بقلم:رنين جريس

عيميك" بالعبرية تحريف لكلمة عمقا، وهي قرية فلسطينية تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة عكا، كانت القرية خلال الفترة الرومانية تحتل الموقع ذاته وتسمى "كفار عمكا"، ثم اصبحت تعرف باسم عمقا. كانت القرية تنهض على تل صخري متعرج حيث تلتقي سفوح الجليل الأسفل الغربي بسهل عكا.عمل معظم اهالي القرية في الزراعة وانتاج الألبان والأجبان لبيعها في المدن والقرى المجاورة، وعن هذا حدثتني هناء (هنا) ناطور (1918)، وهي تقيم حالياً في قرية كفرياسف:

 كنّا مبسوطين واللي عنده أرض يحرث ويزرع.. كنا نزرع ذرة، قمح، شعير، فول، عدس ومن كل شي، واللي عنده خير كثير كان يطعمي الفقير. كنا نحمل الحطب على رأسنا من عند جدّين حتى نغسل على إيدينا... خبزنا الصاج والطبيخ كان كله على النار.. كنت أنا حبلى بشهري وأروح من الفجر أجيب حطب من الوعر، النسوان اللبانات كانت تحمل دست اللبن على راسهم ويمشوا على عكا، كانوا يبيعوا كمان بيض وجاج.  انا كنت كل الوقت بالبيت، لأنه ما كان عنّا أرض ..


اطبخ واخبز.. تزوّجت بجيل 17 سنة، كنت أقوم الصبح أعمل فطور للأولاد، ألبّسهم، وأحضرهم للمدرسة.. ولما يرجعوا احضرلهم غداء.

وتؤكد تفاحه احمد ناطور (1935)

كانت النسوان تحمل سرير الولد على راسهم وتروح على الحصيده على القمح.. كتير اولاد ماتت من القمح، يتركوهم بين القمح ويجيو يلاقو اشي باخخ عليهم... شو مفكري العالم كانت عايشي على البركة. المرا الحبلى لا بهمها حبل ولا اشي، حاملي الدست على رأسها وماشي.

عمي كان زيات، يجيب زيت ويروح يبيع بحيفا وعكا والطيره.. ايام ما رحنا نجيب عروس من المنشيه بعكا رحنا مشي على اجرينا.. انا ركبت مع ابوي على الفرس، ولما جبنا عروس لإبن خالة ابوي من حيفا من الكبابير رحنا على الخيل والدواب.

في 1944\1945 إمتلكت القرية ما مجموعه 3348 دونماً مخصصاً للحبوب و 1648 دونماً مروياً او مستخدماً للبساتين، بينما بلغت مساحة مسطح بناء القرية 36 دونما.


عن ملكية الأراضي حدثني ابو محمد ابراهيم جمعة (1927)، وهو يقيم حالياً في قرية كفرسيف:

بعمقا كان في كتير رزق وأراضي لحد قرية السميريه، بس كان في كتير أغراب اللي اشتروا أراضي على زمان تركيا، مثلاً دار العكي ودار المغربي امتلكوا اكثر من نص أراضي البلد.

هدول الملاكين كانوا حاطين وكلا بالبلد والوكيل هو اللي يعطي أراضي للفلاحين يزرعوها.

مدارس عمقا

كان في عمقا ثلاث مدارس، إحداها بنيت زمن الدولة العثمانية عام 1887. وعن المدارس حدثني ابو محمد ابراهيم جمعة (1927) قائلاً:

كان في ثلاث مدارس بعمقا، مدرسة عند دار أبو مفلح ( نايف)، ومدرسة أولاد جنب الجامع، والجامع نفسه كان يعلم.

كان في مدرسة واحدة للصف الرابع... بس قبل ما طلعنا بسنه او سنتين زادوا فيها صفين، المدرسة كانت للبنات والبنين بس قليل ما كانوا يبعتوا بنات للمدرسه، يعني مثلاً على دوري كانوا بس بنتين.

المدرسة كانت حكومية والمعلمين يحصلوا على راتبهم من حكومة الأنجليز.

كنا نتعلم تاريخ وجغرافيا وقرآن، كان عنا معلم اسمه حامد وبعد بسنة جابوا كمان واحد من صفد اسمه المعلم سامي وبعدها جابوا معلمين من ترشيحا والمعلم محمود من المكر.

المدرسة كان فيها كتير طلاب بس معلم واحد للأربع صفوف، واللي بده يكمل تعليمه كان يروح على كفر ياسيف، التعليم بكفر ياسيف كان على مستوى عال.

عمقا زمن الإنتداب البريطاني

كمعظم القرى والمدن الفلسطينية، لم تفلت عمقا من همجية الإنتداب وجنوده، وعن هذا حدثتني هنا ناطور (1918):
على زمن الثورة، كان الانجليز يدخلوا على بلد ويصيروا يحفروا الشارع، يعتقلوا الثوار ويضربوا الناس، الثوار كانت دايماً بالجبال... مره اخدو سبعة او ثمانية شباب من بلدنا حطّوهن وين العرامشه (كم الصوّانة) أكثر من سنه ونص.

"اليهود... اليهود... اجت اليهود علينا"

رغم أن الهجوم بدأ على القرى الساحلية في ديسمبر 1947 لم تصل حرب الهجاناه الى عمقا فوراً. بدأ سكان القرى المجاورة اللجوء الى عمقا في أيار 1948، الى ان هوجمت القرية بالمدفعية في 10-11 تموز ، خلال المرحلة الاولى من عملية "ديكل".

لقد كان لاحتلال قرية الكويكات المجاورة والتي تبعد على نحو ميلين من عمقا، أثر كبير على نزوح ابناء عمقا، حيث هوجمت القرية ليلاً في 9 تموز\يوليو، ونزح اهلها خائفين الى عمقا.

عن الرحيل حدثتني تفاحة ناطور (1935) بخوف وغضب:

بعمقا كان في مختارين: واحد من عائلة مجدوب، وواحد من عائلة عبد الرازق. صار في خلاف بين العائلتين، عائلة المجدوب بدها تسلم  وتعلق العلم الأبيض وعبد الرازق بدها تحارب، وصاروا يجمعوا مصاري من الناس لحتى يشتروا بارود...

بدأنا نحس بالخطر لما اجو علينا لاجئين من السميريه والكويكات والقرى المجاورة، قسم قعد ببيوتنا وقسم نام تحت الزيتون... كانوا اللاجئين يدخلوا على عمقا  ويقولو "اليهود... اليهود... اجت اليهود علينا". بعدها الطيارات صارت تحوم فوق البلد... لولا الطيارات اللي دخلت علينا ما طلعنا من عمقا. اهل عمقا ما كان معهم بواريد.. بالليل كانوا يعملوا دوريات حراسة بس الحرس مش من بلدنا كان من القرى اللي حوالينا... اهل بلدنا كانوا كتير فقراء.

اليهود اجو من الكويكات ودخلوا بالدبابات بالليل على عمقا والطيارات من فوق... الناس صارت تهرب وما بقي بعمقا حدا.. ياما اولاد ماتت وهي طالعه مع امهاتها... اللي حاملي ولدين ثلاثه وحاملي اغراض ولقمه اكل كيف بدها تعمل ؟!.. في ام ناسي ابنها بالبيت وحاملي مخده.. لما طلعت الناس كانت تركض بدون تفكير...

لما طلعنا كان في بعمقا خانوق، رحنا نتخبا بين عروق العمدان من الطيارات، ما اخدنا معنا اغراض، طلعنا باواعينا... وبعدها رحنا على يركا، بتذكر امي كانت ماسكيتني من ايدي ولما ما اقدر امشي تصير تجرني من شعري.

لما طلعنا من عمقا جابوا يهود يمنية وسكنوهم ببيوتنا، بذكر وحده اسمها زينب سليمان، اختلفت هي وزوجة ابو اسعد من دار الخطيب، وصاروا يسبوا على بعض، انا كنت يومها مع ابوي حاملي لجن بهار على راسي... اجينا عليهم ولاقيناهم عم بتقاتلو، سمعناها تقلها: "روحي ريتك يا عمقا ما تسكنك اللا اليمنيه" وفعلا سكنوها اليمنية.


ويضيف ابو محمد ابراهيم جمعة (1927):

اليهود فاتوا على عمقا بالدبابات والمصفحات، فاتوا وقت السحور، لما فاتوا اهل عمقا كانت صارت طالعة وبس اللي معهم سلاح بقيوا بالبلد، اغلب الناس طلعوا على الزيتون... الناس طلعت من الخوف... بلدنا مرتين طلعت من الخوف قبل ما وصلتها اليهود.

انا وعائلتي طلعنا قعدنا تحت الزيتون ولما صار برد شوي صارت الناس تطلع على جت ويانوح وكفرسميع ولبنان، بس لما راحت ترشحيا كل الناس رحلت على لبنان.

إطلاق الرصاص على العائدين
حدثتني ام حسين مجدوب (1931):

اليهود لما دخلوا عمقا عملوا نقطة بالبلد وين دار احمد العكي لأنه كان اكبر بيت بالبلد، هذا العكي كان يملك نص رزق عمقا وبابور للزيت وللطحين وعنده حوالي 30 حراث، بعمقا كان في ناس موكله على رزقه، احمد العكي ما كان ساكن في عمقا بس اله دار فيها.

بعد ما طلعنا من عمقا الناس صارت ترجع بالليل تسلل على البلد عشان تجيب اغراض من بيوتها... فرشات وزيت ونحاس واثاث... لما طلعنا ما أخدنا معنا ولا إشي، خبزاتنا ضلوا باللجن، نقطة مي ما أخدنا.

دورية الجيش قتلت نسوان 2 حاولوا يرجعو على البلد بالليل عشان يجيبو أكل وأغراض، واحده زوجة ابو عيشه والثانيه زوجة محمود، هاي زوجة ابو عيشة فاتت على بيتها بالليل واخدت معها كتير اغراض، وهي طالعه وقعت وين المراح، دورية الجيش حست عليها وطخوها.

في كمان وحده فاتت على بيتها ما لاقت اشي، راحت على بيت تاني باخر البلد، شافوها الجنود وطخوها باجرها، صارت تزحف على الارض لحتى وصلت على الوادي وعاشت بعد هيك.

عن غصة الرحيل حدثتني تفاحه احمد ناطور(1935):

لما طلعنا من عمقا رحنا على يركا ونمنا تحت الزيتون، كنا انا واخوه تنين وابوي وامي، ولما صارت الدنيا برد راح ابوي يدور على محل ورحنا سكنا ببابور زيت حوالي سنة تقريباً لحتى صار الموسم واصحاب البابور صاروا بدهم يدرسوا.. طلعنا وسكنا ببيت ناس.. بعدين نقلنا كمان بيت.. احنا نقلنا كتير بيوت بيركا.... امي كانت تشتغل عند النسوان وتجيب اكل.. تروح تغسل وتملي مي من البيارة لحتى عيشتنا ولما كبرنا ما خليناها تشتغل.. ابوي ما كان يتشغل ولا اشي.

مره اجيت من يركا على عمقا لحالي انقي باميه وذره وبندورة واخيار من ارض بلدنا.. اجيب سل واحوش فيه عشان بدنا نوكل.. مره طخوا علي من عمقا من على تلة المرحان  والرصاصه اجت بقلب السله وكان فيها خيار وبندورة وفلقت الفقوسة قسمين.. صرت أركض من الخوف.

ما ضل بعمقا غير الختياريه...ماتوا ولليوم مش عارفين شو صار فيهم.. منهم ستي ام ابوي وعمي مصطفى.. حطوهم بدار العكي واللي يموت يرموه ويعلم الله اذا كانوا يدفنوهم.

وتؤكد هناء الناطور (1918) وتضيف:

حياة إبراهيم أبو أحمد الشيخ رفض يطلع من عمقا، كان فلاح، ضل قاعد بداره.. يوم إجو عليه ناس من المزرعة، عملا يشتغلوا مع اليهود، حمّلو الزيت والقمح من داره وهو قاعد يتطلّع فيهم، ضلوا قاعد حد الشباك لحتى مات... كانت بنته تزوره بالنهار، أمها وأخوها يستنّوها بالزيتون وين المغارة، تروح عند أبوها وتعمله اكل.. يوم راحت على بيتهم وما لاقته ... صارت تركض وتنادي، شافها واحد أسمه الحج أسعد، وقلّها أبوك مات واليهود دفنوه... أخذها على الجبّانه لحتى تشوف قبر أبوها.

من يوم ما طلّعنا من عمقا، ما دخلتها ولا شفتها، غير لمّا كنّا نمرق فترات بالباص.. كثير كثير بكينا لمّا طلعنا من عمقا، لما اجينا على جت ما كنا نلاقي رغيف خبز حتى نوكل، كان في بركة بجت يروح البقر والدواب يشربو منها ونروح إحنا نجيب مي منها حتى نغسل ونشرب، وصارت الناس تمرض بعد هيك..

عام 1949 دخل عمقا قادمون جدد يهود من اليمن، عاش بعضهم في البداية في مسجد القرية وبعدها إنتقلوا للعيش في بيوت القرية الخالية الى أن انشئت مستعمرة عمقا على اراضي القرية شمالاً.

لم يبق من القرية اليوم سوى بعض من بيوتها، مسجد القرية ومقبرة  تغطيها الأعشاب والحشائش البرية. ومن الجدير ذكره انه في تاريخ 3/7/2001 إنهارت الواجهة الشرقية للمسجد والتي كانت في حالة يرثى لها، حيث البناء مهدد بالانهيار. وقد طالبت مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية سابقا تصليح المسجد وترميمه خوفا من السقوط وتم رفض الطلب، بادعاء أن الأمر يشكل استفزازا لليهود في المنطقة، والذي حصل فعلا أن المسجد بدأ بالانهيار نتيجة عدم السماح للمؤسسة القيام بالترميم.
_______________

رنين جريس هي ناشطة نسوية ومركزة مشروع التاريخ الشفوي في جمعية زوخروت ومقرها في تل ابيب.

ملاحظة المؤلفة: شكر خاص لمريم طحيبش على مساعدتي في لقاء المهجرين وتوثيق ذاكرتهم.