأبرياء الآمنين بالمئات، وإذا بالجرحى بالألوف، منهم من قضى تحت الأنقاض ومنهم من لم يحظ بالوصول إلى مستشفى أو مستوصف أو الحصول على أدنى عناية طبّية. وإذا بالمهجّرين من منازلهم بمئات الألوف نازحون إلى حيث لا يعرفون، طلبًا للنجاة، بعضهم يأوي في العراء، وبعضهم في مبانٍ مدرسية وبعضهم في مبان مهجورة، يفتقرون إلى لقمة العيش وشربة المياه والدواء، وكثير منهم يفتقد أنسباء وأصدقاء لا يدرون ما حلّ بهم.

سرت بين الناس في لبنان أقاويل تُحمّل المقاومة، حزب الله، مسؤولية الكارثة التي حلّت. فلولا خطف الأسيرين لما كان ما كان. وكان في هذه الأقاويل ضمنًا تبرير وأعذار للعدو الإسرائيلي في ما ارتكب من جرائم في حق الإنسانية. وبعض الدول المحابية لإسرائيل والمتربّصة بلبنان سمّت العملية عملاً حربيًا أو إعلان حرب.  عجبًا! كان لبنان قبل الحادثة يتعرّض بوتيرة شبه يومية لاعتداءات يومية من جانب سلاح الجو الحربي الاسرائيلي، فيخرق جدار الصوت ويروّع الآهلين ويصوّر ما شاء أن يصوّر من المنشآت والمرافق اللبنانية استعدادًا لمثل العدوان الذي يشنّه علينا في اللحظة التي يختارها.  وهتكت ساحتنا الداخلية بشبكات تجسس ارتكبت جرائم منكرة في لبنان بهدف إشعال الفتن، وقد وضع الجيش اللبناني يده على شبكتين منها تمتلك تجهيزات متطورة.

وما كنا نسمع مسؤولاً في العالم المتحضّر يستنكر الخروقات الإسرائيلية، أو يبدي حراكًا لوقفها. وما كان مسموحًا للبنان تقديم شكوى بها أمام الأمم المتحدة. فالدولة العظمى بالمرصاد، جاهزة للحيلولة دون طرح الشكوى أو تعطيل مفعولها باستخدام حق النقض ضد أي قرار قد يصدر بإدانة الدولة العبرية.  وكانت مياهنا الإقليمية معرّضة دومًا للانتهاك من أسطول إسرائيل البحري يوميًا. ولبنان ساكت ليس من حقه أن يشكو أو يتظلّم.

إلى كل ذلك بقيت إسرائيل رابضة فوق أرض تحتلها في مزارع شبعا ونقاط أخرى، متذرّعة بفنّيات أخرجت تلك المناطق من حيّز القرار 425 الذي أعلن مجلس الأمن إتمام تنفيذه عند التحرير في عام 2000 وأدخلتها في حيّز القرار 242 بحجة أن تلك الأراضي احتُلّت في الظروف التي احتلت فيها إسرائيل الجولان السوري عام 1967 ولم تحتلها مع احتلال الجنوب اللبناني عام 1978 فيما سُمّي عملية الليطاني، ولذلك فهي تخضع للقرار 242 ولا تخضع للقرار 425 . هكذا كان لبنان، ولا يزال، في حالة حرب مع إسرائيل وكانت بعض أرضه محتلّة، وكان يتعرّض لاعتداءات شبه يومية جوًّا وبحرًا وأحيانًا برّا. وما كان العالم يرى في شيء من ذلك عملاً حربيًا أو إعلان حرب. خطف الجنديين الإسرائيليين فقط كان عملاً حربيًا وبمثابة إعلان حرب.

قيل إن خطف الجنديين كان خطيئة تسببت بكل هذه الكوارث. أما الحقيقة فهي أن لا سبيل إلى تحرير الأسرى اللبنانيين إلا بالتبادل. وإسرائيل لا تعفّ عن التبادل. فقد سبق أن أجرت عمليات تبادل مع حزب الله غير مرة في الماضي، بادلت فيها أسرى بأسرى لا بل أيضًا أسرى بجثث لقتلى إسرائيليين.

خُطف جنديان إسرائيليان فكان ما كان من كوارث صُبّت على لبنان. ماذا لو قتل مجرم لبناني أحد الإسرائيليين؟ ماذا كان سيحصل؟ هل يُباد شعب لبنان وتُدمّر منشآته ومرافقه وممتلكاته في المقابل؟ هل كانت عملية قتل، يشهد العالم مثلها يوميًا في كل مكان، ستكون سببًا لعقاب جماعي يتعرّض له الشعب اللبناني بمنتهى القسوة والوحشية؟

والواقع أن أحدًا لم يقتل، بل وقع جنديان في الأسر بقصد المبادلة مع أسرى لبنانيين في المعتقلات الصهيونية. وقد تعهّدت الحكومة اللبنانية القائمة في بيانها الوزاري العمل على تحرير الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، ولكنها لم تستطع شيئًا في هذا السبيل.  لا يجوز للبنان أن يأسر جنديين من أجل مبادلتهما، فيما إسرائيل تحتفظ بأكثر من تسعة آلاف سجين عربي، بينهم فتيات وأحداث، وبينهم مواطنون من شتى التابعيات العربية، وبينهم لبنانيون.  

اختطفت المقاومة الفلسطينية جنديًا إسرائيليًا، في عملية فدائية نظيفة لم يُصب فيها مدني يهودي واحد بأذى، والجندي كان يرابط على حدود غزّة يمارس في حق أهل الأرض كل ألوان المضايقة والتنكيل وحتى التجويع. فكان هذا أيضًا في نظر العالم المتحضّر عملاً حربيًا لا بل إعلان حرب. فإذا بقطاع غزّة يتعرّض لعدوان إسرائيلي غاشم هتكت فيه الدولة العبرية حقوق الإنسان بأبسط مفاهيمها وارتكبت من الجرائم في حق الإنسانية ما لا يوصف. كل هذا مبرر بأسر جندي يُراد مبادلته بأسرى فلسطينيين من الفتيات والأحداث .

هكذا، كما في لبنان، كذلك في فلسطين. والحكّام العرب في الحالتين أكثرهم غافلون أو غير عابئين أو متواطئون .الجرائم التي تنفّذها إسرائيل في لبنان وفلسطين تندرج في باب العقاب الجماعي لشعب بأسره، وهذا من المحرّمات في القانون الإنساني الدولي، تحظّره اتفاقيات جنيف لعام 1949 التي وقّع عليها لبنان كما وقّعت عليها إسرائيل. وإسرائيل تنتهك حقوق الإنسان بأبسط مفاهيمها في كل ما ترتكب من جرائم ضد الإنسانية. مع ذلك فالعالم يتفرّج. ولا يُبدي حراكًا. أمّا الدولة العظمى، أميركا، التي تعطي العالم دروسًا يومية في القيم الحضارية، وتحديدًا في الحرية والديموقراطية والعدالة وسائر حقوق الإنسان، فإنها تشجع إسرائيل وتحرّضها على المضي قدمًا في حربها الشعواء على لبنان، أو في جرائمها المنكرة ضد الإنسانية، ونسمع الرفض لوقف إطلاق النار من مسؤولي الدولة العظمى. فإذا بالمندوب الأميركي الدائم في الأمم المتحدة جون بولتون يقول تكرارًا: لم يحن أوان وقف النار.  وإذا به يقول أيضًا أنه لا يجوز "أخلاقيًا" المساواة بين ضحايا القصف الإسرائيلي من اللبنانيين وبين ضحايا القصف اللبناني من الإسرائيليين. كأنما الإسرائيليون من بني البشر أما اللبنانيون فمن البعوض. وصاحب هذا الرأي، ويا للمفارقة، حظي منذ فترة من الزمن بتكريم من فريق لبناني أهداه درع الأرز على إنجازاته.

 
المأساة اللبنانية وحّدت بين اللبنانيين. كان القصد من الحرب إثارة فئات لبنانية على فئات أخرى توصّلاً إلى إشعال فتنة، على غرار ما هو حاصل في العراق الشقيق، أملاً بتعميم الانقسام والفتنة على المنطقة العربية برمّتها. يسمون ذلك الفوضى البنّاءة أو الخلاقة، ويجدون فيها السبيل إلى تفتيت شعوب المشرق العربي وصولاً إلى إعادة لمّها في ما يُسمى شرق أوسط كبيرًا أو جديدًا يرمي إلى القضاء على رابطة العروبة نهائيًا من جهة وتسليط إسرائيل على المنطقة بأسرها من جهة ثانية.


برهن الشعب اللبناني بصموده وصبره وتشبّثه بأهداب الوحدة الوطنية أنه ليس لقمة سائغة. فالمقاومة للعدوان كانت أسطورية، والتضامن الوطني في مواجهة المحنة بين شتى الفئات كان رائعًا. والوحدة الوطنية هي أقوى من قنابلهم النووية.  وكان التضامن العربي مع لبنان في محنته رائعًا على مستوى الفرد العربي والشعوب العربية. أما الحكّام العرب فبعضهم لم يكن على مستوى المسؤولية والبعض الآخر، ومنها دول لها وزنها دوليًا، كانت إما متخاذلة أو متواطئة.  اجتمع وزراء الخارجية العرب ليختلفوا. ولم يجد الحكام العرب حاجة لعقد قمة عربية توحّد الموقف في الضغط على المجتمع الدولي لإنقاذ لبنان وفلسطين من براثن الوحش الإسرائيلي. ولمّا بلغت المأساة أقصاها، بدأنا نسمع من بعضهم دعوات ولو متأخّرة لوقف النار وإقامة ممرات للإغاثة والنجدة الإنسانية.

____________________

د. سليم الحص هو رئيس مجلس الوزراء اللبناني الأسبق. ورد هذا المقال في جريدة "السفير" الصادرة في بيروت، في 29 تموز.