غيتــو إسرائيــل؛ العنصــريــة شـــرط بقـــاء إسرائيـــل

بقلم: نضــال العـــزة

يحاول هذا المقال، بإيجاز، إلقاء الضوء على ماهية وعمق الفهم العربي- الفلسطيني لعامل العنصرية في توصيف الصراع وإدارته مع الحركة الصهيونية وإسرائيل فيما بعد. والمقال إذ يحاول أن يلقي الضوء على الخطوط الرئيسة التي عكست حركة الإدراك العربي – الفلسطيني لماهية وجوهر الصراع مع الاستعمار البريطاني (الانتداب) والصهيونية وإسرائيل عموما فانه لا يسعى إلى الوقوف على تفاصيل المؤثرات والعوامل الناظمة للتيارات الفكرية والسياسية، إنما يهدف إلى بيان ما ساد من مفاهيم عبر محطات الصراع الرئيسة والاستراتيجيات المتبناة. والمقال إذ يطرق الموضوع في سياق تطوره التاريخي عبر الوقوف على المحطات البارزة والمفاهيم السائدة في لحظتها، فانه لا يسقط من الاعتبار وجود آراء أو توجهات فكرية تمايزت عن تلك السائدة. وعليه، يركز المقال على تقدير عامل العنصرية في تكوين ونشأة وتطور إسرائيل من جهة، وكيفية التعاطي معه فلسطينيا باعتباره احد مكونات الصراع من جهة ثانية. ويخلص المقال إلى محاولة رصد التحولات، إن وجدت، على المستويين النظري والعملي في تعاطي القوى السياسية العربية والفلسطينية مع الطبيعة العنصرية لإسرائيل.

لم يغفل مفكرو الحركة القومية العربية، والفلسطينية كجزء منها، منذ اشتداد التغلغل الاستعماري في المنطقة في أواخر القرن التاسع عشر، عن حقيقة ارتباط الصهيونية بحركة الاستعمار العالمي، وخصوصا البريطاني. كما وظهرت كتابات مبكرة، خصوصا من مفكرين فلسطينيين، أشارت بشكل ما، إلى الطبيعة العنصرية للصهيونية في معرض تناولها لخطر الحركة الصهيونية ودورها في الصراع. ولكن فهم مستوى فعل واثر العنصرية في تكوين الصهيونية كان قاصرا بدليل: أولا؛ فشلها في إدارة الصراع والتحالفات، وثانيا بعدم ايلاء عنصرية الصهيونية الاهتمام  اللازم فكرا وممارسة، حاضرا ومستقبلا، وثالثا فشلها في تقدير سبب تفضيل حركة الاستعمار العالمي للصهيونية عليها برغم  كل ما أبدته بعض تياراتها الرئيسة والفاعلة من استعداد للتحالف أو التعاون معها.

فمن جهة، ظلت الحركة القومية العربية تضع الاستقلال عن الحكم العثماني على سلم أولوياتها برغم تلمسها للتغلغل الأوروبي المتزايد في الشرق الأوسط،  وبرغم إدراكها المبكر لمخاطر المشروع الصهيوني في فلسطين على مشروعي الاستقلال والوحدة. حتى أن بعض تياراتها لم تجد حرجا في التعاون بصيغة تحالفية مع الدول الأوروبية الضالعة هي نفسها في دعم المشروع الصهيوني، وذات المطامع الاستعمارية غير الخافية. وتبين الوثائق التاريخية والأحداث اللاحقة أن انتقادات المفكرين الفلسطينيين لقرارات المؤتمر العربي الأول (1913)، "حيث لم يول خطر الصهيونية المكانة اللائقة"، لم تحل دون وقوع الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها في ذات الشرك فيما بعد. ومن جهة ثانية تبدى قصور كل من الحركتين القومية العربية والوطنية الفلسطينية في إغفال كنه عنصرية المشروع الصهيوني وأبعاده كأحد مكونات الصراع. فهما وان أدركتا مخاطر المشروع الاستيطاني على الأرض، وعلى السيادة، ومشروعي الاستقلال والوحدة، ظلتا غافلتين عن الطبيعة العنصرية للمشروع والذي يستهدف أكثر من ملكية الأرض وأكثر من مجرد السيادة عليها،  وأكثر من مجرد تكريس حالة التجزئة العربية. ليس خافيا أن ما عرف في بدايات القرن المنصرم "بالعمل اليهودي" كمشروع تباشره الصهيونية وتسانده بريطانيا، قد واجه معارضة ومقاومة فلسطينية؛ ولكنهما برزتا كتحد لمشروع الاستعمار والاستيطان في إطار الصراع على الأرض والسيادة عليها وحسب، أما الطبيعة العنصرية لفكرة وكينونة "العمل اليهودي الخالص" فلم تكن ذات شأن في فكر المعارضة أو في إستراتيجية المقاومة.

بكلمات؛ الحركتان: القومية العربية، والوطنية الفلسطينية لم تريا استهداف الإنسان، وليس المقصود هنا بالاستهداف مجرد الإخلاء بالمعنى الفيزيائي، فالإخلاء شكل من أشكال الاستهداف وليس الوحيد، إنما المقصود استهداف الإنسان  في قيمته كانسان أولا، وقيمه باعتباره من "الاغيار" ثانيا، وفي وجوده باعتباره ليس مجرد ضد قائم بل خطر مستقبلي مؤكد ثالثا.


إن مراجعة الكتابات المبكرة التي تناولت أو عرجت على الطبيعة العنصرية للمشروع الصهيوني ووليدته إسرائيل، سواء تلك التي سبقت عهد الانتداب البريطاني، أو تلك التي عاصرته  وتلته، بل وتلت النكبة بزمن ليس بقليل، تظهر أنها ظلت غامضة وفجة إلى أن انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة. ويلاحظ أن تلك الكتابات أسبغت على العنصرية الصهيونية-الإسرائيلية مجرد أوصاف أخلاقية لا ترقى إلى مستوى التحليل المؤسس على أصول يمكن اعتمادها في صوغ برنامج قادر على مواجهة المشروع ومقاومته. بل وأكثر من ذلك، يمكن القول أن تناول الطبيعة العنصرية للصهيونية ووليدتها إسرائيل كان يستند إلى رؤى دينية وتاريخية "مضادة" تندرج ضمن دائرة السجال في إثبات و/أو نفي حق مدعى به، أو ملكية، أو واقعة  ما. وغالبا ما تجاهلت تلك الرؤى ، والتي لم تخرج عن دائرة الآراء الفردية، الواقع المعطى الملموس القائم في لحظته؛ فأهملت دراسته ولم تتكلف عناء الكشف عن عوامل "العنصرة" الفاعلة فيه. وقد أدى هذا إلى قصر إبراز الصراع وكأنه صراع ديني تاريخي و/أو صراع موضوعه حق ملكية الأرض والسيادة عليها؛ وكأنه صراع  موغل في التاريخ منقطع عن حاضره في أسبابه ومكوناته؛ أو كأنه نزاع على عقار مختلف على ملكيته. يضاف إلى ذلك، أن بعض تلك الآراء سقطت في شرك العنصرية التي كانت تناهضها.  لقد أفادت الصهيونية وإسرائيل من ذلك النمط من الكتابة و"التحليل"، بقصد أو بدون قصد، في تعزيز مزاعمها وأكاذيبها باستخدام دعاوى معاداة السامية، واستمرار الظلم التاريخي وغيرها.

مما لا شك فيه أن هذا القصور يعود في جزء كبير منه إلى حداثة فلسفة وحركة حقوق الإنسان المعاصرة في سنوات ما قبل 1948، حيث لم تكن العنصرية، مفهوما وسلوكا، محرمة قانونا، أو معرّفة كسياسة لا إنسانية، بل كانت مجرد خلق قد يعاب من يأتيه. ولهذا بقي البعد العنصري للصهيونية وإسرائيل مضببا ومحاطا بتعابير اقرب إلى التوصيف الأخلاقي أو الأدبي غايته استنفار حماس المستمعين أو المتلقين لا أكثر.

هذا القصور ظل باديا حتى بعد النكبة عام 1948، وخير دليل على ذلك مضمون شعار "التحرير" الذي رفع آنذاك. إن شعار التحرير الذي رفعته الدول العربية، والقوى السياسية آنذاك، كان موضوعيا ذا مضمون "متخلف" في تناوله للصراع وماهية حله. صورت عملية التحرير للفلسطينيين ومن خلفهم كل الجماهير العربية على أنها عودة بالزمن إلى الماضي، بمعنى: تمت صياغة الوعي العربي على نحو يعود فيه الفلسطيني تماما كما كان وحيث كان قبل النكبة من جهة، وبدت عالميا على أنها مجزرة لن تبقي ولن تذر من اليهود من جهة ثانية. وبهذا أضيف إلى عوامل "العنصرة" في التكوين الإسرائيلي عامل جديد هو عامل الإبادة على يد العربي/الفلسطيني المتربص خلف الحدود، أو عقر الدار. .إن عملية التحرير كما صورت آنذاك لم تؤد إلى مراكمة الإحباط والعجز في نفوس وإرادة الجماهير العربية فحسب بل أدت إلى استقطاب المزيد من الأعداء إلى المشروع العربي. وذلك لا يعدو كونه تعبير ينم عن قصور في فهم التحولات الحقيقية على المستويين: الدولي، والتكوين الخاص بإسرائيل الناشئة (الدولة - المجتمع).  

على المستوى الدولي تبدى الفهم القاصر في امرين:


الاول: الدلالة العملية للاعتراف الدولي بإسرائيل من قوى المجتمع الدولي الرئيسة والمؤثرة. فإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي نشأت بموجب قرار دولي؛ ولا بد أن في الأمر أكثر من مجرد عدم فهم لواقع الأمور من قبل الدول والقوى العالمية، أو مجرد تصدير للمشكلة اليهودية، أو مجرد خلق لقاعدة استعمارية- استيطانية كلاسيكية متقدمة  في قلب الشرق.

الثاني: سر اجتماع القوى الاستعمارية على مساندة إسرائيل وتفضيلها على الدول والقوى العربية المندلقة على التحالف مع قوى الغرب الاستعماري.

على المستوى الأول، تبدى القصور في فهم العلاقة الناظمة لتحالف الصهيونية مع قوى الاستعمار العالمي من جهة كما وتبدى في فهم مشيئة القوى الاستعمارية في بقاء إسرائيل من جهة أخرى. وعلى المستوى الثاني، تبدى القصور في عدم فهم نتائج النكبة، وفي عدم فهم مسار تطور إسرائيل الناشئة.

وبالطبع ليس في هذا إنكار لوجود آراء وتيارات متقدمة في تحليلها لعلاقة التحالف بين إسرائيل وقوى الاستعمار، أو لطبيعة الكيان الناشئ (إسرائيل)؛ لكنها بقيت إما فردية أو ثانوية مهمشة؛ حتى انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة.  لقد نجحت قوى الثورة الفلسطينية في بيان العلاقة الناظمة لتحالف الصهيونية مع قوى الاستعمار والأخيرة مع إسرائيل. كما وتقدمت خطوات جد مميزة في قراءة التكوين الخاص لإسرائيل كقاعدة استعمارية استيطانية ذات دور وظيفي ليس له علاقة "بدعوى حل المشكلة اليهودية"، ويتجاوز دورها مجرد السيطرة على الأرض والسيادة عليها. ورغم ما أحدثته قوى الثورة من إبداع استراتيجي بالقياس إلى التجارب السابقة في فهم الصراع وإدارته، وفي طرح هدف "الدولة الديمقراطية" او المجتمع التقدمي... دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو اللون"؛  إلا أنها عانت من خللين رئيسيين تجليا في الاتي:

الأول: "رفض تدويل القضية الفلسطينية"، هذا المبدأ الذي مثل عمليا ردة فعل على مساندة قوى الاستعمار العالمي لإسرائيل. حتى منتصف السبعينيات تجسد عمليا هذا المبدأ في عدم التفريق بين القوى الرسمية وغير الرسمية، وفي عدم ملاحظة الفروق بين مستويات فعل كل قوة على انفراد. واستمر الأمر على هذا النحو إلى أن جرى الانتقال بخطوات دراماتيكية إلى حلقة "الفعل" في الأوساط الرسمية، تحت شعار إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالتعاون مع القوى الرسمية؛ وهذا ما عرف أو ما يحبذ البعض تسميته "بهجوم السلام الفلسطيني". إلى جانب ذلك، حركة الارتداد تلك أدت إلى تغييب شبه كامل للفعل الفلسطيني الرسمي عن ساحة العمل في الأوساط غير الرسمية- قوى المجتمع المدني.

الثاني: إهمال دراسة المجتمع الإسرائيلي؛ وليس المقصود هنا مجرد الاطلاع  على الخارطة السياسة ودورات الانتخابات  وبرامج الأحزاب... إنما المقصود دراسة التكوين المجتمعي للكيان الناشئ؛ هذا  التكوين الاجتماعي والاقتصادي بتجلياته الايدولوجية والقانونية والمؤسساتية وحتى النفسية.  ولعل اخطر نتائج هذا الإهمال على الإستراتيجية الفلسطينية إلغاء قرار الجمعية العامة الذي يعتبر الصهيونية حركة عنصرية، وإسقاط البعد السياسي لمعاناة فلسطينيي 1948، وكأنه إقرار ضمني بإسرائيل كدولة يهودية. وبالتالي أسقطت من جديد حقيقة أن إسرائيل المجتمع المتكوّن بقرار دولي أو الكيان المحدث قد تشكل ولا زال يشكل بنيويا بالاستناد إلى مفاهيم ايدولوجية عنصرية تساندها في ذلك صراحة أو ضمنا قوى الغرب المتزعمة لحركة "الدمقرطة" ونشر حقوق الإنسان.

 


ولتصحيح مسار الاستراتيجيا الفلسطينية في فهم الصراع وإدارته على كل المستويات يلزم توضيح ومراجعة عوامل "العنصرة" في الايدولوجيا الصهيونية وفي التكوين الخاص بالمجتمع الإسرائيلي أولا، ودور الاستعمار العالمي في تغذية هذه العوامل و/أو تعزيزها و/أو التغاضي عنها ثانيا. وقبل تناولهما، لا بد هنا من الإشارة إلى أن عوامل "العنصرة" في الايدولوجيا الصهيونية وتكوين إسرائيل ودور وموقف الاستعمار العالمي في ذلك، عنصران تفاعلا تاريخيا في نفس دائرة التقاء المصالح بين الطرفين، ولا زالا يتفاعلان استنادا إلى ضرورة المحافظة علي تلك المصالح التي تجمع إسرائيل بالاستعمار العالمي.

يمكن تحديد عوامل "العنصرة" في الايدولوجيا الصهيونية وتكوين إسرائيل فيما بعد على النحو الآتي:

- الفكر الاسترجاعي: وهو مجموع الأفكار والتعاليم والتصورات  المستوحاة من تعاليم دينية وأحكام تلمودية وأساطير. ومن ابرز مقولات الفكر الاسترجاعي: "شعب الله المختار"، و "ارض الميعاد"، "العرق اليهودي الخالص/ النقي"، "إباحة دم، ومال، وعرض الغير"، "دنو الاغيار إلى ما دون مرتبة الإنسان"، " سمو العرق اليهودي على الاغيار وتميزه عنهم"...إلى غيرها من المقولات المكونة للإطار الناظم للتشكيل الصهيوني وإسرائيل.

-  "العقلية الانعزالية" الناشئة عن التقوقع و العيش في "الغيتو" طوعا أو قسرا؛ حيث لم يعد بالإمكان تجاهل اثر حياة الغيتو على التكوين الصهيوني وإفرازاته. والسؤال المعلق هنا ما اثر ذلك على تكوين إسرائيل؟

 يجمع الباحثون على أن الغيتو كاصطلاح ارتبط بالمناطق السكنية الخاصة باليهود التي وجدت في أوروبا في فترة زمنية محددة. ويجمعون أيضا على أن الغيتو في نشأته الأولى كان طوعيا ولم يتحول إلى نظام قانوني قهري إلا في العام 1556، على يد البابا بولس الرابع. وقد برر اليهود لأنفسهم وجود الغيتو بحاجات نابعة من أصول الديانة اليهودية وخصوصيتها أو تطبيقا لتعاليم التلمود، استنادا إلى ضرورة التميز عن الاغيار للمحافظة على النقاء العرقي، والصفاء الروحي والطهارة الخالصة وغيرها من التعاليم التلمودية. ويرى آخرون أن الغيتو ارتبط تاريخيا إلى جانب المعتقدات الدينية بعوامل اجتماعية واقتصادية تتصل بتكوين كل مجتمع في فترة زمنية محددة، ولم يأخذ شكل القمع السياسي إلا في أوقات متأخرة تبعا لحاجات النظام السياسي السائد. وبدون الحاجة إلى الدخول في التفاصيل، يمكن القول أن الغيتو سواء كان طوعيا، أو إجباريا، هو ظاهرة أوروبية ارتبطت بالوجود اليهودي، والاهم من كل هذا وذاك انه بنوعيه: الطوعي والإجباري، قد كان له دور حيوي في صياغة العقلية اليهودية الغربية "الاشكنازية" تحديدا؛ هذه العقلية التي أنتجت الصهيونية بتياراتها المختلفة السياسية والأصولية الأرثوذكسية.  ولتوضيح ذلك نرى أن ما كتبه ديفيد شاشا في كتابه: "حضارة الاشكناز الحديثة: عودة الى الغيتو" يفي بالغرض حيث يقول:

...بدأ الأشكنازيم، الذين كانوا يعيشون في ظل الهيمنة المسيحية المختلفة جداً عن الهيمنة الإسلامية في أسبانيا، إفريقيا الشمالية والشرق الأوسط، بتطوير الحصرية الأهلانية التي كانت، في أكثر من ناحية، الصورة المطابقة للاضطهاد الذي كان يتلقاه اليهود. وأصبحت الجالية اليهودية، جوهرياً، جالية منظمة على غرار المجتمع المضطهِد – أُجبر أعضاؤه على التكيف مع نموذج من السلوك والإيمان الضيق جداً والذي لم يترك متسعاً لحقائق كون خارجي. لذلك تمسك الأشكناز بتفسيرات وتطبيقات متشددة وأحياناً غامضة جداً للهالاخا · (Halakha) اليهودية التي أجبرت أعضاءها على التصرف بطرق مقيدة بشكل استثنائي.

 وتجسيدا لفكرة الغيتو وأثرها على تكوين إسرائيل الخاص نقرأ ما كتبه وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق، أبا إيبان؛ ففي كتابه "صوت إسرائيل"، أكد أن هدف إسرائيل يجب ألا يكون الاندماج في الفضاء العربي والإسلامي لأن الوطن اليهودي في رأي الصهيونية "يجب أن يخلو تماما من العرب". يبدو أن قادة إسرائيل كانوا منذ البداية مدركين لحقيقة أنهم يتجهون لخلق غيتو اسمه إسرائيل. فهل أدرك العالم والحركة العربية والفلسطينية ذلك؟

- تأطير معاناة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية وتصنيفها ضمن مفهوم العداء للسامية على نحو هو ذاته عنصري. لقد نجحت إسرائيل والصهيونية من ذي قبل في استثمار "اللاسامية" وتوظيفها لا للانعتاق بل لتبرير العنصرية ذاتها. وكما يقول نوعم تشومنسكي: "إذا كانت اللاسامية ظاهرة نشأت، كما يؤكد الباحثون المختصون، في أوروبا في أواسط القرن التاسع عشر، وتنامت مع تنامي الصراعات الداخلية الاجتماعية-السياسية، وتبلورت كشعار يستعدي العامة ضد اليهود، أو يستقطب العامة عبر التحريض الشوفيني، فإنها أي اللاسامية ذاتها، أصبحت أداة بيد الصهيونية تستخدمها لتحريض اليهود أو لتبرير عنصرية الصهيونية وإسرائيل". لقد أصبحت الحل السحري لإسكات أي انتقاد أو صوت يمس إسرائيل ولو جاء على سبيل العتاب. لقد وصل الأمر في كثير من الحالات إلى الابتعاد عن نقد إسرائيل، أو مهاجمة مشروعها، وقوانينها، وإجراءاتها ...من باب الاحتياط خوف الوقوع في قفص الاتهام باللاسامية- الوجه الآخر للعنصرية. وغني عن القول أن كثيرا من المفكرين والسياسيين والأطر على اختلافها قد تحاشت ، ولا تزال، التعرض للصهيونية وإسرائيل وذلك لتجنب سطوة الاتهام. ولقد وقعت الحركة العربية والفلسطينية في ذات الشرك توهما منها أنها بهذا قد تجني تأييدا عالميا أوسع. فهل السكوت عن، أو تجنب التعرض للطبيعة العنصرية للصهيونية وإسرائيل يخدم مشروع التحرر والإنسانية حقا؟! إن العزوف عن الحقيقة بالتجاهل أو لأي سبب كان لهو أقبح من عدم إدراكها، وبتعبير سياسي هو ديماغوجيا لا متناهية.

- رواسب مفهوم التحرير، كما صور بعد النكبة وقبل انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، حيث لا زالت تمثل لليهودي عموما، سواء كان إسرائيليا أم لا، وللعالم أيضا، النمط المقابل تماما لمفهوم المجزرة أو الهولوكوست. والمقصود هنا، أن قوى الفعل السياسي العربي والفلسطيني، حتى تلك المسماة معتدلة، أخفقت حتى الآن في تبديد ما رسخ عن مفهوم التحرير لفلسطين في أذهان اليهود أنفسهم والإسرائيليين والعالم اجمع. وهذا لا يسقط من الاعتبار أن تحولا قد احدث على هذا الصعيد، ولكن بفعل قوى فاعلة من اطر المجتمع المدني وناشطيه.

 إن عوامل"العنصرة" التي وظفت من قبل الصهيونية إبان نشأتها وقبل تأسيس إسرائيل مضافا إليها ما أبدعته إسرائيل نفسها، لا زالت تشكل الإطار العام الذي تدور فيه الشخصية اليهودية الإسرائيلية. إن هذه العوامل لم تلق الاهتمام الكافي من قبل القوى السياسية الفلسطينية والعربية. فعلى الرغم من وجود دراسات وكتابات تحليلية متميزة تناولت الموضوع، أي البعد العنصري في التكوين الإسرائيلي؛ إلا أن هذا البعد ظل هامشيا في الاستراتيجيا الفلسطينية نظريا وعمليا. إن المؤسسات الأهلية، وعدد من المفكرين والكتاب قد أسهموا في بيان عنصرية التكوين الإسرائيلي أكثر مما أسهمت به الحركة الوطنية. وقد تميز في هذا المضمار دور فلسطينيي الخط الأخضر ومفكريهم وأطرهم، وذلك بعد أن باشروا بإثارة قضيتهم كأقلية مضطهدة، ومستغلة، وذات حقوق سياسية ومدنية مهدورة، وخاضعة إلى نظام عنصري يبرر ذاته بمفهوم الدولة اليهودية الخالصة. وقد اخذ الأمر بالامتداد أفقيا في أوساط قوى المجتمع المدني الفلسطيني الفاعلة في الضفة الغربية وقطاع غزة خصوصا في ظل استمرار إسرائيل في بناء الجدار، وعزل غزة.

علاقة الاستعمار العالمي بالطبيعة العنصرية للصهيونية وإسرائيل
:

أبدع الفكر العربي والسياسي الفلسطيني بعد انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة  في تحليل علاقة الارتباط العضوي بين الصهيونية وإسرائيل وحركة الاستعمار العالمي، هذا الارتباط الذي يجد التعبير عنه في مظاهر ثلاثة هي: انتماء القيادة الصهيونية إلى الطبقة الرأسمالية الأوروبية والأمريكية فيما بعد، تلاقي المصالح، الرغبة في قسم ظهر الحركة العربية والوحدوية عبر إيجاد كيان يؤدي دورا وظيفيا في المنطقة. والسؤال الذي نعتقد انه لم يطرق بجد هو ما دور الاستعمار العالمي وأثره في التكوين العنصري للصهيونية وإسرائيل؟

يمكن طرق الموضوع مباشرة بكلمات أخرى ، ودون الحاجة إلى الرجوع إلى تفاصيل تاريخية، من خلال تناول سر استمرار تفضيل الصهيونية، وإسرائيل على أية قوى عربية/ فلسطينية مهما أبدت الأخيرة من تعاون وإخلاص.

وللإجابة على هذا السؤال يمكن الوقوف على حقيقتين متداخلتين. الأولى: دفع الاستعمار العالمي باتجاه زرع كيان استيطاني في قلب الوطن العربي لأداء دور وظيفي (الذراع الضاربة، تكريس التجزئة، إدامة التبعية والتخلف). ولقد تم تناول هذه الحقيقة بالتحليل، وتم تضمينها في استراتيجيا التحرر عموما. والثانية حاجة الاستعمار العالمي إلى إدامة قدرة الكيان المحدث (إسرائيل) على أداء دوره الوظيفي. وفي هذا الصدد تركزت التحليلات على الدعم السياسي، والعسكري، والاقتصادي، وبالطبع الإعلامي المقدم لإسرائيل في سبيل تمكينها من أداء دورها الوظيفي. ولكن قلما تجد دراسة تتناول اثر صنوف الدعم المختلفة على التكوين العنصري لإسرائيل.

إنه لمن الثابت أن الاستعمار كان يريد للقائم بالدور الوظيفي أن يبقى مخلصا مضمون الجانب استراتيجيا. هذه الغاية التي تبرر أو تفسر سعيه دائما إلى المحافظة على ارتباط الكيان الوظيفي بالمركز، بصرف النظر عن التعارضات التكتيكية والتي تظهر ما بين فينة وأخرى، وعلى تميز هذا الكيان. ولعل هذا الأمر هوا ساس المفاضلة بين إسرائيل وأية دولة أو قوى عربية تقف بالباع والذراع إلى جانب الاستعمار. من هنا يمكن القول أن ضرورة المحافظة على الدور الوظيفي كما يراه الاستعمار العالمي يتطلب بالضرورة المحافظة على تمايز هذا الكيان عن المنطقة، بمعنى عدم القابلية للانصهار في المجتمعات المحلية. ومن هنا يصح القول والاستنتاج أنه إذا كانت الصهيونية في بدايتها قد صاغت الفكر الايدولوجي الاسترجاعي لتحقيق مشروعها العنصري، فان الحركة الاستعمارية قد غذت ذلك، وأكثر من هذا إنها ولإغراض المحافظة على الدور الوظيفي لإسرائيل وإدامتها ترى ضرورة المحافظة على تمايزها عن محيطها المشرقي. وتأسيسا على ذلك يمكن فهم دور الاستعمار في التكوين العنصري لإسرائيل حيث أن هذا التكوين هو شرط إدامة التحالف الاستراتيجي، وضمان القيام بالدور الوظيفي. وبمعنى آخر لا بقاء لإسرائيل إن لم تكن مختلفة جوهريا عن محيطها وغير قابلة للانصهار فيه إطلاقا.  وعليه، يمكن فهم معادلة الكيل بمكيالين العالمية كلما تعلق الأمر بإسرائيل وسياساتها. وعليه أيضا يمكن فهم لماذا تصر إسرائيل على صوغ عنصريتها على نحو يضمن لها تميزها عن المجتمع المحيط.

بمعنى؛ انه إذا كانت قوى الاستعمار العالمي لم تخف رغبتها، (منذ حملة نابليون وخطة بالمر ستون وزير الخارجية البريطاني الذي التقط دعوة نابليون لليهود لتأسيس دولتهم المتميزة في الشرق مقابل إسناد حملته،  حيث أسس لها بالمرستون (1840) في السياسة البريطانية فيما بعد)، في إنشاء "كيان غريب" موال لها استراتيجيا في المنطقة، فان المؤشرات كلها تشير إلى أن تلك الإرادة كانت تنطوي على إدراك بان هذا الكيان يجب أن يكون غير قابل للانصهار في محيطه وذلك لضمان طواعيته، وولائه للمركز على المدى الاستراتيجي. وان عدم القابلية للانصهار هي التعبير عن ضرورة تمايزه إطلاقا عن المحيط، أو قل هي التعبير المخفف للعنصرية. قد لا يكون الأمر  قدر على أن النتيجة ستكون كيانا عنصريا ولكن الثابت هو الرغبة في أن يكون مختلفا. وليس أدل على ذلك من التلاعب على البرجوازية العربية الناشئة التي كانت تتمنى خدمة قوى الاستعمار وقد عرضت نفسها كبديل مرارا وتكرارا، ولكن تم جرها إلى "خنادق الولاء" دون منحها المكانة البديلة لإسرائيل أو حتى المماثلة لها. لقد أدرك ذلك هرتزل مبكرا وصاغه في تطميناته لقوى الاستعمار حيث قال في كتابه "الدولة اليهودية": "... في فلسطين سنشكل جزءا من جدار أوروبا ضد آسيا...قاعدة أمامية للحضارة ضد الهمجية"،  وقد وظفت هذه الدعوة من قبل الصهيونية وإسرائيل فيما بعد كقاعدة للانطلاق نحو بناء التحالفات لتحقيق المشروع الصهيوني في فلسطين وإدامته.

واليوم ذات الشيء يجري مع القوى السائدة المسيطرة، إذ يجري تطمينها ودعمها ولكن بحدود اقل من اسرائيل وذلك لسبب بسيط، عبر عنه الرئيس ريغان في خطابه دفاعا عن مشروعه في مطلع الثمانينيات  "دمقرطة العالم بقوة التدخل المباشر" بالقول: "لا يجب السماح بتكرار ما حدث في إيران؛ ليس هناك نظام عربي أو إسلامي مضمون الجانب استراتيجيا كما هي إسرائيل في المنطقة".

خاتمة:
إن قوى الاستعمار العالمي، قديما وحديثا، أدركت وتعلم الطبيعة العنصرية للصهيونية وإسرائيل، وتدرك  أن هذه الطبيعة هي شرط بقاء إسرائيل مضمونة الجانب لأداء الدور الوظيفي المنوط بها. لان عكس ذلك يعني تحولها  لدولة قابلة للاندماج في المحيط المشرقي الأمر الذي قد يترتب عليه فقدان حليف استراتيجي إذا ما صار ينظر إلى الغرب بعين الشرق، أو ينظر للشرق بعين المشرقيين أنفسهم. ومن جهة ثانية يدرك قادة الصهيونية وإسرائيل أن شرط بقاء إسرائيل هو المحافظة على تمايزها عن المحيط وهو ما يتجسد فعليا في عنصريتها. لقد آن الأوان لمراجعة معادلة الصراع برمتها من قبل القوى العربية والفلسطينية من اجل وضع إستراتيجية نضالية تقضي على عنصرية إسرائيل، وتكشف مدى إسناد العنصرية من قبل دول تتزعم حركة الدمقرطة وحقوق الإنسان، وتخرج الفلسطينيين من دائرة البحث عن حقوقهم في التاريخ أو في أوهام سلام أوسلو.  لم يعد من الصحيح التغاضي أو تجاهل عملية الادلجة العنصرية (التربية التلمودية)، الجارية منذ عقود في إسرائيل وفي أوساط اليهود والعالم. ليس من الحكمة الارتداد عن محاربة العنصرية بكل أنماطها خوفا من سطوة الاتهام بمعاداة السامية، أو لمجرد أن بعض التعاليم العنصرية ذات اسناد دينية؛ إن مواجهة الصهيونية والكشف عن عنصرية إسرائيل وتواطؤ الاستعمار في إدامة تلك العنصرية، تستدعي؛ لكي تكون العملية التحررية حقيقية، مناقشة تلك الأصول وتقيمها لا من وجهة القداسة، أو الحلال والحرام، بل استنادا إلى معايير العصر أي معايير وقوانين حقوق الإنسان.

_____________

نضال العزة هو المنسق الإعلامي لبديل/ المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، ماجستير قانون دولي/ حقوق الإنسان، وهو محرر مشارك في جريدة حق العودة.