دعــوة الــى إعـــادة تعريــف الصــراع فلسطينيــا

بقلم:نهـــاد بقاعــي

لا بد لي أولا التأكيد على جملة من الضوابط المهمة، وهي اولا أن النقدية التي قد تطفو على سطح هذا المقال، لا تطمح باي حال من الأحوال الى التقليل من الدور التاريخي للحركة الوطنية الفلسطينية، بالأخذ بعين الاعتبار طبيعة عملها في مناخ من المستحيلات السياسية. وثانيا، في ان هذه الحركة الوطنية التي ترعرعت في كنف هذا الصراع، التي تأثرت فيه وأثرت فيه، هي حركة دينامية، استطاعت ان تجد لنفسها موقعا، عبر التكيف مع متغيرات حاصلة والتعامل معها.
في إطار التوصيف العام، نظرت الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ بلوغها سن الرشد في عشرينيات القرن الماضي، الى فلسطين (التي تشكلت لأول مرة كوحدة جيو-سياسية واحدة منفصلة عن سوريا الكبرى)، كوطن مهدد يتعرض لحملة استعمارية غريبة، تضرب بعرض الحائط رغبات الفلسطينيين وحقهم في تقرير المصير. بهذا المعنى، فإن نضال الحركة الوطنية الفلسطينية ظل منذ ذلك الحين ولغاية اللحظة نضال من أجل الشرعية. في المقابل، فقد نظرت الحركة الوطنية في الغالب الى الحركة الصهيونية على انها نقيضها الفطري، مع تركيزها على وجوب الفصل بين صدامها مع الصهيونية كحركة عدوانية، عنصرية استعمارية،

  وبين اليهودية كدين سماوي تكن له الاحترام. بل أن فصائل اليسار الفلسطيني وخصوصا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قد ذهبت الى أبعد من ذلك، عندما اعتبرت ان عملية تحرير فلسطين هي عملية تحرير للجماهير اليهودية "التي حشدتها الامبريالية والصهيونية لتستعملها وقودا". خارج إطار هذا التوصيف الفضفاض، وشعارات عريضة قامت عليه لاحقا، كالتحرير والدولة وغيرها، فقد ظل التعامل الفلسطيني مع الصراع بشكل عام، وطبيعته، وحله، ووسائل حله، تتمايل على محاور عدة، وتتراوح بين مد وجزر، تصل في أحيان الى حد التضاد، والتي كان له الأثر الكبير في غياب رؤيا فلسطينية واضحة المعالم تجاه الصراع تقترب من حدود الاجماع الوطني. فيما يلي نستعرض أبرز هذه المحاور.

الصهيونيــة والرأسماليـــة: مــن يخــدم مـــن؟

نظرت فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية الى العلاقة بين الصهيونية والقوى الرأسمالية ومنها الإمبريالية على أنها وظيفية خدماتية، وعلى أنها إلتقاء مصالح بدرجة أقل. فنعتت الحركات والفصائل الفلسطينية، باختلاف تياراتها الفكرية والسياسية المشروع الصهيوني على أنه "ذراع طويل"، و "موطئ قدم" و "قاعدة بشرية" و "رأس حربة" وغيرها من المصطلحات في خدمة الرأسمالية والإمبريالية لضرب "حركات التحرر الوطني"، أو "الأمة الإسلامية" أو "الوطن العربي"، كل حسب مرجعيته الأيديولوجية والفكرية.

وقد عرفت عصبة التحرر الوطني (حزب شيوعي في عهد الانتداب) في برنامجها السياسي للعام 1946، على أن الصهيونية هي "حركة عدوانية في خدمة الامبريالية ومعادية للأمة العربية ولليهود أنفسهم". وهي أفكار أعاد طرحها اليسار بقوة بعد النكبة. فقد حددت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي الفصيل اليساري الأبرز فلسطينيا، على أن "الهدف الرئيسي للغزوة الصهيونية كان - ولا يزال- زرع قاعدة بشرية مسلحة تستند إليها الإمبريالية للوقوف في وجه حركة التحرر العربي التي يشكل انتصارها تهديداً للمصالح الإمبريالية في هذه المنطقة الحيوية من العالم." وبالتالي فمعركتها [الجبهة الشعبية] هي ضد الإمبريالية جمعاء وليس حكرا على الصهيونية. أما حركة فتح، فكانت اكثر تحفظا، حين اعتبرت الصهيونية "حليفا طبيعيا للاستعمار والامبريالية العالمية"، وهو ما أكده أيضا الميثاق الوطني الفلسطيني المقر في العام 1968. ورأت الحركات الإسلامية ومنها حركتا حماس والجهاد الاسلامي في الصهيونية "رأس الحربة للمشروع الاستعماري الغربي المعاصر فـي معركته الحضارية الشاملة ضد الأمة الإسلامية".

عموما، فإن الخطاب الفلسطيني قد حاول جاهدا التقليل من أهمية "فلسطين" أو "أرض إسرائيل" في الفكر الصهيوني، وفي أن الإنجاز الذي حققته الصهيونية في إنشاء إسرائيل لم يكن ليتم بدون دور استعماري غربي فاعل، ولم يعر اهتماما كافيا في نشوء وتطور الييشوف- مجتمع الاستيطان في فلسطين في عهد الانتداب وإسرائيل منذ العام 1948، إلا من باب الرفض ورد الفعل. وهو ما يفسر جزئيا اكتشاف الفصائل الفلسطينية في مرحلة لاحقة حقيقة استغلال إسرائيل لنفس هذه الأنظمة الرأسمالية الغربية لتمرير مخططات صهيونية بحتة، الأمر الذي يتطلب محاولة كسب هذه الدول الى الصف الفلسطيني. لم يكن هذا السلوك جديدا، فقد شكل الانتداب الآصل في هذه الجدلية. ففي الوقت الذي عنون فريق من الفلسطييين، وعلى رأسهم الشيخ عز الدين القسام، حكومة الانتداب كعنوان للجهاد المسلح، فقد نظر فريق آخر، ومن بينهم الحاج أمين الحسيني في مراحل متفرقة، على ضرورة تركيز الصراع على الحركة الصهيونية، وليس الانتداب وإبقاء باب المبادرات السياسية مع حكومة الاخير مواربا.

من هذا المنطلق، تعاملت الحركة الوطنية الفلسطينية مع الصهيونية وممارستها على أرض الواقع ضمن إطار "الفهم الضمني". فقد انحصر الخطاب على كون العنصرية هي احد أوجه الاستعمار، والتمييز والفصل العنصريان هما وجهان من وجوه العنصرية. وبالتالي، فإن شعارات التحرير الكامل جاءت لتواجه الاستعمار، وهو أصل المشكلة، وليس مخلفاته التي ستزول حتما بزوال المُسبب.

الوحــدة والتحريــر: الشــرط أم التكامـــل؟

بعد نكبة فلسطين في العام 1948، حمل عموم الشعب الفلسطيني أمل الخلاص من الأنظمة العربية، خصوصا وما رافق هذه السنوات من مد قومي كبير. وكانت فلسفلة الفصائل الوطنية الفلسطينية تتمحور اساسا في جر الأنظمة العربية الى مواجهة عسكرية مع إسرائيل. غير أن الانكسار الخاطف للجيوش العربية في حرب العام 1967، قد ادى الى تبدل وجهات النظر الفلسطينية. عموما، فقد برز في تلك الفترة توجهان إثنان، الأول قادته حركة فتح ومن ثم منظمة التحرير الفلسطينية، والقاضي بعدم التدخل في شؤون الدول العربية، وتركيز على تحرير فلسطين تحت شعار "فلسطنة الثورة" وحددته منظمة التحرير في الميثاق الوطني الفلسطيني على أن العلاقة بين تحرير فلسطين والوحدة العربية هي "علاقة تكاملية". اما التيار الثاني، فقد قادته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتي نظرت الى الصراع على انه ملتحم مع الأنظمة العربية "التحاما عضويا"، وبالتالي فإن استبدال الأنظمة الرجعية هو شرط أساسي لتحرير فلسطين، حيث ترى الجبهة ان التناقض مع الرجعية العربية "تناقضا رئيسيا لا ثانويا".

أما حركة الجهاد الاسلامي التي ظهرت في اواسط الثمانينيات، فقد اضافت ثنائية مصطنعة ما بين الديني والوطني، تحت شعار "مركزية فلسطين في المشروع الاسلامي المعاصر".  ورغم ان الجهاد الاسلامي لا تطمح الى التدخل في شؤون الدول العربية او تغييرها، إلا ان المشروع الاسلامي المعاصر يتطلب، حسب المنطق، بدرجة كبيرة تبديل أنظمة الحكم القائمة.

بيــن الاستراتيجيــة والتكتيــك، النظريــة والتطبيـــق: تأرجــح الخطـــاب


شكل الخلط بين الاستراتيجية والتكتيك، والفصل بين النظرية والتطبيق وما نتج عنه من تأرجح للخطاب الوطني مركبا أساسيا في غياب رؤيا اكثر عمقا. فقد شكل التأرجح الايديولوجي صفة ملازمة لتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، وخصوصا اليسار منها. وقد شهدت الحركة الوطنية فوضى ايديولوجية مزجت فيها التيارات والمشارب الفكرية المختلفة، فانتقل القوميون مثلا الى الاشتراكية، مطلقين على نفسهم إسم "اليسار الجديد" و"الماركسية القومية" تمييزا لهم عن الاحزاب الشيوعية. وما من شك ان التأرجح الأيديولوجي للحركات الفلسطينية على قاعدة استيراد الايديولجيا وتطبيقها جاهزة على نمط الوجبات السريعة على الواقع الفلسطيني، ومن ثم الانتقال الى ايديولوجيا أخرى، قد أنهك الفصائل الفلسطينية وكوادرها في محاولات إثبات رشد التوجه الأيديولوجي لكل حزب وفصيل، واشغلهم بدرجة كبيرة عن تطوير منهج عملي مشترك قادر على الجمع بين تيارات سياسية وفكرية مختلفة، في التعامل مع الصراع، وتوحيد الرؤية والاستراتيجية والخطاب. كما قادت الانشقاقات المتكررة الى تحالفات لم تكن بالضرورة ذات قواسم أيديولوجية أو فهم مشترك للصراع.

في الخلط بين الاستراتيجية والتكتيك، يظل مجرى العلاقة بين حل الدولة الواحدة وحل الدولتين الأبرز في هذا السياق. فإذا كانت الحركة الوطنية الفلسطينية قد حسمت برنامجها ضمن إطار التحرير في الخمسينيات، وارتقت به في أواخر الستينيات الى نموذج الدولة الديمقراطية العلمانية، فإن منظمة التحرير التي تشكل مظلة هذه الحركة قد دخلت سريعا منذ النصف الأول من السبعينيات في مشروع إقامة "سلطة وطنية مقاتلة على أي جزء محرر"، او ما عرف في الأدبيات الفلسطينية بـ "البرنامج المرحلي". بقي غياب الرؤية يراوح مكانه لحين اعلان الاستقلال، ومن ثم توقيع اتفاق اوسلو وما حمله من اعتراف باسرائيل. في ذات الوقت، فقد ظلت الحركات الأخرى، ونقصد أساسا الحركات الإسلامية كحماس تضع التحرير الكامل شعارا، ولكنها لا تعارض إقامة دولة مستقلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 كأحد شروط هدنة طويلة الأمد. استكمالا للخطاب المتأرجح للحركات الإسلامية وعلى رأسها حماس، فإن علاقة حماس بمنظمة التحرير الفلسطينية يغيب عنها الوضوح. فالخط الذي جاءت به حماس لا يرفض السياسات العملية لمنظمة التحرير أو الفصائل، وإنما يرفض منهج العمل برمته، في التعامل مع الصراع والمجتمع على السواء. ومع ذلك، فقد توصلت حماس الى توجه أكثر براغماتية وأقل وضوحا وفق قاعدة "منزلة بين المنزلتين"، أي العمل باستقلالية وبناء مؤسساتها وشبكتها التنظيمية بعيدا عن منظمة التحرير، وفي ذات الوقت لا تطرح نفسها عمليا كبديل لمنظمة التحرير الفلسطينية.

نـار ومــاء: الكفــاح المسلــح والخيــار السياســي

ظلت طبيعة العلاقة مع الكفاح المسلح والخيار السياسي في التوجه الى الصراع تتراوح بين مد وجزر. واذا طرحنا هذا المحور بقطبية واضحة، فإن الهدف ليس التقليل من حجم الوسائل النضالية الأخرى الذي يظل أمر تغطيتها خارج طاقة هذا المقال. واذا كان الهدف قد أقرته الحركة الوطنية في التحرير والدولة والعودة فإن الوسائل تتنوع. وطالما أن كل واحدة منفردة لن تحقق الهدف المطلوب، فقد كان الخلط بين الوسائل أمرا جديا وواجبا. منذ بداية الانتداب، حاول الفلسطينيون مثلا استمالة موقف حكومته دون "اللجوء الى العنف"، حيث اتسمت وسائل النضال الفلسطينية بتقليدية وسلبية المنهج، غير أن الثلاثينيات قد أزاحت السلبية جانبا لصالح العمل المسلح عبر ثورة الشيخ عز الدين القسام أولا والثورة الفلسطينية الكبرى ثانيا. فيما ظلت المبادرات السياسية تلقى دائما آذانا فلسطينية باستمرار حتى النكبة التي أعادت تشكيل الواقع السياسي الفلسطيني، واختمرت بعدها فكرة الكفاح المسلح كطريق "وحيد" لتحرير فلسطين لدى معظم الفصائل الفلسطينية المتشكلة حديثا. لم يكن التوجه شاملا بالضرورة، فقد تأقلم الشيوعيون الفلسطينيون الذين انخرطوا في الحزب الشيوعي الفلسطيني ما قبل النكبة سريعا في نظم سياسية جديدة، أبرزها الحزب الشيوعي الإسرائيلي والحزب الشيوعي الأردني.

عموما، فقد اعتمدت الفصائل الوطنية الكفاح المسلح، في أطر مختلفة، كعقيدة استراتيجية من أجل الوصول الى التحرير. فاعتمد اليسار كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مبدأ "العنف الثوري"، ووصفته حركة فتح بـ "الثورة الشعبية المسلحة"، ووصفته حماس والجهاد الإسلامي بـ "الجهاد". في المقابل، فقد ظل الخيار السياسي (الذي نعت عموما بالتسوية أو التصفية أو الحل السلمي في الأدبيات الفلسطينية) لا ينافس الكفاح المسلح في الأولويات الوطنية حتى الثمانينيات. وقد تكون عملية اغتيال عضو المجلس الوطني الفلسطيني، وعضو المجلس الثوري لحركة فتح عصام الصرطاوي في العام 1983، بسبب تأييده للحوار مع إسرائيليين مؤيدين لحقوق الشعب الفلسطيني خير مؤشر على مرحلة أعتبر فيها حتى مجرد الحوار خيانة وطنية عظمى.

في هذا العقد أيضا، أضيف الجهاد كأحد مفردات الكفاح المسلح في القاموس الفلسطيني بدخول حركات الإسلام السياسي المتمثلة في الجهاد الاسلامي وحركة المقاومة الاسلامية حماس ميدان النضال، وهي فكرة إمتدت الى داخل الخط الأخضر في الوقت ذاته مع تأسيس أسرة الجهاد التي لم تدم طويلا بسبب قمعها من قبل السلطات الإسرائيلية. ولا شك ان الظهور المتأخر نسبيا للحركات الإسلامية تطرح جدلية أخرى ولكن متعلقة: التغيير أم التحرير. فقد ظلت الحركات الاسلامية بعيدة عن ان توافق على الخيار السياسي، ولكن لا تشارك في الوقت نفسه في الكفاح المسلح الذي ظل مشروطا بالإعداد لجيل التحرير الذي يتم عن طريق التغيير الاجتماعي والتربية والاعداد. بطبيعة الحال، فإن إنشاء حركة حماس، كامتداد لحركة الإخوان المسلمين في الأيام الأولى للانتفاضة الشعبية الأولى شكل لحظة الحسم لهذا السؤال الإشكالي، الذي جلب على الإخوان المسلمين في فلسطين وأماكن أخرى في العالم اتهامات بالقعود والتخاذل عن تبني المواجهة المسلحة ضد الاحتلال. في المقابل، فقد تبنت حركة الجهاد الاسلامي منذ البداية نظرية إسلامية ثورية، لا تشترط مقاومة الاحتلال بإعداد جيل التحرير.

وفي الوقت ذاته، فإن جل الفضل في بقاء باب الخيار السياسي مواربا فلسطينيا يعود أساسا، الى قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية المتمثلة بشخصي الحاج أمين الحسيني وياسر عرفات بكونهما أكثر براغماتية في التعامل مع الطروحات السياسية، وأكثر توفيقا في المزج بين الخيارين.

ما بيــن التحـــرر الوطنــي والدولانيــــة

انهمكت الحركة الوطنية في مرحلة ما بعد النكبة، كمرحلة تحرر وطني لا تزال قائمة بعملية معقدة وشاقة من "بناء الدولة"، وبرزت منظمة التحرير الفلسطينية منذ أواخر الستينات كـ "شبه دولة بدون أرض"، أو كـ "حكومة منفى". ومن نافلة القول أن الطابع الدولاني لمنظمة التحرير، الذي أكدته دوما، قد جاء نتاج جهد سياسي وعسكري ودبلوماسي لا يستهان به، وظل في الكثير من الاحيان داعما وسندا لنشاطها العسكري، غير أنه شكل في أحيان أخرى كثيرة إرباكا جليا بين النهجين للجسم الواحد. واذا كان التحرر الوطني هو غاية الحركات الوطنية جمعاء في المراحل الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، ففي الحالة الفلسطينية فإن دينامية بناء الدولة قد بدأت قبل إتمام مرحلة التحرر الوطني، ولم تبدأ كحركات التحرر الوطني الأخرى في مرحلة ما بعد الاستقلال.

إن توقيع اتفاق أوسلو، ومن ثم إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، قد شكلا مفصلا خطيرا على صعيد العلاقة التبادلية بين النهجين. فقد تعمد القائمون على السلطة الوطنية الفلسطينية منذ اللحظة الأولى، على إبراز السمات الدولانية للسلطة الوطنية بشكل مبالغ فيه، بغياب الدولة، والانطباع بانهاء الاحتلال مع وجوده على الأرض. وفي الأخذ بعين الاعتبار ان إمكانيات الجمع أو التوفيق بين تطور السلطة الوطنية وخطاب التحرر الوطني وأساليبه كان أمرا مستحيلا، فقد تمت عملية الإسراع في نهج المأسسة (ما بعد الدولة) واستبدلت المفاهيم والثقافات وبرزت النخب، وتم إعادة صياغة التراث السياسي، على قاعدة الهروب إلى الأمام. لم تكن هذه العملية الانتقالية "سلسة" بطبيعة الحال، بل دفعت بالعديد من حركات التحرر الوطني الفلسطيني الى ارباك سياسي بالحد الأدني وإلى موت سريري في الحد الأقصى لم تخرج منه لغاية اللحظة.

فحركة فتح التي تزعمت مشروع التحرر الوطني الفلسطيني لعقود مضت أضحت اليوم أكثر قربا الى حزب سلطة (في مرحلة ما بعد الدولة) منها الى حركة تحرر وطني. فقد تماهت فتح مع منظمة التحرير أولا، ومع السلطة الوطنية ثانيا، وهي أطر دولانية بامتياز، مما دفعها أكثر من غيرها من الفصائل الفلسطينية الى "الانخراط في عملية البناء". غير أن حال الفصائل الأخرى لم يكن أفضل حالا من فتح، فقد تأقلمت الكثير من الفصائل الفلسطينية، بما فيها حماس واليسار بـ "الواقع الدولاني" للسلطة الوطنية، مبررة هذا الانخراط الدولاني بالحفاظ على سمات مرحلة التحرر الوطني.

خـــاتمـــة: الوقـت لصالــح مــن؟


يعتبر سؤال الوقت وحساباته، من أكثر الأسئلة إثارة فلسطينيا (وإسرائيليا). ولكنه ظل سؤالا مفتوحا لم تستطع الحركة الوطنية الإجابة عليه بعمق وشفافية. ففي النظر الى السياق والتراكم التاريخي لهذا الصراع، ظل السؤال حول ما هو المشروع المتقدم وما هو المشروع المتراجع، ظل عرضة للتبريرات والتحليلات التي لم تصب كبد الحقيقة في الغالب. وفي النظر الى إسرائيل، تراوحت النظرة الفلسطينية (والعربية) بين تضخيم جبروت هذه الدولة الى درجة الانسجام في كل شيء، وما بين الاستهزاء بها الى درجة انكسارها مع اول هبة ريح. عموما، فإن على الحركة الوطنية اليوم، وبالأخذ بعين الاعتبار ما آلت إليه فلسطين وأوضاع سكانها، الوقوف على عجل على هذه المحاور سالفة الذكر، بغية تحديد الخطاب والأهداف والرؤية، قبل أن يحسم السؤال الأخير نهائيا.

--------------------------------------

نهاد بقاعي هو منسق وحدة الأبحاث والمعلومات والإسناد القانوني في بديل/ المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، وهو محرر مشارك في جريدة "حق العودة".