مقاطعــة الأبارتهايــد الإسرائيلـــي

بقلم: عمــر البرغوثـــي

مقاومــة مدنيــة فعالــة تستلهــم نضــال جنــوب أفريقيــــا

القتل، أشلاء الأطفال، هدم المنازل، تدمير البنى التحتية، الحصار والتجويع ... مسلسل يتكرر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما كان يتكرر في معازل جنوب أفريقيا في زمن الأبارتهايد، دون رادع؛ ويسود صمت رهيب أو استنكار خجول مُخجِل لينتهي المسلسل كما في كل مرة، بضحايا أكثر وحقوق أقل. فقد ترواحت ردود الفعل في العالم على الاجتياح الإسرائيلي الدموي الأخير لقطاع غزة، الرازح أصلاً تحت وطأة الحصار والتجويع المنظم، بين التنديد والوعيد الفارغ من جهة والتواطؤ الوقح من جهة أخرى، مع استثناءات قليلة اتسمت بالمبدئية. في المحصلة شعر الشعب العربي-الفلسطيني أنه، مرة أخرى، يقف وحيداً تقريباً في وجه قوة عسكرية عاتية لا تحترم قوانين ولا مبادئ أخلاقية، بل حتى تعتبر الفلسطيني شبه إنسان، أو إنسان نسبيّ، لا يستحق كافة الحقوق المنوطة بالبشر عموماً.

لذا، فقد آن الأوان لمقاومة مدنية فاعلة (فلسطينية وعربية) تحاصر حصارنا عبر كسب تأييد الرأي العام العالمي لعزل إسرائيل في كافة المجالات الحيوية وإجبارها على الالتزام بالقانون الدولي وإنهاء اضطهادها المركّب للشعب الفلسطيني. بعد الفشل المدوي للنظام الرسمي العالمي في تحمل مسؤوليته القانونية والأخلاقية إزاء جرائم إسرائيل الكولونيالية والعنصرية، آن الأوان لدعوة المجتمع المدني الدولي لتحمل هذه المسؤولية بتبني كافة أشكال المقاطعة ضد إسرائيل. فقط هكذا تحقق الانتصار على النظام العنصري في جنوب أفريقيا.

أشكال النضال: بين السياسة والقانون والأخلاق


برأيي، يجب ألا يتمسك الشعب الفلسطيني بأي شكل للمقاومة بشكل دوغمائي أو عدمي دون دراسة جدواه ومدى صلاحيته للوصول لأهدافنا المنشودة ضمن السياق المحيط، ودون أخذ البعد الأخلاقي والقانوني بعين الاعتبار. إن كانت مقاومة كل من الاحتلال والعنصرية واجباً غير خاضع للجدل، فأشكال هذه المقاومة ليست مقدسة ولا جامدة. في كل الأحوال، لا بد لمقاومتنا أن تحترم المبدأ الأخلاقي الأممي الذي يحرم استهداف المدنيين الأبرياء ويشترط التناسب بين درجة المشاركة في الجريمة والعقوبة العادلة لها. أما كون العدو لا يحترم هذا المبدأ، فهذا لا يبرر انزلاقنا نحن إلى حضيض أخلاقي، فنحن أصحاب حق ومبادئ لا نقارن أنفسنا بلا-أخلاقية إسرائيل.

أما من الناحية العملية-البرغماتية، فإن العمليات المسلحة ضد المدنيين الإسرائيليين، بغض النظر عن مدى تواطئهم في إدامة الاضطهاد الإسرائيلي المركّب لشعبنا، حقاً أضرت بالنضال الوطني الفلسطيني، بالذات في حقبة ما بعد 11 سبتمبر، حيث سمحت للآلة الإعلامية الصهيونية واسعة التأثير بتشويه صورة نضالنا التحرري، المنطلق جوهرياً من قيم إنسانية سامية تنشد العدالة والمساواة والسلم، بإظهاره كإرهاب أعمى يقتل الأطفال والمدنيين، تماماً مثل إرهاب "القاعدة"، بينما لم تكن الصورة بهذه البشاعة من قبل، حتى في الإعلام المهيمن في الغرب. وقد شعر كل من يعمل منا في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وعن حق شعبنا في تقرير مصيره، بالذات في ساحات الغرب وارتباطاً بحركات التضامن فيها، بهول الثمن الذي دفعته قضيتنا بسبب هذه العمليات. دعني أؤكد أننا نناضل فقط لنحقق انتصارات ترفع الظلم والاضطهاد عنا وتقربنا لأهدافنا، للعدالة، لاستعادة حقوقنا المسلوبة، لحياة كريمة في وطن حر، سيّد، وديمقراطي، وليس حباً في الانتقام أو الموت والاستشهاد والتضحية كأهداف بعينها. إن المقاومة الأصيلة ثقافة ونهج وهدف ومبدأ، لا صنم.  

كما إن ظروف الهيمنة الإسرائيلية-الأمريكية الشاملة تقريباً على الساحة العسكرية-الأمنية، وإدراكنا الواعي لانقسام الشعب الفلسطيني إلى ثلاثة أجزاء شبه معزولة عن بعضها البعض (67، 48، وشتات)، والحصار المحكم على كل منها (سواء إسرائيلياً أو عربياً)، لا تسمح لنا بتوقع أن ترقى المقاومة المسلحة يوماً إلى مستوى التحديات المفروضة علينا، أو أن يصبح دورها حاسماً في تحقيق انتصارات تراكمية مستدامة على الأرض لتحقيق أهداف النضال الوطني الفلسطيني. فحتى مع العملية الفدائية البطولية في كرم أبي سالم قرب غزة في منتصف العام المنصرم، والتي توجت بأسر جندي إسرائيلي قد يبادل بمئات الأسرى الفلسطينيين، يجب ألا نخدع أنفسنا بالأوهام. إن هذه العملية النوعية هي استثناء للقاعدة غير قابل للتكرار كثيراً أو للمراكمة. فإن أنتجت أربعة عقود من الاحتلال العسكري للضفة وغزة صواريخ "القسام" البدائية، وذات التأثير النفسي بالأساس، فلا يمكننا أن ننتظر عقوداً أخرى ونحن نحلم بامتلاك صواريخ شبيهة بما في ترسانة حزب الله، مثلاً، والتي حقاً اثبتت فعاليتها في تحقيق ميزان رعب، وفي التصدي -- بنجاح غير مسبوق -- للعدوان الإسرائيلي في الصيف الماضي عندما حاول تجاوز هذا الميزان. إذاً، ما العمل؟ هل نركع لمشيئة إسرائيل ونرضى بعظام ترميها لنا كما حصل في مسيرة أوسلو؟ قطعاً لا! فالمسافة التي تفصل بين "القسام" والاستسلام هائلة، لا يمكن أن ندعي اننا استكشفناها كما يجب.   

المقاومة المدنية: بين القسام والاستسلام


ربما يكون مفهوم المقاومة المدنية - وهي بالضرورة سلمية -- قد أصبح يثير الريبة، إن لم نقل النفور المبرّر، لدى الكثيرين في العالم العربي، كونه ارتبط في الحقبة الأخيرة بتوجهات سياسية تفرّط ببعض الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف، وأهمها حق اللاجئين الفلسطينيين في التعويض والعودة إلى ديارهم وممتلكاتهم في فلسطين المحتلة عام 1948. فالمبادرات الداعية إلى "اللا-عنف" في فلسطين خلال التسعينيات من القرن الماضي كانت بغالبيتها ممولة من مؤسسات غربية مشبوهة، سواء كانت حكومية أو غير حكومية، وبالتالي كانت بشكل عام ترضخ لأهم الشروط الإسرائيلية في التنازل عن حقوق اللاجئين وفي عدم التطرق لنظام التفرقة العنصرية القائم في إسرائيل ضد السكان الأصليين، العرب-الفلسطينيين. ولكن في الواقع فإن العلاقة البادية بين تبني برنامج سياسي منقوص في أهدافه وبين المقاومة المدنية كاستراتيجية نضالية للوصول إلى هذه الأهداف هي عرضية لا عضوية. إن نداء المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات، أي ما اصطلح على اختصاره بالأحرف الإنجليزية BDS [1]، الصادر عن الغالبية الساحقة للمجتمع المدني الفلسطيني في 9 يوليو 2005، هو خير ما يصحح هذا الخلط بين الهدف والاستراتيجية النضالية للوصول إليه.

إن هذا النداء، الصادر بمناسبة مرور عام على قرار محكمة العدل الدولية ضد الجدار، خطّ مساراً تاريخياً جديداً للنضال التحرري الفلسطيني لعدة أسباب، أهمها إنه، وللمرة الأولى منذ عقود، أعاد تعريف الصراع مع إسرائيل ضمن سياق الاضطهاد الإسرائيلي الثلاثي لشعبنا، والمتمثل في: رفض عودة اللاجئين إلى ديارهم؛ الاحتلال العسكري والاستيطان في مناطق 67؛ ونظام التمييز العنصري ضد المواطنين الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية. وهذا الشق الأخير كان غائبا أو مغيباً لعقود طويلة تحت شعار "البرغماتية" والتساوق مع "الإرادة الدولية". وانسجاماً مع هذه الرؤية، دعى البيان لإنهاء الاحتلال وسياسة التمييز العنصري الإسرائيلي وإلى تمكين اللاجئين من العودة، وبالتالي شكل تحدياً كبيراً للتعريف الخادع للشعب الفلسطيني الذي ساد منذ توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل، والذي يشمل بالأساس فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 67. وأخيراً، فإن هذا البيان تضمن لغة جديدة تخاطب أصحاب الضمائر الحية من الإسرائيليين، لا لمناشدتهم لدعم "السلام" أو"لإنقاذ الشعبين من براثن الكراهية المتبادلة" - وهو خطاب العبيد الذي شاع في حقبة أوسلو، ولا يزال، بين بعض أوساط القيادة الفلسطينية وبعض المثقفين والأكاديميين المخدوعين أو المنتفعين من المشاريع الفلسطينية-الإسرائيلية المشتركة -- بل لدعوتهم لتأييد المقاطعة ضد نظامهم الاستعماري والعنصري ومؤسساتهم المتواطئة في تكريس هذا النظام، تماماً كما انضم ذوو الضمائر الحية من البيض إلى خنادق النضال ضد العنصرية في جنوب أفريقيا. من الجدير ذكره أن نداء المقاطعة هذا قد حصد تأييداً واسعاً من ممثلي الأجزاء الثلاثة المكونة للشعب الفلسطيني، ليصبح المرجعية الأبرز لدى مؤسسات وحملات التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني، بالذات في أوروبا وأمريكا الشمالية.

وكان قد سبقه بيان المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل الصادر في ربيع 2004 عن الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (PACBI)، والذي شكل الوثيقة الأساسية التي استند إليها قرار اتحاد أساتذة الجامعات ببريطانيا (AUT) الداعي إلى مقاطعة جامعتين إسرائيليتين بسبب تورطهما في إدامة الاحتلال والسياسة العنصرية لإسرائيل، قبل أن يتراجع الاتحاد عن هذا القرار تحت ضغط هائل مارسه اللوبي الصهيوني والأبواق الإعلامية الخاضعة تحت سيطرته ضد الأكاديميين البريطانيين الذين حملوا راية المقاطعة.

معركة المقاطعة في الغرب

بما أن الغرب هو دون شك ساحة التأئير السياسي والاقتصادي الأقوى على الصراع العربي-الإسرائيلي، فإن جل اهتمامنا في حركة المقاطعة الفلسطينية يتركز في إلهام ودفع (وأحياناً توجيه) والتشبيك مع حركات مجتمعية (بالذات في أوساط المثقفين والأكاديميين والمهنيين) متنامية في الغرب تؤيد عزل إسرائيل كما فعلت مع نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. وقد جاء هذا التركيز أحياناً، للأسف، على حساب مساهمتنا في تطوير حملة مقاطعة المجتمع المدني في العالم العربي لإسرائيل، ولكن هذا موضوع أوسع من مجال هذا المقال.

منذ ظهرت أولى الدعوات لمقاطعة إسرائيل من قبل مؤسسات المجتمع المدني الأوروبي المشاركة في مؤتمر الأمم المتحدة ضد العنصرية المنعقد في دوربان (جنوب أفريقيا) عام 2001، لجأت قوى الضغط الصهيونية إلى البلطجة والإرهاب الفكري لكم أفواه دعاة المقاطعة وكبح امكانية تطور الجدل الحاصل في الإعلام الغربي حول الاضطهاد الإسرائيلي للفلسطينيين، كي لا يمس الخطوط الحمراء، وبالذات النكبة ومسؤولية إسرائيل التاريخية عن تشريد اللاجئين الفلسطينيين؛ والأساس الصهيوني العنصري لدولة إسرائيل، الشبيه لدرجة عالية بنظام الأبارتهايد البائد في جنوب أفريقيا. إن كانت الحركة الصهيونية بتفرعاتها قد اعتمدت لدرجة عالية في السابق على قوة المنطق لكسب الرأي العام الغربي تحديداً، فهي في السنوات الأخيرة لم تعد تملك سوى منطق القوة ولي الأذرع لتكريس هيمنتها في ساحتي الفكر والإعلام في أغلب الدول الغربية. من أهم أساليب الضغط المستخدمة الاتهام بأن الدعوة لمقاطعة إسرائيل هي بحد ذاتها تعبير عن "معاداة السامية"؛ وأن مناصري المقاطعة منافقون يغمضون أعينهم أمام انتهاكات حقوق الإنسان في كل العالم باستثناء إسرائيل؛ وأن المقاطعة تضر أكثر مما تنفع، إذ أنها تضعف "قوى السلام" في إسرائيل المدافعة عن حقوق الفلسطينيين.

منذ البداية، لعبت الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية دوراً محورياً في تفنيد تلك الحجج المسوغة ضد المقاطعة عبر مقالات وآراء نشرت في صحف تقدمية وفي بعض صحف التيار العام في الغرب كذلك. سألخص هنا أهم هذه الحجج المضادة:

أولاً – "المطالبة بمقاطعة إسرائيل تعبير عن معاداة السامية":


ربما لا تأخذ غالبية القراء العرب هذا الادعاء على محمل الجد، فهو لا يستند إلى أي أساس منطقي أو معلوماتي، ولكن لدى أوروبا والغرب عموماً حساسية مفرطة، إن لم نقل هوس، من هكذا اتهام بسبب المحرقة النازية التي راح ضحيتها ملايين اليهود، ضمن ضحايا آخرين. لذا، فلا يمكن تجاهل الاتهام ولا الإقلال من خطره على من يُتهم به. ردنا عليه تلخص في كون دعوات المقاطعة لإسرائيل لا تستهدف اليهود بتاتاً، ولا حتى الإسرائيليين لكونهم يهوداً، بل تستهدف البنية الكولونيالية والعنصرية الإسرائيلية برمتها. بالإضافة إلى حقيقة أن جزءاً هاماً من الحركة الداعية لمقاطعة إسرائيل في الغرب هو من اليهود التقدميين. كما أن تعريف "معاداة السامية" الشائع في الغرب، والذي يرتكز على العنصرية ضد اليهود كونهم يهوداً، لا ينطبق من قريب أو بعيد على العداء لسياسات إسرائيل أو الدعوة لعقابها بسبب هذه السياسات، تماماً كما أن حملات المقاطعة ضد جنوب أفريقيا لم تكن موجهة ضد دين محدد أو إثنية بعينها.

ثانياً – "مقاطعة إسرائيل وحدها وغض النظر عن دول أسوأ يعد نفاقاً":

عادة ما يقارن أعداء المقاطعة في الغرب إسرائيل بالسعودية وإيران وكوريا الشمالية والسودان، وأحياناً الصين، ليصلوا لاستنتاج أن استهداف إسرائيل دون غيرها من الدول الأشد إيغالاً في انتهاك حقوق الإنسان يعتبر نفاقاً. ما يتناساه هؤلاء هو أن الفرق الأهم -- من منظار برغماتي -- يتلخص في كون إسرائيل ينظر إليها في الغرب كدولة ديمقراطية، وهي تستحوذ على دعم سياسي واقتصادي وثقافي هائل، بينما لا ينطبق ذلك على الأخريات. كما إن إسرائيل تتميز عن تلك الدول الأخرى -- من الناحية المبدئية -- بأنها صاحبة أطول احتلال عسكري معاصر، وأنها الوحيدة التي تتبنى نظام التمييز العنصري وترفض عودة لاجئين قامت هي بتشريدهم بهدف الحفاظ على التفوق الديمغرافي. لكل ذلك، فإن إسرائيل هي أجدر بدعوات المقاطعة من "نظيراتها".

ثالثاً – المقاطعة تضعف "اليسار" الإسرائيلي وبالتالي تضر الفلسطينيين أكثر مما تنفعهم:


إذا تجاهلنا الموقف الاستعلائي (patronizing) الذي تفوح رائحته من هذه الحجة التي يفترض أصحابها أنهم أكثر فهماً منا لمصالحنا، فالسؤال الأهم في الرد عليها هو: أيّ يسار؟ أين هي تلك القوى الإسرائيلية التي تطالب بإنهاء الاضطهاد الإسرائيلي لشعب فلسطين؟ كيف لأحد أن يضعف جثة هامدة؟ أما اليسار الإسرائيلي الحقيقي، أي المعادي للصهيونية، فهو ضعيف للغاية ومتشرذم، وغالبيته بدأت تتعاطى إيجابياً مع فكرة المقاطعة (بأشكال متعددة). ثم إن أهداف المقاطعة، أي إنهاء كل أشكال الاضطهاد الصهيوني للشعب الفلسطيني، تصب في صالح الأهداف المعلنة لنضال ذلك اليسار المبدئي، أي تحقيق العدالة والسلام المبني عليها.

ومن منطلقات شبيهة، يدّعي البعض أن المقاطعة هي سلاح ذو حدين لأن إسرائيل، إن عزلت دولياً وأصبحت تعامل كدولة مارقة، ستصبح بالضرورة أكثر ضراوة وعنفاً في قمع الفلسطينيين وانتهاك حقوقهم، مما سيضر أكثر قطاعات الشعب الفلسطيني ضعفاً وفقراً قبل غيرهم. إن كان هذا صحيحاً بالمجمل فهو ينطبق على جميع الحالات التي طبقت فيها المقاطعة من قبل، وبالذات في جنوب أفريقيا، حيث كانت القيادة السياسية للمؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) تدرك تماماً مدى هذه "الأعراض الجانبية" للمقاطعة، ولكن لم تدع ذلك يثنيها عن تبني المقاطعة كسلاح استراتيجي لإنهاء نظام التمييز العنصري. فعلى المدى القصير، واستناداً لقراءتنا لتاريخ حركات التحرر، لا يمكن أن نتوقع من أية دولة استعمارية أن ترضخ للضغوط وترضى عن طيب قلب بإنهاء استعمارها. ولكن ردة الفعل الأولى للضغوط الدولية، المتمثلة عادة في تكثيف الهجمة الاستعمارية على الشعب المضطهد، سرعان ما تتلاشى تحت وطأة آلام الحصار العالمي، ليحل محلها موقف أكثر برغماتية يفهم أن ثمن فك العزلة لا بد أن يدفع بالعملة الصعبة، أي بإنهاء الاحتلال وأشكال الاضطهاد الأخرى التي كانت الدافع من وراء المقاطعة أصلاً.

الأبارتهايد في إسرائيل وجنوب أفريقيا – هل التشابه كاف؟  

لم يفت أحداً من متابعي تطور حركة المقاطعة الفلسطينية لإسرائيل أن تشبيه إسرائيل بجنوب أفريقيا، عدا عن صدقه، كان أهم تكتيك استخدمناه دون جدال. قد يستغرب البعض من هذا التشبيه، بالذات كون إسرائيل تشكل حالة استعمارية وعنصرية أشد بطشاً وخطراً، في العديد من الجوانب، من جنوب أفريقيا في ظل الأبارتهايد، كما صرح عدد من قادة النضال التحرري في الأخيرة غير مرة. في الواقع، عدا عن حقيقة التشابه الموضوعي الكبير بين النظامين، فإن الدافع الأهم لإصرارنا في حملة المقاطعة على تشبيه إسرائيل بجنوب أفريقيا ينبع من فهمنا لعمق تأثير صورة جنوب أفريقيا في وجدان الرأي العام الغربي خصوصاً، ولوجود قوانين دولية واضحة تحدد آليات فرض العقوبات ضد نظام الأبارتهايد في أي دولة وجد. إذا نجحنا في خلق صورة لإسرائيل في الذهنية الغربية تشبه لدرجة أو لأخرى صورة النظام العنصري بجنوب أفريقيا نكون قد قطعنا شوطاً هاماً على طريق إقناع الرأي العام العالمي بتطبيق نظام المقاطعة وسحب الاستثمارات ولاحقاً العقوبات (التي تفرض من قبل الأمم المتحدة والحكومات) ضد إسرائيل. كما يصبح أصعب بكثير على نشطاء المعسكر المقابل أن يجادلوا ضد مقاطعة إسرائيل على وجه الخصوص، إذ أن هذه الاستثنائية ستُثبِت نفاقهم أو كيلهم بمعيارين، وهو ما ينفر الرأي العام منهم.

بالرغم من أوجه الشبه العديدة بين النظامين، إلا أن إسرائيل تتمتع بنفوذ لا يقارن في البيت الأبيض والكونجرس الأمريكي ولدرجة أقل في مراكز صنع القرار في أوروبا. كما إن إسرائيل تغذي تأنيب الضمير الغربي بسبب المحرقة النازية وتعتمد عليه من أجل ابتزاز الغرب بحيث لا يجرؤ على مقارنتها بجنوب أفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، تربط إسرائيل بالغرب علاقات ثقافية أوطد من تلك التي ربطت جنوب أفريقيا به، وهذا العامل لا يمكن تجاهله. وإسرائيل في النهاية، ورغم حقيقتها العنصرية بامتياز، تتمتع بواجهة وسمعة ديمقراطية، إذ أن نظامها السياسي يسمح شكلياً بمشاركة الأقلية الفلسطينية في الانتخابات العامة، بعكس نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا. وبعكس الحال في جنوب أفريقيا، فالقوانين الإسرائيلية الأساسية لا تميّز بفجاجة بين "الأعراق". لذا، فالتشابه وحده لا يعني بالضرورة أن استراتيجية المقاومة التي نجحت هناك ستنجح هنا. إذاً هل هناك أمل حقيقي في نجاح المقاطعة ضد إسرائيل؟

ينظر البعض لتعثر تجربتي المقاطعة الأكاديمية ببريطانيا والكنيسة المشيخية (Presbyterian) بالولايات المتحدة [2] حتى الآن فيستخلص أن قوة اللوبي الصهيوني العاتية نجحت وستنجح في قمع كل تحرك جدي باتجاه مقاطعة إسرائيل بأي شكل كانت. ربما نسي هؤلاء أن الدعوة الأولى للمقاطعة الأكاديمية لجنوب أفريقيا صدرت عن المؤتمر الوطني الأفريقي في الخمسينيات من القرن الماضي ولم تجد صدى حقيقياً في الغرب إلا بعد مرور ما يقارب الثلاثين عاماً. يجب إذاً الصبر قليلاً قبل إطلاق السهام نحو حركة المقاطعة الفلسطينية، التي بدأت بوادرها منذ أربع سنوات فحسب، والتي حققت في هذه الفترة الوجيزة إنجازات ملموسة وقابلة للمراكمة، أهمها وضع موضوع مقاطعة إسرائيل على خارطة حركات التضامن والعديد من القوى التقدمية في الغرب، وإلهام عدد من حملات المقاطعة ضد إسرائيل في بلدان عدة.

في عام 2006، على سبيل المثال، نجح أكبر اتحاد لأساتذة الجامعات في بريطانيا (NATFHE) في إقرار بيان يطالب فيه أعضاءه بتحمل مسؤوليتهم الأخلاقية ومقاطعة الجامعات والأكاديميين في إسرائيل إذا لم ينددوا علناً بالاحتلال. كما أيدت أكبر نقابة عمال بمقاطعة أونتاريو في كندا (CUPE) في مؤتمرها العام، وبالإجماع، بيان المقاطعة الفلسطيني (BDS).  وتعالت أصوات هامة تطالب بتطبيق سحب الاستثمارات والمقاطعة على إسرائيل في أوساط مؤثرة، من نقابة محامين في الولايات المتحدة (National Lawyers’ Guild) إلى مجلس كنائس جنوب أفريقيا (الذي يضم ملايين الأعضاء) واتحاد نقابات عمال جنوب أفريقيا (COSATU) إلى المجلس الأوروبي للتنسيق بين منظمات التضامن مع فلسطين (ECCP). كما أن حملة المقاطعة نجحت في إقناع المغني الكبير، روجر ووترز، وهو من مؤسسي الفرقة الأشهر في السبعينيات Pink Floyd، بتحويل جولته هنا من فنية بحت إلى سياسية تدين الجدار والاحتلال، وهذا ما برز في تغطية وسائل الإعلام العالمية لزيارته، مما أثار غضب المؤسسة السياسية الإسرائيلية والإعلام الصهيوني.[3]  

رغم ذلك، لا يزال المشوار أمامنا طويلاً. فلا يمكن في مثل هذا العمل توقع نتائج سريعة. المهم هو وضوح الهدف والرؤية، الانسجام مع الذات في التكتيكات والمواقف، والمثابرة وإتقان مهارات الاتصال والعلاقات العامة التي تلعب دوراً كبيراً في التشبيك وفي نشر ثقافة المقاطعة، سواء محلياً أو عالمياً. إنها سيرورة تراكمية حقاً وتحتاج لطول نفس ولتكاتف الجهود وتوسيع التحالفات بتصاعد.

العوامل المحلية الكابحة لتطور المقاطعة

هناك معيقات فلسطينية وعربية تعطل نمو حملات المقاطعة لإسرائيل في العالم، أهمها استمرار، بل تزايد، المشاريع المشتركة مع المؤسسات الإسرائيلية في قطاعات العلوم والثقافة والصحة والشباب والمرأة وغيرها. وخطورة هذه المشاريع المضلِلة تكمن في تجاهلها لواقع الاضطهاد الإسرائيلي وفي مساهمتها في إضفاء الشرعية عليه. بالإضافة إلى ذلك، فهي تسهم في ترسيخ صورة إسرائيل كدولة متميزة في مجالات العلم والبحث والفن. بغض النظر عن النوايا، فإن الدخول في هذه المشاريع التي لا تهدف بشكل رئيسي لا لبس فيه إلى مقاومة الاحتلال وأشكال الاضطهاد الإسرائيلي الأخرى (دون أن تمس بالحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني)، يعد شكلاً من أشكال التواطؤ مع مساعي إسرائيل المحمومة لتسويق نفسها في العالم كدولة طبيعية، بل ومتنورة، لديها مشاكل فحسب مع جاراتها. عدا عن ذلك، فهذه المشاريع تستخدم بدهاء من قبل الحركة الصهيونية لإجهاض محاولات المقاطعة لإسرائيل في الغرب تحت شعار: "هل أنتم أكثر ملكية من الملك؟"

أما العامل الآخر الذي يعيق التقدم على صعيد المقاطعة هو غياب القيادة السياسية الفلسطينية المطالبة بالمقاطعة. بما أن السلطة الفلسطينية خُلِقت لتحمّل بعض أعباء الاحتلال، فهي غير قادرة ولا تملك الإرادة لرفع شعار أي مقاومة ضد الاحتلال، حتو لو كانت مقاومة مدنية. أما منظمة التحرير الفلسطينية، وهي لا تزال الممثل الشرعي والوحيد الذي يجمع، نظرياً على الأقل، كل أجزاء الشعب، فهي متشرذمة لا حول لها، لذا فهي غائبة، أو بالأحرى مغيّبة، عن الساحة السياسية الدولية منذ أوج مرحلة أوسلو. لذا كان لا بد من الحصول على تأييد أوسع قطاعات المجتمع المدني الفلسطيني لتعزيز شرعية مطلبنا بالمقاطعة في أعين العالم لحين تطور الموقف الرسمي الفلسطيني لتبني المقاطعة كشكل مقاومة استراتيجي.

ما العمل؟
لا مناص من الاستمرار بوتيرة متصاعدة وبروح نقدية تسمح لنا بالتعلم من أخطائنا وتطوير أدائنا وتحقيق انتصارات صغيرة وتراكمية في خط متعرج ولكن متصاعد. وهذا يتطلب بناء تحالفات مبدئية مع القوى المجتمعية التقدمية والليبرالية التي تنجح في تجاوز الخوف من مناهضة سياسة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية. ولكن هذا بدوره يشترط توسيع مدى تطبيق المقاطعة للمؤسسات الإسرائيلية بين أوساط المجتمع الفلسطيني خصوصاً والمجتمعات العربية عموماً. لا بد من وقف جميع هذه المشاريع الخداعة على وجه السرعة. وهنا لا بد من ذكر أن بعض مؤسسات التمويل الغربية تشترط مثل هذه الشراكات لتقدم دعمها المالي، لذا فيجب أن تتكاتف مؤسساتنا في رفض التمويل المشروط، كي لا يُستفرد بأحد.

وفي النهاية، لا بد من إعادة تشكيل وتأهيل، بل وإحياء، مؤسسات منظمة التحرير لتلعب الدور المنوط بها في قيادة هذه المرحلة النضالية الحرجة بأدوات عصرية تمكنها من بدء تحقيق انتصارات ملموسة على الأرض. ولكن في كل الأحوال لا بد من استمرار المجتمع المدني، بما فيه القوى السياسية، في بذل جهود مضنية لتطوير حملة المقاطعة التي أطلقها والتي بدأت تلاقي تأييداً واسعاً في العالم.

آن الأوان لبدء حوار فلسطيني-فلسطيني وفلسطيني-عربي حول استراتيجية للمقاومة، نابع من مصالحنا كشعب وكجزء من أمة عربية، بغض النظر عن رغبات ومشاريع الآخرين. كما آن الأوان بكل تأكيد لإطلاق أوسع حملة شعبية ورسمية لعزل ومعاقبة إسرائيل دولياً لإرغامها على الاندحار. إن معاناتنا المجانية لم تعد تحتمل، وانجرارنا لتكتيك عدونا العسكري أضعفنا وعزلنا نسبياً عن حلفائنا الطبيعيين في العالم. وإهمالنا لضرورة تقييم تجاربنا والتأقلم مع سياقنا واستغلال مصادر قوتنا لا يغتفر. آن الأوان لإطلاق طاقات المجتمع الفلسطيني ككل، لا أبطاله فحسب، للمشاركة في مقاومة مدنية تستلهم نضال جنوب أفريقيا وتغذي الأمل في العودة وتقرير المصير والمساواة الإنسانية. فقط حينها سيتغير بشكل دراماتيكي مسلسل الإجرام والتضحية والصمت المخزي.

------------

 عمر البرغوثي هو باحث فلسطيني مستقل وعضو مؤسس في الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (www.PACBI.org). نشرت النسخة الأصلية من هذا المقال في مجلة الآداب (بيروت)، في ديسمبر 2006.

 

مراجع وهوامش:

 [1] BDS  هو اختصار Boycott, Divestment and Sanctions. النداء وقائمة القوى والاتحادات والمؤسسات الموقعة عليه موجودان بالإنجليزية على: http://www.pacbi.org/boycott_news_more.php?id=66_0_1_10_M11

وبالعربية على: http://www.badil.org/Boycott-Statement-Arabic.htm

[2] تراجع اتحاد المحاضرين البريطاني عن قرار مقاطعة جامعتين إسرائيليتين بعد 34 يوماً، أما الكنيسة المشيخية فتراجعت نسبياً في مؤتمرها العام الأخير المنعقد في حزيران 2006 عن قرار مؤتمرها العام في 2004 لبدء النظر في سحب الاستثمارات من الشركات المنتفعة من الاحتلال والعنف. في الحالتين، كان ضغط اللوبي الصهيوني العامل الرئيسي الذي فرض التراجع.

 [3] لمراجعة جميع قرارات المقاطعة هذه وبعض التحليلات المتعلقة بها، راجع: www.PACBI.org