اللاجئون الفلسطينيون في أمريكا اللاتينية والبحث عن الاعتراف

بقلم:خافيــر ابــو عيــد

طبقاً للإحصاءات الرسمية للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني؛ يعيش في أمريكيا اللاتينية مئات الآلاف من الفلسطينيين المنسيين؛ ولكن لا يوجد أرقام إحصائية دقيقة لعدد اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في القارة اللاتينية، ولا يعترف الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بمعظم الفلسطينيين الذين يعيشون هناك بأنهم جزء من الشعب الفلسطيني. حالهم، تماما  كالأعداد الكبيرة من اللاجئين الفلسطينيين غير المدرجين في سجلات وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" غير المعترف بهم. وبرغم عدم محالفة الحظ للكثير من الفلسطينيين فقد سعت مجتمعات أمريكيا اللاتينية إلى قبول عدد محدد فقط منهم. والسؤال هو: لماذا لا يعترف الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بمعظم أخواتنا وإخوتنا في أمريكيا اللاتينية كفلسطينيين؟

ربما يكون ذلك ليس ذنبهم؛ فخلال جولة خلال تشرين ثاني 2006، في أمريكيا اللاتينية قام بها وكيل وزارة سابق في السلطة الوطنية الفلسطينية؛ وأثناء زيارته لتشيلي، قال: "لا أريدكم إن تشعروا بالارتباك، انتم تشيليون (...) ويمكنكم أن تكونوا "سفراءنا الثقافيين". وهذه العبارة وحدها كفيلة بان تقود إلى نسيان الكثير جدا من الروايات الشخصية التي لا تحصى ولا تعد للناس الذين أجبروا على ترك مدنهم وقراهم بسبب التزامهم السياسي مع منظمة التحرير الفلسطينية.

تعرف المادة الخامسة من الميثاق الوطني الفلسطيني الفلسطينيين على أنهم: "العرب الوطنيين الذين أقاموا في فلسطين بصورة طبيعية حتى العام 1947، بغض النظر عما إذا كانوا قد تم تشريدهم منها، أو بقوا فيها، وأي شخص ولد  بعد ذلك التاريخ لأبوين فلسطينيين، سواء داخل فلسطين أو خارجها، هو أيضا فلسطيني".

ومع توقيع اتفاقيات أوسلو وتهميش مؤسسات الشتات الفلسطيني، وعملية الاستيعاب الطبيعية للأجيال الشابة خصوصا ممن يقيمون في الغرب، وفي ظل غياب سياسة واضحة لمنظمة التحرير الفلسطينية (لا تربوية، ولا ثقافية، ولا اجتماعية ... وبالطبع لا سياسية)، أبقي الفلسطينيون الذين يعيشون خارج العالم العربي بعيدين وخارج دوائر عملية صناعة القرار الفلسطيني وبعيدين عن الدينامية الخاصة بمنظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية.

الفلسطينيون في أمريكا اللاتينية بعد 1948


تنحدر غالبية الفلسطينيين في أمريكا اللاتينية من موجات الهجرة قبل 1948، وتحديدا قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى. ولكن ثاني اكبر حركة هجرة من الشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية لم تكن نتيجة فرض تأسيس دولة إسرائيل وتغيير الوضع الفلسطيني فقط. بل إن الأزمة الاقتصادية والاكتظاظ السكاني في المناطق العربية في فلسطين أدت إلى دفع مئات الفلسطينيين للهجرة  والانضمام إلى أقاربهم في أمريكا اللاتينية. وكان لمشاركة الشباب في العمل السياسي الفلسطيني، وفي اغلب الأحيان، التعرض للتعذيب ثم السجن، دور في دفعهم خارج الوطن، وكذلك نتيجة لقرارات الإبعاد المتخذة من قبل السلطات الأردنية التي كانت تحكم الضفة الغربية بين عامي 1949-1967.

 ومنذ عام 1948 وحتى أوائل السبعينات كانت الهجرة الفلسطينية إلى أمريكا اللاتينية تتجه أساسا إلى  دول محددة مثل تشيلى وبيرو هندوراس والسلفادور (من منطقة بيت لحم) ، والبرازيل وفنزويلا (رام الله والقدس). وكان بعض هؤلاء الذين هاجروا خلال سنوات الخمسينات من بين لاجئي العام 1948.

ونظرا للنقص في الأبحاث، يكاد يكون من المستحيل تحديد عدد رسمي للاجئين الفلسطينيين في أمريكا اللاتينية. ويمكن القول ، مثلا ، أن اللاجئين الفلسطينيين يشكلون 60٪ من الجالية الفلسطينية في البرازيل، ومعظمهم من منطقة اللد ، في حين أن عدد الفلسطينيين في اكبر بلد في أمريكا اللاتينية يقدر ما بين 15,000 و 60,000 شخصا وفقا لبعض المتفائلين.

 والواقع انه لا يوجد احد يتحدث عن اللاجئين الفلسطينيين الوافدين إلى أمريكا اللاتينية بعد النكبة، فقد كان على اللاجئين الفلسطينيين أن يبقوا في مخيمات لفترة ما إلى أن  قبل بعضهم  في النهاية عروض للهجرة قدمت من دول مثل البرازيل (البلدان التي كانت تشجع الهجرة الخارجية خلال الخمسينات) وتشيلي حيث الرخاء الذي تمتعت به الجالية الفلسطينية ومكانتها المرموقة في المجتمع التشيلي بما ذلك تأثيرها في الحكومة.

 يقال أن العدد الكلي للفلسطينيين في أمريكا اللاتينية يتراوح ما بين بضعة آلاف حسب تعداد الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، ويصل إلى 600,000 حسبما يقدر باحثون مستقلون.

بالنسبة لمن يميلون إلى الأرقام الكبيرة لتعداد الفلسطينيين في أمريكيا اللاتينية؛ فإنهم يقدرون وجود حوالي 300,000 فلسطيني في تشيلي، 100.000 في هندوراس، 100.000 في السلفادور، و 60,000  في البرازيل.  والبقية في معظمها تتوزع بين بيرو وكولومبيا وفنزويلا وإكوادور والأرجنتين والمكسيك وبليز. وفي كل دول أمريكا اللاتينية الأخرى تقريبا.

مرة ثانية فإن نقص المعلومات يحول دون التوصل إلى تحديد عدد اللاجئين الفلسطينيين من عام 1948 (مع فصل هؤلاء عن بقية الجاليات الفلسطينية). ولكن يمكننا أن نتحدث عن بعض الحالات التي تعكس حالة بعض الأسر الفلسطينية التي أجبرت على مغادرة ديارهم الأصلية في الوطن.

 حالة محمد: "لقد غادرنا بدون أن نعرف إلى أين نذهب، وفي اليوم التالي كنا في مخيم للاجئين بالقرب من رام الله (مخيم الجلزون)... بعد فترة وجيزة، توجهنا إلى البرازيل".

 عائلة محمد كانت تعيش في بيت نبالا، الذي يقع على أراضيها الآن مطار بن غوريون الدولي. وبعد سنوات قليلة فقط من نفيه عن بلدته الأصلية، وفقط عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، تم منحه نفس الحريات التي يتمتع بها المواطن البرازيلي، من اجل أن يبدأ حياة جديدة في واحدة من دول العالم الثالث الصاعدة. وكبرازيلي هو وأبناؤه لديهم حقوق كاملة في البلد الذي هاجر إليه وتبناه. ولكن الحق الوحيد الذي لا يستطيع ممارسته هو حقه في استعادة أرضه التي صودرت من أفراد أسرته وفقا لقانون حارس أملاك الغائبين.

قصة مشابهة أخرى هي حالة فؤاد، الذي غادر فلسطين مع عائلته عام 1965 بعد أن فقدوا بيتهم والأرض المحيطة به على الطريق بين بيت لحم والقدس. وحتى اليوم لا يملك جواز سفر عدا عن بطاقة الأنروا؛ ولا يملك جواز سفر تشيلي بسبب نقص المعلومات عن أصله، وأيضا لا يملك جواز سفر فلسطيني؛ لأنه لا يعتبر "مقيما في المناطق" وفقا لاتفاقيات أوسلو.

وقد عمل فؤاد من أجل القضية الفلسطينية، واضعا عمله ودراسته جانبا، ومعروف حاليا كأحد أهم الدعاة الأساسيين للقضية الفلسطينية في تشيلي؛ إلا أنه لا زال ينتظر الفرصة للعودة إلى وطنه بعد أكثر من أربعين عاما من الغياب.

المنظمات الفلسطينية:

لقد ساهمت الخصائص الاجتماعية للجالياتِ الفلسطينيّةِ في أمريكا اللاتينية في تأخير تدخّلَهم في القضيّةِ الفلسطينيّةِ بالمقارنة مع بقيّة الفلسطينيين حول العالمِ؛  وفقط،  في أواخر الستّينياتِ  ظهر نوع من العمل السياسي  الفلسطيني  المنظم وليس فقط العربي.

وكانت المجموعة السياسية الفلسطينيّة الأولى القادرة على  تشكيل خلايا تنظيمية في أمريكا اللاتينية هي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تحت قيادة جورج حبش. وقد ساعد في ذلك انتشار الأفكار والحركات الاشتراكية الماركسية في أمريكا اللاتينية آنذاك، على امتداد الجبهة في الأوساط الفلسطينية هناك.

كما ان الاتصالات بين وديع حداد (قائد الجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، وبين عدد من الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية ( ومن ضمنهم الحركة التشيلية MIR،  وتوباماروس في  البيرو ، ومنتناروس في الأرجنتين، والثوريين الكوبيين وكذلك الثوري العالمي الشهير ارنستو "تشي" غيفارا)؛ على عملية الامتداد.  وبهذا أصبحت الطريق ممهدة لمنظمة التحرير الفلسطينية بكل فصائلها للانتشار في أمريكا اللاتينية. وهكذا كان للثورة الفلسطينيّة فضلُها الخاصُ أيضاً في أمريكا اللاتينية حيث نشطت من خلال المنظمات مثل الاتحاد العام للطلبة الفلسطينيّينِ،  اللجان الشعبية النسوية، فرق الدبكة الشعبية الفلسطينية. كما فتحت مراكز ثقافية فلسطينيّة في دول أمريكا اللاتينية، مثل تشيلي، البيرو، البرازيل، الأرجنتين، كولومبيا، بَنما والسلفادور.

وكان لنشاط منظمة التحرير الفلسطينيةَ المتزايدَ في أمريكا اللاتينية دور في إعطاء الفرصة للعديد مِنْ اللاجئين الفلسطينيّينِ الذين شاركوا في عمل الأحزاب السياسية والمقيمين في أمريكا اللاتينية. ولان معظم هؤلاء كَانوا يتحدثون الاسبانية بطلاقة بسبب دراستهم في كوبا (وبعضهم درس في إسبانيا)، وكانَت لديهم خلفية سياسية واسعة حول كل القضايا تقريباً؛ بما فيها حرب لبنان فقد افادوا الحركة الوطنية الفلسطينية في عملية الامتداد. كما كان لذلك النشاط دور في تحسين حياة اللاجئين الجدد الوافدين إلى أمريكا اللاتينية من الدول العربية، وخصوصا بعد الحرب على لبنان.

في هذه الأثناء، لا زال وضع اللاجئين الفلسطينيّينِ في أمريكا اللاتينية على حاله؛ فكُلّ دول المنطقة تقريبا أعطت الجنسيةَ للاجئين الوافدين إليها؛ وبالتالي، من الصعب في الوقت الحاضر، وضع تقدير محدد لعدد اللاجئين الفلسطينيّينِ ولأعداد الجالياتِ الفلسطينيّةِ في أمريكا اللاتينية.

أوسلو والجاليات الفلسطينيّة

توقف نشاط منظمة التحرير الفلسطينية بعد توقيع اتفاقيات أوسلو؛ وأصبح هناك انقسام واضح بين المركز والشتات، إضافة إلى تهميش العمل السياسي في الخارج، وإبقاء الصلات بين الداخل والخارج في المجال الاقتصادي بشكل رئيسي. وبالنسبة للجاليات الفلسطينية في أمريكا اللاتينية؛ مثلت اتفاقيات أوسلو نهاية 30 عاما من الفعل السياسي والاجتماعي والثقافي من العمل في، وإلى جانب، منظمة التحرير الفلسطينية. وقد أجبر المشهد السياسي الجديد العديد من النشطاء على ترك العمل السياسي والاجتماعي الفلسطيني؛ بينما  ما يسمى بـ "عملية السلام" أعطت  الانطباع بأن الأشياء كانت في طريقها للتغيير، وأن "الدور القديم" للحركات الجماهيرية يجب أن يستبدل بنوع آخر من المبادرات، بعيدا عن ساحة العمل السياسي.

كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى ضياع جيل كامل، الأمر الذي اتضح فقط  من مواقف ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية، وممثلي وزارة خارجية السلطة الوطنية الفلسطينية في بداية الانتفاضة الثانية.

 ومع تغير الاتجاهات السياسية، وضعف منظمة التحرير الفلسطينية، وغياب أي نوع من الإستراتيجية أو السياسة الواضحة بشان الشتات الفلسطيني؛  سواء من رام الله أو من تونس؛ ادركت الجاليات الفلسطينية في أمريكا اللاتينية واجبها القاضي بضرورة النهوض، وإن ببطء، وأن تعيد تنظيم نفسها؛ بما في ذلك تنشيط المجموعات الشبابية والثقافية.

 بالتأكيد، أضعفت أوسلو الجاليات الفلسطينية في الشتات، حيث غيرت مكانة اللاجئين الفلسطينيين، وإن لم يكن في وضعهم القانوني، لكن في اضعف مستوى اهتمام م.ت.ف بهم. وفي عشية المشهد السياسي الجديد الذي يتسم بـ "لا يوجد سياسة" لمنظمة التحرير الفلسطينية تجاه الجاليات الفلسطينية في المنفى، وكذلك عدم وجود نظام تعليمي فلسطيني في الشتات؛ فهذان عاملان قد يشكلان خطرا على مستقبل الفلسطينيين في المنطقة. ولذلك؛ على منظمة التحرير الفلسطينية أن تستثمر في مجال البحث الرسمي لمعرفة عدد  الفلسطينيين في الشتات،  وان تستقرأ رغبات وأماني الجاليات الفلسطينية في أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة وكندا واستراليا وأوروبا.

وإذا ما كنا نتجه نحو اعتبارنا "سفراء ثقافيين"؛  فإن فلسطين وقضيتها ستخسر الآلاف من المهنيين والأكاديميين، الفنانين والرياضيين، ورجال الأعمال والطلاب الذين  يرغبون أن يكونوا فاعلين في العملية السياسية؛ التي يجب أن تقود الشعب الفلسطيني إلى ممارسة حقه في  تقرير مصيره، وإلى  ممارسة حقه في العودة إلى أرض وطنه.

------------------------

خافير أبو عيد هو ناشط جماهيري في أمريكا اللاتينية، ومتطوع في مركز بديل.