التاريــخ الشفــوي: صيــاغة روايــة أدبيـــة

بقلم: سلمــان ناطــــور

عــن رحلتــي مــع الذاكــــرة

بدأت رحلتي مع الذاكرة الفلسطينية وتاريخنا الشفوي عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري، وبعد حزيران 1967، حين قدم إلى بيتنا شيخ من مخيم جنين وفتح خزانة صغيرة كانت مغلقة، وقد منعنا نحن من الاقتراب منها، وأخرج منها قلادة وكوشان أرضه في عين غزال التي شرد منها عام 48 وفي الطريق ترك الخزانة أمانة عند جدي ليعود إليها بعد حوالي عشرين عاما.

 هذه الخزانة وهذا الشيخ دفعاني دفعا للنبش في التاريخ والذاكرة؛ كيف حدث التشريد؟ ما هو مصير القرى المهجورة؟ أين ذهب هؤلاء الناس؟ أين يعيشون وكيف؟ متى يعودون؟ ما معنى اللجوء والعودة؟

لم نكن لاجئين؛ فما تركنا بيتنا وأرضنا، ولكن اللجوء كان في عقر دارنا! فقد لجأت عائلة أبو الهيجا من عين حوض إلى بيت جدي وبقيت عشر سنوات إلى أن عادت إلى أراضيها المطلة على القرية التي يحتلها الفنانون الإسرائيليون.

 لم أفهم فيما إذا صاروا لاجئين عندما عادوا إلى قريتهم أم عندما كانوا عندنا، فقد صرت أتعاطف معهم عندما زرتهم ووجدت أنهم يسكنون في براكيات وليس في بيوت من حجر، كما كانوا عندنا، ولم يحدثني أحد عن اللجوء حين كنت صغيرا.

أعترف أنني ذهبت إلى الذاكرة الفلسطينية حاقدا على الذين أخفوا عني، في البيت وفي المدرسة، ما حدث عام النكبة. كان ولا يزال همي الوحيد أن أستخرج المزيد من الحكايات، حكايات الأفراد، حكايات أناس لهم أسماؤهم وعوالمهم ومشاعرهم وذاكراتهم، أناس كانت لهم حياة وفجأة توقفت ثم تواصلت في مكان آخر وزمان آخر رغما عنهم.

هذا الحقد على الذين أنكروا النكبة جعل عملية النبش في الذاكرة حالة استحواذ لم أخلص منها حتى عندما كتبت وكتبت وكتبت دون توقف، وكلما سجلت أكثر، زاد نهم الإصغاء والتسجيل والتدوين؛ لأن جمع التاريخ الشفوي هو سباق مع الزمن، أو مع الموت أو مع رحيل آخر لمن كان رحل من وطنه؛ انه الرحيل من هذا العالم. ومن يرحل يأخذ ذاكرته معه، أي يأخذ الحكاية.

 بدأت قبل أكثر من ثلاثين عاما رحلة النبش في الذاكرة لاستخراج الحكاية، بعد أن توفي جدي وأخذ كل الحكايات من أيام السفربرلك. لم أسجلها على الورق ولا على أشرطة، وما ظل عالقا في ذهني يظل ناقصا ومشوها.

ذهبت في البداية إلى أبناء جيله ممن ظلوا على قيد الحياة. كانت لهم حكاياتهم وذاكراتهم. أدركت أن هذا التاريخ هو مجموعة ذاكرات. تحررت من عقدة البحث عن الحقيقة، وصرت أبحث عن جمالية الحكاية، عن العبرة والمغزى، صرت أتمعن أكثر بشقوق الوجه وارتجاف الشفتين، صرت أصغي إلى النبرة والى وقع الكلمات، صارت تأخذني الجملة الغاضبة والشتيمة التي تعقبها نكتة وشتيمة أخرى وضحكة ملء الشدقين ودموع لا تعرف إن كانت حلوة أو مالحة، وفي لحظة يتوقف الشيخ مشقق الوجه ويقول: لمين عم تكتب، هو عاد ينفع الحكي؟

اعتقدت في ذلك الوقت أنها رحلة سهلة وأن الشيوخ الذين عاشوا النكبة ينتظرون أناسا مثلي ليفرغوا لهم ذاكرتهم، وهم يفعلون ذلك مع أبنائهم وأحفادهم، لكنني فوجئت حين اصطدمت برفض قاطع! جيل النكبة يرفض الحديث عن النكبة. "لماذا نفتح جراحا عميقة؟" كان بعضهم يقول ويعتصم عن الكلام. كان يصعب الحوار معهم لأنه يبدو أنهم لم يستيقظوا من هول الصدمة حتى بعد ثلاثين عاما. كثيرون رفضوا التحدث عما جرى لهم ليس لأن الجرح عميق، بل لأنهم كانوا يخافون من معاقبة الحاكم العسكري. إن عشرين عاما من الحكم العسكري البغيض أدخل رعبا في قلوب هؤلاء الناجين من النكبة لدرجة أنهم كانوا يتصورون أن عين الحاكم ترقبهم وأن كلامهم ينقل ببث حي ومباشر إلى الحاكم وأنه سيأتي لاعتقالهم أو لمصادرة أرضهم أو سيقطع عنهم مخصصات تأمين الشيخوخة. نعم رفضوا التحدث وكان علي أن أتنازل عن كل الوسائل العلمية لجمع الشهادات، عن المسجل وعن الاستمارة وعن كل الوسائل التي يتطلبها البحث العلمي، جندت معي أولادهم وأحفادهم، وكتبت ملاحظات ودونت أحاديثهم على الورق، وكنت أقسم لهم أنني لن أنشر أسماءهم ولا أسجل أصواتهم. كان اللقاء يأخذ طابع السهرة والعودة إلى الماضي بلا منهجية مرهقة، الكل يسأل والكل يشارك والكل يتكلم حتى إذا تحرر المتكلم من القيود انطلق يسرد الحكاية تلو الحكاية وعندها تكتشف هول المأساة من جهة والقدرة على تحملها من جهة أخرى، انه جيل يعرف كيف يسخر من القدر، السخرية أصبحت سلاحه والصبر صار المصدر الأول لطاقته على تحمل الحياة، وان كان هذا الجيل فقد الأمل بكل شيء إلاّ أنه لم يفقد الأمل بالعودة، يطمئنك في نهاية اللقاء انه لن "يضيع حق وراءه مطالب".

التاريخ الشفوي، خلافا للتاريخ المكتوب والموثق، يعنى بتدوين الحكاية كما يرويها صاحبها. الحكاية لا تخضع للرقابة ولا لمقاييس الغلط والصواب، ففي أحيان كثيرة تكمن أهمية الحكاية بالمبالغة والتضخيم والابتعاد عن الحقيقة. هناك كثير من الحكايات التي تتحول إلى ما يشبه الخرافات والأساطير، إنها تعبير عن حالات عاطفية ووجدانية، وهي تتكرر بنصوص مختلفة لدرجة أنه لا يعنيك فيما إذا وقعت الحادثة فعلا، بل كيف تروى وما هو المغزى منها.

 إن حكاية الرضيع الفلسطيني الذي تركته أمه في سريره وهربت والتي بنى عليها غسان كنفاني روايته "عائد إلى حيفا"، هذه الرواية تسمعها في كثير من القرى والمدن الفلسطينية بصيغ مختلفة منها أن الأم هربت خوفا ورعبا في وجه الجنود الصهاينة ومنها أنها حملت الوسادة بدلا من أن تحمل الطفل لكن جميع الصيغ تأتي لتبرز حالة الرعب التي دبت بالناس عندما وصلت القوات اليهودية. ومثلها الطبيخ الذي كان على النار في البيوت المهجورة. في الرواية الشفوية لا يهم إذا كان هناك من نسي طفلا في سريره وهذا أمر رهيب بل المهم هو دلالة هذه الواقعة وما تفيده عن حالة الرعب، والأكثر من ذلك، ما تفيده عن الرواية الشفوية التي صارت تصاغ بعد النكبة.

كل الذين التقيتهم في ذلك الوقت كانوا يروون حكاياتهم كما هي في أذهانهم ولم أتدخل ولم أحقق وقد نشرتها كما سمعتها بلغتهم وتعابيرهم. في مطلع كل شهر نشرت حلقة جديدة: بدأت بالمجيدل، رحلة مع شيخ مشقق الوجه، ووصلنا إلى عيلبون وعيلوط ومجد الكروم والبروة والغابسية وسحماتا وحيفا والجلمة ويافا واللد والرملة، كانت مجزرة في كل مكان ولم يتم التشريد إلاّ بارتكاب مجزرة رهيبة، من كل هذه الرحلة تلقيت إجابة شافية على السؤال الذي يطرحه جميع الأبناء على آبائهم من جيل النكبة: لماذا هربتم؟ لماذا لم تقاوموا؟

لا تلوموا الضحية! هذا الجيل ليس مسؤولا عن نكبته ولا عن تشرده، لقد هربوا لينقذوا حياتهم وحياة أبنائهم، لأن الخيار كان إما حياة التشرد وإما الموت في البيوت، وهذه هي الرسالة التي وصلت إلى كل فلسطيني من دير ياسين.

كان أسلوب القوات الصهيونية واضحا وممنهجا: الدخول إلى القرية، تجميع الأهالي في الساحة ، اختيار مجموعة من الشبان (عادة من المطلوبين)، إطلاق الرصاص عليهم على مرأى أو مسمع الأهالي، تحذير الأهالي من البقاء في القرية حتى ساعات المساء، وفي أحيان كانت تطلق هذه القوات النار عشوائيا فتقتل ثلاثة أو أربعة من الأهالي ليدب الفزع في قلوب الناس، كل ذلك على خلفية الصور الفظيعة لمجزرة دير ياسين التي نقلتها وسائل الإعلام العربية والبريطانية والصهيونية أيضا.

كل الذين التقيتهم كانوا ينهون حديثهم بقولهم: افعلوا كل شيء لكي لا يتكرر ما حدث عام النكبة، وفي كل عدد كنت أنقل هذه الوصية على صفحات الجديد ولمدة عامين تقريبا إلى أن أتعبتني الحكاية فقررت أن أوقف المسلسل في أيار 1982 على أمل أن تكون الرسالة وصلت إلى الناس والى ضمير العالم، ويستطيع الشيخ مشقق الوجه أن يفارق الحياة وهو مطمئن إلى أن ما حدث عام 1948 لن يحدث عام 1982، ولم يجف حبر الكلمات ففي حزيران من نفس العام زحفت الدبابات الإسرائيلية إلى المخيمات في جنوب لبنان إلى أن وصلت إلى صبرا وشاتيلا وتكرر ما حدث في النكبة الأولى، وبشكل أفظع وأعنف وعادت مشاهد التشريد والرحيل والقتل الجماعي.

حالة سيزيفية رهيبة، لم تتوقف عند ذلك العام فبعد عشرين عاما عادت مشاهد القتل والتدمير إلى جنين ونابلس وغزة وبيت لحم والمخيمات، ووقع كل شيء إلاّ الرحيل. لم يرحل أحد من بيته ولا أرضه ولا مخيمه ولا قريته. لعل هذه هي العبرة الأهم من حفظ الذاكرة.

ربما الانشغال بالتاريخ المكتوب والمدوّن والموثق والعلمي الأكاديمي يحتاج إلى تخصصات ومهارات أكاديمية، وهذا أمر ضروري ويجب أن يطور في الجامعات ومعاهد الأبحاث لأن شعبنا الفلسطيني سيحتاج إليه في عملية المحاسبة التاريخية والتعويض عن آلامه ومعاناته وتأكيد ملكيته للأرض والوطن. وفي البحث العلمي لا مجال لتكريس الخطأ بل للدقة والصواب، وهذا البحث العلمي هو جزء هامشي من الذاكرة الشعبية لكنه الجزء المركزي من التاريخ المكتوب.

الذاكرة الشعبية هي الرواية الشفوية القائمة على الحكاية الشعبية وعلى المشاعر وعلى الوجدان، وعلى الحس الإنساني البدائي، وعلى النكتة، والسخرية، وعلى الدمعة، والآهة، والغصة، وعلى الشتيمة، وعلى الضحكة، وعلى اليد الراجفة، والسيجارة التي تحترق بين الأصابع، وعلى القمباز والديماية، وعلى اصفرار ورقة الكوشان، وعلى رائحة الحصاد والبيدر، وعلى خراريف الصيف، وعلى "شاب تغرب وختيار ماتت اجياله"، وعلى الوعظ والتنبيه والحكمة والمثل الشعبي.

صيانة الذاكرة تتحقق بجمعها وتدوينها كما هي على لسان الذين كانوا شاهدين على المرحلة أو الذين ورثوها وحافظوا عليها. الذاكرة تشكل مصدر الإلهام للحكاية الفلسطينية الأدبية، وللمسرحية والرواية المكتوبة والفيلم والمسلسل، ولتراث ثقافي وحضاري خالد؛ كلما كان أغنى صار ينبوع فكر وثقافة وإبداع.

  _______________________

 سلمان ناطور هو كاتب وأديب فلسطيني، ومدير معهد اميل توما للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية في حيفا. وهو محرر مجلة قضايا إسرائيلية التي تصدر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار). له أكثر من ثلاثين عمل أدبي.