بقلم:د. عصام يونس

ثار الكثير من اللغط، وتبعه جدل سياسي وقانوني، تمحور حول الوضع القانوني لقطاع غزة بعد أن أنهت قوات الاحتلال ما أطلقت عليه خطة الانفصال أحادي الجانب، في الثاني عشر من سبتمبر 2005. وبالرغم من كل الحجج التي حاولت قوات الاحتلال سوقها لتضليل الرأي العام، بأن قطاع غزة أصبح منطقة لا تخضع لسلطاتها؛ وبالتالي فهي غير مسئولة عن طبيعة ومستوى عيش السكان فيها، جاءت الكثير من التحليلات التي حاولت التصدي لهذا الادعاء، وأجمع خبراء القانون الدولي ومؤسسات حقوق الإنسان، أن تنفيذ قوات الاحتلال لا يغير من الوضع القانوني لقطاع غزة، الأمر الذي عززه لاحقاً مؤتمر الأطراف السامية الموقعة على اتفاقية جنيف الرابعة، وما ورد في تقارير البروفسور جون دوغارد، مقرر الأمم المتحدة الخاص بالأراضي الفلسطينية المحتلة، والذي أكد على عدم تغير المكانة القانونية لقطاع غزة.

وكي نخرج من منطق الجدل والمحاججة القانونية، فلندع المعطيات على الأرض تعبر عن نفسها، وتحكي لنا ما آلت إليه الأوضاع في قطاع غزة، وكيف تحول أمل السكان في الحرية من ربقة الاحتلال إلى كابوس، لم يتخيله الفلسطينيون حتى في أضغاث أحلامهم. وهنا، أستحضر مقالاً لزميلة أجنبية تعمل معنا في غزة، عنونته: "طبيعة الحياة في غزة شيء، وأن تعيش هذه الحياة شيء آخر"، وهي هنا تعيش جزءاً صغيراً من المعاناة والمأساة الإنسانية التي يعانيها سكان القطاع. فمنذ أن أنهت قوات الاحتلال تفكيك مستوطناتها ومواقعها العسكرية وسحب جنودها ومستوطنيها من أراضي القطاع، دخل الأخير في وضع يصل حدود الكارثة، وسأحاول أن أركز على أبرز جوانب هذه المعاناة، التي تأخذ أبعاداً ومسارات مختلفة، ولكنها تتوحد في أثرها الذي يمس بحقوق الإنسان الأساسية، وبمستوى معيشة السكان، بل وتمس بحقهم في الحياة.

لقد استخدمت قوات الاحتلال سيطرتها وتحكمها المطلقين بالمعابر والحدود التي تربط قطاع غزة ليس بإسرائيل والضفة الغربية فقط بل وحتى بجمهورية مصر العربية، وذلك بالرغم من عدم تواجد جنودها على معبر رفح كما هو الحال في السابق، وحولت هذه المعابر من وسيلة للتنقل والسفر، وطريقا تسلكه البضائع والمواد الخام إلى أداة لمعاقبة السكان جماعياً عقاباً تجلت فيه أسوأ أشكال التمييز العنصري، التي لم تشهدها بريتوريا في عهد نظامها العنصري.

فقد فرضت قوات الاحتلال حصاراً اقتصادياً عبر تحكمها في معبر المنطار، فمنعت دخول البضائع والمواد الغذائية إلى قطاع غزة، بالرغم من معرفتها بأن القطاع يعتمد في المواد الغذائية الأساسية على تلك المستوردة إما من إسرائيل أو الخارج وهي تمر عبر الموانئ والمعابر الإسرائيلية، حيث واصلت تلك القوات رفضها العمل على تشغيل ميناء غزة البحري وواصلت حظر الأجواء الفلسطينية أمام حركة الطيران المدني، كما أنها تواصل التحكم في معبر رفح، سواء فتحه أو إغلاقه أو حتى السماح بمرور المساعدات عنه.  هذا وأسهم إغلاق المعابر في خسائر مادية كبيرة تكبدها التجار والصناعيين، كما ضاعفت من معاناة السكان، فمثلاً؛ تمنع قوات الاحتلال دخول الشاحنات الفلسطينية لنقل البضائع الفلسطينية من الموانئ الإسرائيلية إلى معبر المنطار (كارني) الأمر الذي يرفع كلفة النقل بشكل مبالغ فيه، حيث تثقل كلفة نقل البضائع لبضع كيلومترات من ميناء اسدود إلى معبر المنطار (كارني) كاهل التجار الفلسطينيين، حيث يكلف نقلها 2000$ فيما كلفة نقلها من جمهورية الصين الشعبية إلى ميناء اسدود 1000$ فقط. هذا بالإضافة إلى الرسوم المرتفعة التي يجبر التجار على دفعها بدل أرضيات لتأخر البضائع في الموانئ الإسرائيلية خلال الإغلاقات، أو في انتظار دورها في الدخول، الامر الذي يدفع بعض أصحاب هذه البضائع أحيانا إلى إلقاءها في القمامة بدلاً من تحمل كلفة تفوق قيمة البضاعة نفسها. وبالطبع رفعت هذه الإجراءات من قيمة السلع في السوق المحلية في قطاع غزة، كمواد البناء والمواد الغذائية الأساسية والفواكه وأغذية الأطفال بما فيها الحليب، هذا بالإضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر إلى نسب غير مسبوقة في المجتمع الفلسطيني.

ولم يتوقف الأثر السلبي والخسائر المادية على الواردات من سلع ومواد خام، بل طال أيضاً المنتجات المصدرة، حيث اضطر المزارعون إلى إتلاف محاصيلهم المخصصة للتصدير سواء للضفة الفلسطينية أو لإسرائيل أو الخارج، وكذلك فعلت شركة التطوير الزراعي، التي اضطرت إلى إتلاف عشرات الأطنان من محصول الطماطم/البندورة وأمام عدسات الكاميرات عند معبر المنطار، فيما اضطرت إلى توزيع الجزء المتبقي من منتجاتها على الجمعيات الخيرية. فضربت هذه القيود على حرية تنقل البضائع صناعات قائمة ونشاطات صناعية ناشئة، ومشاريع تجارية كثيرة.

هذا ولا يقتصر أثر الإغلاق على الحالة الاقتصادية، بل هو يطال أوجه الحياة المختلفة، فقد خلفت قوات الاحتلال وراءها كوارث بيئية، كأحواض تجميع المياه العادمة في شمال غزة، والتي تمنع قوات الاحتلال وصول المعدات اللازمة لمشروع وغايات نقلها، حيث تم تعطيل المشروع من قبل القوات الإسرائيلية لسنوات من خلال رفضها كافة الحلول التي اقترحت، كالخط الناقل إلى البحر. أضف إلى ذلك، أنها كانت تستهدف العاملين في إعداد الدراسات الخاصة بمشروع نقلها ومعالجتها في أحواض في المنطقة الشرقية، والتي كان لتدخل مركز الميزان ومكتب تنسيق الشئون الإنسانية دور في ايجاد حل جزئي للمشكلات الناشئة عن ذلك، إلا أن حظر دخول المعدات واستمرار استهداف الموقع المخصص لنقلها لا زالا يحولان دون الانتهاء من التجهيزات اللازمة. والحديث هنا عن ملايين الأمتار المكعبة من مياه الصرف الصحي، التي تجاوزت الأحواض المخصصة لها، ولتنتشر على مئات الدونمات الميحطة، والتي يتوقع خطر انهيار أحواضها ليهدد، ليس فقط حياة السكان، بل والحياة البيئية في بيت لاهيا وجباليا. هذا ناهيكم عن توقف عشرات مشاريع رصف الطرقات وإعادة تأهيل البنية التحتية، التي دمرت قوات الاحتلال أجزاءً كبيرة منها خلال اجتياحاتها المتكررة، فتجد مشاكل طفح مياه المجاري، وتجمع مياه الأمطار في الشوارع والطرقات أمراً عادياً في غزة!

ولم تكتفِ إسرائيل بمنع أو عرقلة وتأخير مرور البضائع التجارية، بل أنها عمدت على منع وصول إمدادات الغذاء والدواء، الأمر الذي هدد بوقوع كارثة إنسانية، حيث المستشفيات تعاني من نقص شديد في الأدوية والمستلزمات الطبية. ولم تسمح قوات الاحتلال بمرور الإمدادات الطبية والانسانية إلا بعد تدخلات دولية وعلى شكل مساعدات، وفي الوقت الذي كانت تشعر فيه بأن خطراً حقيقياً يهدد حياة عشرات الآلاف من الأطفال والمرضى. كما أسهمت في تدهور حالة عشرات المرضى الذين يتعاطون أدوية خاصة كمرضى السرطان مثلاً، فلم يعد بمقدور وزارة الصحة توفيرها، كما انقطعت من الأسواق، وهذا أمر طال أنواع من المضادات الحيوية الخاصة بالأطفال.

كما هدد إغلاق المعبر حياة مئات الفلسطينيين من المرضى المحولين للعلاج بالخارج، فكانت حياتهم مرتبطة بفتح معبر رفح البري، ولكم أن تتخيلوا وضعاً يتهدد فيه الموت حياة إنسان، بسبب نقطة حدودية مغلقة، وعامل الوقت هو الحاسم، إذ ما الفائدة من تأخير فتح المعبر حينها. كما أن من تمكن منهم من الخروج والعلاج عانى كثيراً في طريق عودته حيث أضطر المئات منهم إلى الانتظار أيام على الجانب المصري من المعبر، ومنهم من تدهورت صحته وتوفى وهو في انتظار العودة، أما من توفى داخل المستشفيات المصرية فمنهم من دفن في العريش ومنهم من تحمل ذووه أعباءً مادية كبيرة لإعادة جثمانه بعد أن عانوا في سبيل الحصول على إذن تسمح بموجبه قوات الاحتلال بذلك.

كما أن قوات الاحتلال وإمعاناً منها في معاقبة السكان، منعت دخول إمدادات الوقود والمحروقات عبر معبر الشجاعية (نحال عوز)، وهو أمر جاء مباشرة بعد أن قصفت تلك القوات محطة توليد الطاقة الكهربائية، الأمر الذي هدد بموت المرضى على أسرة المستشفيات، ليس فقط بسبب نقص وانعدام الأدوية وإنما بسبب انقطاع التيار الكهربائي وتوقف مولدات الكهرباء الخاصة بالمستشفيات عن العمل، مما استدعى تدخل الاتحاد الأوروبي لتأمين إمدادات الوقود إلى المستشفيات. وهذا أمر طال أيضاً خدمة توصيل مياه الشرب إلى المنازل، حيث عانت معظم المناطق من نقص حاد في المياه الصالحة للشرب، مما دفع البلديات إلى مناشدة المواطنين تخزين مياه للشرب في جالونات، والامتناع التام عن ري مزروعاتهم.

وفيما واصلت قوات الاحتلال منع وصول المواد الخام إلى ما تبقى من المنشآت الصناعية، فقد تضاعف أعداد العاطلين عن العمل بعد أن فقد آلاف العمال المحليين أماكن عملهم، وهروب أعداد كبيرة من المنشآت الصناعية الكبيرة إلى خارج قطاع غزة، هذا بالإضافة إلى مواصلة تلك القوات حرمان العمال من الوصول إلى أماكن عملهم داخل الخط الأخضر. وجاء الحصار المالي المفروض على السلطة الوطنية ليزيد الطين بلة، ويرفع من أعداد الفقراء لدرجة بلغت نسبتهم حوالي 70% من سكان القطاع، سيما بعد توقف حصول موظفي الحكومة على مرتباتهم، فأصبحوا فقراء كما لم يعد بمقدورهم مساعدة أقاربهم من العاطلين عن العمل.

هذا وألقى الإغلاق بظلاله على الحق في التعليم، حيث اضطر مئات الطلبة الجامعيين إلى البقاء في الخارج وقضاء إجازاتهم الطويلة بعيداً عن أسرهم، ومن استبد به الشوق وغامر بالعودة لقضاء الإجازة بين ذويه فقد عانى الأمرين وهو يحاول العودة إلى جامعته. والأمر نفسه انطبق على الطلبة الدارسين في جامعات قطاع غزة من أبناء المغتربين، فمنهم من اضطر للبقاء في غزة خلال الإجازة ومن غامر بزيارة ذويه فقد عانى كثيراً في طريق عودته، بل إن بعضهم فقد فصلاً دراسياً. وهذا أمر طال أيضاً رجال الأعمال، والعاملين في المؤسسات الأهلية والحكومية، حيث أحجموا عن السفر تخوفاً من أن تتقطع بهم السبل وألا يتمكنوا من العودة بسبب إغلاق المعبر، فعلقت المشاركة في عشرات الندوات والمؤتمرات الدولية والدورات التدريبية.

لكم أن تتخيلوا غزة وسط هذا الكم الهائل من المشكلات البيئية والصحية والاقتصادية والاجتماعية، من مشكلات البطالة والفقر، وانعدام شروط السكن الملائم، من تقييد حرية التنقل والحركة، وسط حالة من شل مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية وجعلها عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها الأساسية تجاه السكان، أعتقد أن العالم قرية صغيرة باستثناء غزة فهي بقعة معزولة عن العالم الخارجي، بقعة يمسخ فيها الحلم ويصطدم بواقع مرير مرارة العيش تحت ربقة الاحتلال.

_____________________

 د. عصام يونس هو المدير العام لمركز الميزان لحقوق الإنسان/ قطاع غزة. حاصل على الماجستير في نظرية وممارسة حقوق الإنسان.

 

©2003-2007
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة لمركز بديل