تأثير الرواية الفلسطينية على الرأي العام الإسرائيلي

بقلم:نورما مويسي

لكي أخوض في مسألة تأثير الرواية الفلسطينية على الرأي العام الإسرائيلي، سأورد حكاية معلمتين يهوديّتين: إحداهن مجهولة الهوية، وتظهر في الصورة المعنونة "في المدرسة تعلم المربية طلابها حدودَ الدولة العبرية". والثانية، هي معلمة معروفة لنا، تدعى أورلي ألكساندر، تدرّس اليوم موضوع الاتصال في مدرسة ابتدائية.

يظهر في الصورة[i] صف، في مدرسة ابتدائية على ما يبدو. تقف المعلمة خلف طاولة عليها غطاء، ووجهها باتجاه الكاميرا، ويداها موضوعتان على الطاولتين كأنّها تتّكئ، أو كأن الطاولة هي التي تدعمها. الطلاب يجلسون وظهورهم إلى الكاميرا ورؤوسهم مرفوعة، كأنّما يشدّ الدرس انتباههم أو ربّما هي لحظة التصوير. خلف المعلمة - امرأة شابّة، ذات ملامح متجهّمة – لوح في أعلى اليمين منه كُتب التاريخ بخط يدوي واضح: "الأربعاء، 20 كانون أول 1948". أشهر قليلة قبل حرب 1948، قبل إعلان قيام دولة إسرائيل، قبل النكبة. وتحت التاريخ كُتبت بخط دائريّ كبير كلمتان تحتهما خط: "دولة عبرية". وعلى بضعة سنتمترات إلى يسارهما، في وسط اللوح، ومن خلف المعلمة، عُلقت خريطة كبيرة هي خريطة "البلاد". في أعلى الزاوية اليسرى من الخريطة كُتب بالعبرية "أرض إسرائيل". وفي الأسفل وبالحجم ذاته كُتب بالانجليزية  Palestine (فلسطين).

هذه الصورة، في نظري، تمثّل واقعًا مركبًا يعيشه المجتمع الإسرائيلي منذ عام 1948 إلى يومنا هذا. وهذه الصورة هي دليل على ما أدّعيه من أن النكبة كانت دائمًا هناك: في خريطة البلاد، في الرواية الإسرائيلية، وفي الصف التعليمي-التربوي. نعود إذن إلى اللوح؛ هنالك نرى بضعة عبارات مكتوبة: "دولة عبرية" (وليس دولة يهودية)، "أرض إسرائيل"، و(Palestine) "فلسطين". تبدو هذه العبارات من وجهة نظر وعينا الحالي متناقضة غير منسجمة. فالمصطلح "دولة عبرية" قد اختفى من الخطاب الصهيوني السائد، ربما لأن "عبرية" تشير إلى علمانية أضعناها. كذلك "أرض إسرائيل – فلسطين" التاريخية، على ضفتي الأردن، لا تظهر بعد كإمكانية واقعية في الخطاب الصهيوني الحالي. وبالطبع فإن "فلسطين" كعنوان للخريطة كلّها، لا يظهر اليوم في أية مدرسة في دولة إسرائيل. ومع ذلك، في ذلك اليوم نفسه – العشرين من كانون أول – فإننا نجد جميع هذه العبارات معًا. وأكثر من ذلك، وعلى ضوء حقيقة أن الصورة التُقطت قبل الحرب، والخريطة أيضًا هي من فترة ما قبل الحرب، فإنّي أتوقّع أنها تشمل البلدات الفلسطينية الـ531 التي جرى هدمها فيما بعد. أي أنه، في تلك اللحظة، وفي ذلك المشهد المصوّر، الموثّق اليوم في أرشيف صور "الكيرن كييمت"، كانت الرواية الفلسطينية هناك: على اللوح، على الخريطة.

بعبارة أخرى، فإنّي أدّعي أن حضور تلك القرى، وحضور فلسطين، كان موجودًا دائمًا في الرواية الإسرائيلية، من يومها إلى يومنا هذا. فالرواية الفلسطينية، هي بمعنى ما، صورة السلب (نيجاتيف) للرواية الصهيونية، هي شبح موجود وغير موجود، مكتوب وغير مقروء، حاضر وغير مرئيّ. النكبة حاضرة في بقايا القرى، في أسماء أماكن ما زالت تعاند، في شجيرات صبّار تعاود النموّ على أطراف الطريق. ولكن الوعي الإسرائيلي كبت النكبة وقمعها. إنها جُرح؛ هي رضّة يرفض المجتمع الإسرائيلي مواجهتها والتعامل معها. وهي تخيفنا، نحن الإسرائيليين. والنكبة ليست مجرّد شبح. إنها شبحُ ميتٍ قريب، قتلناه نحن. إنها شبح لا نريد رؤيته. شبح حميم يعرف أسرارنا المخبّأة في ظلام العتمة: الاغتصاب والطرد والهدم والتخريب. هي شبح يطاردنا، ولذلك نبذل كل تلك الجهود في محاولة لإخفائه. ولكن يبقى السؤال: ماذا يحصل عندما يدهمنا الشبح طارقًا أبوابنا مرافعًا ومؤنّبًا، عندما يخترق وعينا، عندما ينكشف؟

في بداية أيلول 2006، وفي إطار جمعية "ذاكرات"[ii]، دعونا مربّين يهود لكي نجتمع بهم ونفكر معًا في كيفية تعلّم وتعليم النكبة الفلسطينية في المدارس اليهودية في إسرائيل. وكانت فرضية العمل لدى المجموعة، هي أن منهاج التعليم في المدارس الإسرائيلية يركّز على التاريخ القومي واليهودي للبلاد، بينما يتنكّر لماضيها الفلسطيني. وعلى المنوال نفسه، يجري تعليم أحداث 1948 بوصفها "حرب التحرير"، بينما لا يتمّ الالتفات إلى التراجيديا الفلسطينية – النكبة. لقد كتبنا في الدعوة الموجهة إلى المربّين: أن نتعلّم عن القرى وعن النكبة، أن نبدأ بطرح الأسئلة حول مشكلة اللاجئين، هي أمور ضرورية لكي نستطيع كيهود إسرائليين توجيه نظرة نقدية إلى ما يجري، وأيضًا لكي نبدأ، ربّما، في تحمّل المسئولية. لم يكن التعامل مع النكبة على أنها الرواية الفلسطينية للبلاد وحسب، بل على أنها أيضًا الرواية اليهودية للبلاد نفسها. أي أننا اقترحنا تعلم النكبة ليس فقط كحدث فلسطيني وإنما كحدث مؤسس أيضًا بالنسبة لليهود الذين يعيشون هنا؛ كرواية يجب تطوير الأدوات الملائمة للبدء في مواجهتها.

في أعقاب تلك الدعوة، أنشئت مجموعتان[iii]: واحدة في منطقة الشمال والثانية في المركز، وباشرنا العمل. تعلّمت كل مجموعة معًا، مرّة في الشهر وطيلة سنة، محاولة مواجهة الأسئلة المتعلقة بالمدارس اليهودية في إسرائيل. وقد اشتمل العمل ضمن المجموعتين، على: (1) دراسة نصوص مختلفة (مواد في التاريخ، شهادات لاجئين، خرائط، صور وأفلام)، و(2) إعمال الأثر العاطفي لما يجري دراسته، وذلك بواسطة آلية "المواكبة" ضمن مجموعات العمل.

في أحد اللقاءات، وبعد أن استمعنا إلى قسم من شهادات اللاجئين الفلسطينيين، طلبنا من المشاركين كتابة رسالة إلى لاجئ، تكون عبارة عن محادثة متخيّلة بين المشارك واللاجئ المتخيّل. وقد كتبت أورلي الرسالة التالية:

أيتها المرأة العزيزة،


أنا أكتب إليك، ولكني في الواقع أودّ لقاءك. ينقصني رؤية عينيك وسماع صوتك.

أريد أن أسمع قصّتك، أن أحاول احتواء ألمك – أن أطلب غفرانك، أن أعتذر، أن أشرح، أن أفحص معك كيف نصحّح ما كان...

إن ذهني مليء بالصور النمطية التي نشأت عليها، ولكن قلبي هو معك.

أريد أن أقول لك إن ألمك هو ألمي، وإن قصتك هي أيضًا قصة حياتي، وإن الناس الذين طردوك من أرضك وبيتك هم الناس الذين أعيش معهم وبينهم. إن الأرض والبيوت التي كانت سابقًا لك، هي اليوم الأرض والبيوت التي أعيش فيها أنا وأسير عليها أنا.

مالم نتحدّث ونصحّح هذه الوصمة السوداء، ستبقى الكراهية والجهل وظلمة العتمة، ترافقني إلى كلّ مكان، وتعيش معي في كلّ مكان.

المرأة العزيزة، أين أنت الآن؟ كيف تعيشين؟ تعالَيْ نلتقي، فأنا أريد الإصغاء إليك. هل أنت على استعداد لتحكي؟ بعد ذلك سأحكي لك أنا أيضًا. وربّما أبدأ أنا... لدي ابنة، بلغت سنة وثلاثة أشهر. ليتها تترعرع في مكان قد نجح في التصحيح والتطهير. لهذا أنا هنا، لأحاول أن اشق لها طريقًا أنظف. لأجلها ولأجل روحي ولأجل كل الأولاد والبنات الذين أعلّمهم وأحبّهم.

بعد ذلك نفكر سوية أنا وأنت، كيف نجري ذلك التصحيح - إذا أمكن ذلك أصلاً – وما الذي سيكفّر، وماذا سيفرحك.

نفحص امكانية الغفران؟ يا ليت.

أورلي

لقد تعلّمت أورلي – مثلي ومثل إسرائيليين كثيرين – عن حرب 1948 بوصفها حرب الاستقلال، حرب التحرير.  وبالنسبة إلى أورلي - كما بالنسبة إلى إسرائيليين كثيرين – فإن اللقاء مع الرواية الفلسطينية، مع النكبة، هو لقاء مزعزع وفيه كثير من التحدّي. احد ردود الفعل المنتشرة بكثرة، في سياق اللقاء مع النكبة وفي سياقات أخرى ذات علاقة، هو نزع الشرعية عن الصوت الفلسطيني، أو عن حق الفلسطينيين في الشكوى. وكثيرًا ما يظهر الإنكار: ("لم تكن حقيقة الأمر كما يصفون. نحن شعب إنساني!")، أو يظهر التسليم: ("هكذا هي الحروب" أو "لو كانوا هم مكاننا، لكان وضعنا أسوأ بكثير")، أو يظهر الخوف من فقدان الشرعية الأخلاقية لوجودنا هنا.  وفي كثير من الأحيان يظهر أيضًا الغضب على الأهل، وعلى المعلمين ؛ كيف لم يقولوا لنا؟، وعلى أنفسنا، لأننا لم نرغب في أن ننظر ونرى.

لكل هذا، فإنني أتأثر وأنفعل من رسالة أورلي. فهي رسالة تعرض إمكانية أخرى لمواجهة رواية النكبة. إمكانية تنبع من التعلّم وتحمّل المسئولية. إن أورلي تعترف بالنكبة وتراها، وتحاول بواسطة الرسالة أن تفحص إسقاطاتها وتداعياتها على حياتها، وعلى عملها كمربّية. تتوجّه أورلي إلى لاجئة واحدة، متخيّلة، وتحاول البدء بمحادثتها. تطلب أورلي قبل كل شيء، أن تسمع وأن تصغي. إنها الآن مستعدّة، مستعدّة لأن تطلب المغفرة بصوت عالٍ، وأن تحاول التصحيح.

________________________

 نورما موسي:هي كاتبة إسرائيلية وناشطة في جمعية (ذاكرات) التي تؤمن بحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم الأصلية التي هجروا منها.


هوامش
[i] زولطن كلوجر، تل أبيب، 1948، أرشيف صور "كيرن كييمت ليسرئل" (الصندوق القومي لإسرائيل)، المصدر:  التصوير في فلسطين/أرض إسرائيل في سنوات الثلاثين والأربعين. تأليف وتحرير رونا سيلع. إصدار متحف هرتسليا للفنون، والكيبوتس الموحد، 2001.

[ii] هدف جمعية "ذاكرات" هو أن تعترف دولة إسرائيل ومؤسساتها، بمسئوليتها الأخلاقية عن الغبن الذي ألحقته بالشعب الفلسطيني؛ وأن تدفع باتجاه تطبيق حق العودة للاجئين واللاجئات. وتشمل نشاطات "تذكرن": تنظيم جولات في البلدات الفلسطينية المهدّمة، بمرافقة وإرشاد لاجئين ولاجئات؛ تثبيت لافتات على بقايا القرى المهدّمة، ترجمة تاريخ وجغرافيا النكبة إلى العبرية، ومن ثم تعلّمها، إنشاء بنك معلومات وخرائط عن النكبة، تطوير وسائل تعليمية، تنظيم مظاهرات، ومشاركة في نشاطات تقيمها منظمات اللاجئين. لمزيد من المعلومات عن "تذكرن" يمكن دخول موقع الجمعية: www.zochrot.org

[iii] لقد عملت كموجّهة للمجموعتين: وجّهت إحداهما برفقة إيتان برونشطاين، والثانية برفقة إيتان رايخ.