فلسطينيو الداخل وأقرباؤهم اللاجئون وعلاقتهم بالمشروع الوطني الفلسطيني

بقلم: عوض عبد الفتاح*

للمرة الاولى التقي بها. قامة طويلة وممتلئة، وأنيقة. غطاء أبيض يلف رأسها، يزيدها هيبة ووقارا. صوتُها جهورٌ، وفِيه صرامة وحزم، يُشعرك بشخصية نسائية قوية، فولذتها التراجيديا الفلسطينية. نعم كانت لاتزال قوية، وتبدو في صحة جيدة، رغم ان عمرها قارب على الثمانين. لكن، سمات وجهها تدلل على انها كانت تُبطن اثقالا من الحزن المكبوت.

افترشنا جميعا ارض غرفة والدي ووالدتي لنأكل معا استمرت والدتي طيلة وقت الوجبة بتقطيع شرائح الدجاج المطهو وتضعها في صحنها، وتحثها على تناول المزيد من الطعام، وكأنها ارادت تعويض عمتها عن عشرات السنين التي لم ترها خلالها؛ عشرات السنين من اللجوء والشتات، والتشرد، والفقدان؛ فقدان البيت والوطن، والأبناء.

هي عمة والدتي، نصرة حاج محمد، التي انتهى بها المطاف مع عدد كبير من الأقرباء في مخيمات الشتات في لبنان، بعد أن احتلت العصابات الصهيونية قريتنا الجبلية، كوكب ابو الهيجاء، المطلة على ساحل فلسطين بعد مقاومة طالت ثلاثة أشهر. يتذكر أهالي القرية هذه الفترة مسترجعين الشعور بمرارة الهزيمة، وفِي الوقت ذاته يعتزون بالمقاومة التي أبدوها، بقليل من السلاح والعتاد امام عصابات مدربة ومدججة بالسلاح. هكذا حدثني والدي، الذي قاتل في المعركة وفقد أخيه الاكبر شهيداً، كما حدثني كبار القرية الذين شاركوا في القتال في إطار بحثٍ صغير صدر قبل ٢٥ عاما.

كانت زيارة عمة والدتي، عام ١٩٩٠ بعد حصولها على ترخيص اسرائيلي، وهو اجراء اعتمدته اسرائيل تجاه اللاجئين الفلسطينيين، منذ استكمال احتلال كل فلسطين عام ١٩٦٧. وقد اتبعت اسرائيل هذا الاجراء لسببين، بتقديري، أولهما؛ إظهار موقف انساني مفتعل، والتخفيف من المسؤولية عن جريمة التطهير العرقي امام العالم. والثاني؛ لأغراض أمنية، أي محاولة جمع معلومات عن المقاومة الفلسطينية في لبنان، أو سوريا، أو غيرها.

وفي اثناء تناول الطعام، راحت تسرد بعضا من آلامها التي وقعت عليَّ كالصاعقة، رغم أني متابع ومتفاعل مع الهم الفلسطيني العام منذ الطفولة، ونشيط منذ بواكير الشباب. لقد كان ذلك عندما نظرتْ في وجوهنا وكأنها تطلب النجدة؛ "يا ويلي شو شفنا من مصايب، انا بس بدّي اعرف وين راحوا بجثة ابني، لحدّ الان انا ما بنام، ما حدا هون بقدر يسأل اليهود وين راحوا بابني."

تمثلت قصتها التي تكسر القلب باستشهاد ثلاثة ابنائها؛ واحد في مجزرة تل الزعتر عام ١٩٧٦، واثنان أثناء مشاركتهما في المقاومة البطولية التي استمرت ثلاثة شهور ضد الغزو الاسرائيلي للبنان، ووصول الدبابات الإسرائيلية الى بيروت عام ١٩٨٢. ويُحَطَمُ قلبك بالكامل عندما تسمعها تتمنى متسائلة، او مناجية ربها، قائلة: "يا ربي حرام أقدر وانا بهالعمر ارجع واظلّ هون في بلدتي، اللي خلقت فيها، ولعبت بحواكيرها، عند اهلي؟!" كل ذلك أجّج الغضب المشتعل أصلا في داخلي، والأهم أنه زادني وعياً بهول مأساة اللاجئين، التي هي في الاساس لُبّ القضية التي كانت في وعيي، مثل الكثيرين، قضية سياسية دون ادراك تفاصيل الجانب الانساني.

التنازل عن الأرض المحتلة عام 1948 يعني تنازل عن كل القضية  
قصة عمتي نصرة هي كل القصة الفلسطينية. هي بداية الرواية التي جاء اتفاق اوسلو في لحظة ضعف وهوان، ليطمسها ويقدم بداية بديلة مشوهة وكأنها حصلت عام ١٩٦٧.

لا يوجد عائلة فلسطينية واحدة تقريباً، في المنطقة المحتلة والمستعمرة عام ١٩٤٨: الجليل والمثلث، ومدن الساحل، والنقب، إلا ولها قريب أو اقرباء في مخيمات اللجوء، سواء في الدول العربية المحيطة، أو داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، وأيضاً في داخل الأرض المحتلة عام 1948، والذين أطلقنا عليهم اسم ״المهجرين״ أو ״مهجرو الداخل״، ابتداءً من أوائل التسعينات، لتمييزهم عن بقية اللاجئين.

ويبلغ عدد المهجرين داخل الخط الأخضر حوالي ربع مليون فلسطيني يحملون الجنسية الإسرائيلية، لكنهم محرومون من العودة إلى بيوتهم وأرضهم، التي لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن أماكن لجوئهم الحالية، أي القرى والبلدات الفلسطينية داخل الخط الاخضر التي نجت من النكبة والتدمير. هذه الحقيقة، تغيبُ أحياناً، بل غالباً، عن الوعي العام، الذي تعرَّض للتشويه بفعل مخطط الطمس الاستعماري، وبفعل الخضوع الفلسطيني الرسمي المستمر بصورة كارثية منذ اوسلو، وما رافقه من حملة تضليل إعلامية وتغيير مفاهيم ومفردات ومضامين الصراع.

ليس صدفة أن التيار الوطني الفلسطيني المرتبط باستراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية، داخل الخط الاخضر، وبشكل خاص حركة ابناء البلد، التي شغلت منصب نائب الأمين العام لهذه الحركة حتى عام ١٩٩٦، أن تبادر عام ١٩٩١، (من خلال واكيم واكيم، رجا اغبارية، وكاتب هذه السطور، واصدقاء اخرون مثل عاطف الخالدي، وعفيف ابراهيم من مهجري اقرث وبرعم) إلى اقامة لجنة تُعيد إلى الوعي العام قضية وجود جزء كبير من شعبنا هجّرته العصابات الصهيونية عام النكبة، وبعدها بوقت قصير داخل الوطن. وفِي غضون وقت قصير، توسع التمثيل في اللجنة لتصبح هيئة وطنية جامعة، تضم كل ألوان الطيف السياسي والايديولوجي.

ولغاية ذلك الوقت، اقتصر الاهتمام بقضية التهجير داخل الأرض المحتلة عام 1948 على أهالي قريتي اقرث وبرعم، وذلك لأن قراراً كان قد صدر عن المحكمة الإسرائيلية العليا أوائل الخمسينات بإعادتهم الى بيوتهم، ولكن حكومة دولة الأبرتهايد رفضت وواصلت رفض تنفيذ القرار.

وهكذا، قَدّمَ الفلسطينيون داخل الخط الاخضر، ومن خلال التيار الوطني، مساهمتهم الهامة في إعادة احياء مسألة العلاقة العضوية والاستراتيجية بين القضية الفلسطينية وقضية اللاجئين، أي بين كافة تجمعات الشعب الفلسطيني، وذلك في الوقت الذي كانت تجري فيه مفاوضات مؤتمر مدريد الذي جاء في ظل ميزان قوى متردي، بعد الغزو الأمريكي الامبريالي للعراق وبحضور فلسطيني تحت مظلة أردنية فلسطينية مشتركة، على حساب التمثيل الفلسطيني المستقل.

وبعد توقيع اتفاق أُوسلو الكارثي الذي تم من خلال قناة دبلوماسية منفصلة عن مؤتمر مدريد، والذي ارادت من خلاله الولايات المتحدة استثمار غزوها للعراق واستغلال الحالة العربية الرثة لصالح اسرائيل، تأكدت أكثر الحاجة الى تمسك التيار الوطني الفلسطيني داخل الخط الأخضر بجوهر القضية الفلسطينية، أي بحق اللاجئين بالعودة، وبطابع هذه القضية باعتبارها قضية تحرر وطني من نظام كولونيالي، وفصل عنصري، لا بد من مواجهته على هذا الاساس.

إن هذا الاتفاق، الامنيّ في جوهره، همّش قضية اللاجئين وأسّس لمسار التفريط بهم. ومن ناحية ثانية، أخرج فلسطينيي الداخل من المشروع الوطني الفلسطيني. إضافة الى اهدار مصير القدس تحت رحمة التهويد والاستعمار. وهكذا، اختزلت قضية فلسطين في حكم ذاتي على جزء هزيل من أرض الضفة الغربية وغزة، تبلور لاحقاً في نظام فصل عنصري عدواني صارخ، أكثر سوءاً ووحشية من نظام البانتوتستانات البائد في جنوب افريقيا، الذي ناهضه ورفضه المؤتمر الوطني الأفريقي على طول الطريق، حتى انهار تحت ضربات المقاومة.

وبخصوص الحالة الفلسطينية، فقد ترافق الانحدار في المجال السياسي، والجغرافي، والديموغرافي، مع انحدار في مسألة الوعي، اذ تعرضت ولا تزال، الرواية الفلسطينية، والخطاب التحرري، الى تصدعات وتشوهات خطيرة. ففي وسائل إعلام السلطة الفلسطينية، التي باتت وكيلاً للاستعمار، يُعرّف الصراع على أنه بين دولتين، دولة قائمة هي اسرائيل، ودولة افتراضية هي فلسطين، التي أضحت بعد التغول الاستيطاني وهيمنة اليمين الصهيوني الديني والقومي الخرافي، فكرة طوباوية، بل تثير التندر عند البعض.

مناهضة الصهيونية: دور خاص للفلسطينيين داخل الخط الأخضر
ربما وحدهم الفلسطينيون داخل الخط الاخضر الذين تصدوا لاتفاق اوسلو وعواقبه فوراً بعد إعلانه، من خلال مبادرة سياسية فكرية منظمة ومدروسة تمثلت في تشكيل حزب التجمع الوطني الديمقراطي، ولم يكتفوا ببيانات الشجب كما فعلت فصائل فلسطينية معارضة من داخل منظمة التحرير الفلسطينية. وبالرغم من أن حركة حماس هي الفصيل الوحيد الذي تصدى عملياً وفِي الميدان لأوسلو، إلا أن الحركة وبسبب سوء فهمها لخلفية الوطنية الفلسطينية وكونها تحمل ايدلوجيا دينية، فشلت في تقديم برنامج فلسطيني جامع ورؤية تحررية وطنية مدنية. ومع ذلك لا يجوز التقليل من دورها في ابقاء الصراع مشتعلاً مع المستعمر الاسرائيلي، رغم الاختلاف الكبير مع توجهاتها، وتحمّلها قسطاً من تبعات الانقسام الداخلي الكارثي والأزمة الراهنة.  

كان لحركة ابناء البلد، دورُ رئيسيٌ في تشكيل حزب التجمع الوطني، الى جانب المفكر عزمي بشارة وعدد من رفاقه الذين كانوا قد تَرَكُوا الحزب الشيوعي على خلفية النقاش بخصوص الهوية القومية والديمقراطية. بدأ المبادرون من حركة أبناء البلد ومجموعة عزمي بشارة (من حركة ميثاق المساواة التي كانت أخفقت في الإقلاع)، وحركات وطنية صغيرة، بالإضافة الى شخصيات وطنية فلسطينية في لقاءات أولية بعد اوسلو، ثم تتالت الاجتماعات وتتوجت بمؤتمر أولي عام 1995، صدر عنه برنامج  سياسي، مكون من ١١ نقطة، أهمها: المطالبة بإنهاء التمييز العنصري ضد المواطنين العرب، وبالمساواة والمواطنة الكاملة من خلال تحدي يهودية وصهيونية الدولة العبرية، وانهاء الاحتلال واقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة في الضفة والقطاع، وعودة اللاجئين الى ديارهم.

وبعد نقاش عسير حول آليات وأدوات النضال والعمل السياسي، تمت الموافقة على خوض انتخابات الكنيست. وقد وضعت حركة ابناء البلد شرطا على نفسها بعدم الترشح لعضوية الكنيست، والاكتفاء بالمشاركة في حملة الانتخابات بهدف التواصل مع الناس، والاضطلاع بدور التعبئة السياسية والوطنية. لقد توصلت الحركة الى ضرورة المراجعة النقدية والبحث عن معادلة وطنية واقعية، تمكنها من الحفاظ على ذاتها، ومن التوسع بين الناس واكتساب ثقتهم كحركة مسؤولة، وليست حركة صغيرة راديكالية، ذات تأثير محدود، بعد أن شهدت التراجعات المتسارعة في الحركة الوطنية الفلسطينية عموماً، وفِي اليسار تحديداً.  

لقد تم خفض الخطاب السياسي من خطاب تحرير فلسطين من البحر الى النهر واقامة الدولة الديمقراطية العلمانية، الى خطاب المواطنة الكاملة ودولة في الضفة والقطاع، وحق العودة، تكيفاً مع واقع ما بعد اوسلو ومع الاجماع الفلسطيني على فكرة الدولة في الضفة والقطاع، وبنفس الوقت تحدياً لهذا الواقع. وكان السؤال كيف؟

لم يكن للفلسطينيين داخل الخط الأخضر بعد كل هذه الانهيارات الدولية (انهيار الاتحاد السوفييتي) والعربية (بعد الغزو الامريكي للعراق عام ١٩٩١، ومشاركة النظام السوري في الحرب الامريكية ضد العراق)، ليسيروا وراء شعارات كبيرة مثل تحرير فلسطين. كما لم يكن ممكنا أن يستجيب غالبيتهم لنداءات مقاطعة الكنيست التي عودتهم احزاب عربية على المشاركة بها منذ عام ١٩٤٨، وكذلك احزاب صهيونية. كان رفع هذه الشعارات آنذاك، يعني المزيد من الانعزال الشعبي للحركة الوطنية، التي كانت تعاني الضعف والتراجع، أي كانت تعني ترك الجمهور العربي لقمة سائغة للأحزاب العربية التقليدية والصهيونية، خاصة وأننا شهدنا المزيد من فلسطينيي الداخل يرفعون اعلام إسرائيل على سياراتهم فور الإعلان عن اتفاق اوسلو، ظانين أن اقامة دولة في الضفة والقطاع بات قاب قوسين أو أدنى، وأن المساواة مع اليهود اقتربت وباتت وشيكة.

ازاء هذا الواقع الجديد، كان علينا أن نفكر باستراتيجية خلاقة تبدو متكيفة مع المناخ السياسي الجديد، ولكنها في الجوهر والممارسة متحدية للصهيونية، وتفيد في تعبئة الناس سياسياً وتوطيد التمسك بالهوية الوطنية، ريثما تتكشف الاوهام. تم ذلك بالتنسيق والموافقة مع الأصدقاء في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

لم نكن ساذجين لنعتقد أن اسرائيل ستمنحنا المساواة الكاملة، إذ كنّا ندرك ان الصهيونية وتجسيدها اسرائيل، والمساواة على طرفي نقيض، أي أن العنصرية متأصلة في الصهيونية، وليست طارئة.

كان التجمع أول حزب برلماني يتصدى بصورة منهجية ومثابرة لمهمة تحديد معنى المساواة، أي تفكيك شعار المساواة الاندماجي الذي اعتمده الحزب الشيوعي الاسرائيلي منذ أن قرر المشاركة في انتخابات الكنيست بعد النكبة فوراً وقبل أن تجف دماء الشهداء. وقد تمكن عزمي بشارة، أول عضو في الكنيست عن التجمع وقائد حزب التجمع السابق، ومن خلال عضويته في الكنيست وثقافته الواسعة واطلاعه العميق على التجربة الصهيونية وقدرته على السجال، أن يحول الكنيست إلى ساحة مواجهه ايدلوجية مع الصهيونية.

ولم يمر سوى عامين حتى شنَّت النخبة الصهيونية التي تصنف نفسها ليبرالية، وكذلك الاحزاب الصهيونية، حملةً تحريضية محمومة على بشارة وعلى حزب التجمع. وجرت محاولات متكررة لشطب ترشحه، وكذلك شطب حزب التجمع، بادعاء أن الحزب لا يعترف بحق اليهود في دولة خاصة بهم. وتتوجت الحملات التحريضية التي لم تتوقف، في فبركة تهمة أمنية ضد بشارة تدعي أنه تعاون مع حزب الله أثناء حرب ٢٠٠٦، وهي تهمة عقابها السجن المؤبد في القانون الصهيوني، مما اضطره الى مغادرة الوطن قبل أن تنزع عنه حصانته البرلمانية. وقد فسرت بعض الأصوات اليهودية المناهضة للصهيونية، هذه التهمة انها جاءت بعد أن فشلت المؤسسة الصهيونية الرسمية في مواجهته ايديولوجياً، فلجأت الى الأمن. لم تتوقف الحملة ضد التجمع حتى الان، بل تزداد ضراوة إذ قال وزير الحرب الصهيونية، أفيغدور ليبرمان من على منبر الكنيست، قبل أشهر أنه "يجب تصفية حزب التجمع سياسياً"، اي إخراجه عن القانون.

ويجدر التنويه هنا إلى أن حركة ابناء البلد بكافة قياداتها وكوادرها واعضائها، شاركوا في الانتخابات البرلمانية الاولى (الكنيست) لعام ١٩٩٦، غير انه وبعد أربعة أشهر وعقب انتخابات داخلية للهيئات الداخلية للحزب، انسحب عدد من اعضاء المكتب السياسي للحركة ومعهم عشرات الأعضاء وواصلوا العمل باسم الحركة، في حين بقي غالبية اعضاء وقيادات الحركة في حزب التجمع يساهمون في بنائه وتوسيعه وفِي نضاله، إذ اعتبروا ان المساهمة في اقامة هذا الحزب، كان من أهم الإنجازات التي قامت بها الحركة في تاريخها. كما أننا رأينا أن الانسحاب على قضايا تنظيمية لم يكن سبباً كافياً أو مقنعاً للانسحاب، خاصة ان الظرف السياسي الصعب في حينه لم يكن يسمح بإهدار فرصة اعادة بناء الحركة الوطنية، وتوسيعها في الداخل، بما يتلاءم مع خصوصية واقعهم.

تحولات جارية واُخرى مطلوبة:
بعيد الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام ٢٠٠٠ وامتدادها كهبة عارمة لعشرة أيام داخل الخط الاخضر، تتسارع نزعة العداء لفلسطينيي الداخل. وباتت المؤسسة الصهيونية الرسمية، والمجتمع الصهيوني معبأ بالكامل ضد هذا الجزء من شعب فلسطين وقواه الوطنية. ولذلك، لا تتوقف مخططات النهب والمصادرة والهدم والتشريعات العنصرية، وحظر حركات سياسية مثل الحركة الاسلامية، وملاحقة حزب التجمع وقادته، وحركة ابناء البلد، وهي سياسات تهدف كلها إلى حصاره وتحييد نضاله وتأثيره المتصاعد في حملة تعرية حقيقة الكيان الصهيوني وديمقراطيته الزائفة.

وهكذا تزول تدريجياً الفروق في تعامل الكيان معهم، عن تعامله مع باقي الفلسطينيين. هذا كله يدفعهم الى الإدراك انهم واقعين تحت نفس منظومة الاستعمار التي تُخضع الكل الفلسطيني، وإلى الإدراك أن لا مساواة ممكنة في اسرائيل، بعد أن تأكد قبل ذلك أن لا دولة في الأرض المحتلة عام 1967، ولا عودة للاجئين من خلال نهج اوسلو، سوى بالنضال المستند الى فهم جذري لطبيعة الصراع في فلسطين. غير أن هذا الواقع المستجد ومع تمرير قانون القومية، لم يدفع حتى الان معظم الاحزاب العربية المشاركة في الكنيست، الى المباشرة في اعادة النظر في موقفها التقليدي من المشاركة في الكنيست، وفِي اعادة النظر في برامجها السياسية التي تقوم على حل الدولتين.
وحده التجمع، كحزب برلماني، يخوض نقاشا داخليا، منذ أكثر من ثماني سنوات لجعل التوجه المتضمن في البرنامج، الى توجهٍ صريح: الاول: الانسحاب من الكنيست، بعد أن استنفذت المشاركة فيها دورها، ثانياً تبني حل الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية.

وقد كنت قد أصدرت كتيباً، مكونا من ٧٠ صفحة، عندما كنت لا زلت أميناً عاما لحزب التجمع يدعو الى تطوير خطاب التجمع وتبني صراحة الدولة الواحدة، والى تطوير دورنا في المشروع الوطني الفلسطيني.

وما يعيق تطور النقاش داخل الحزب، هو التحديات الخارجية الصهيونية، التي تستهدف إقصائه عن الساحة السياسية وكذلك الى ضعف، وقصور داخلي.

الامر الملفت للانتباه، هو اتساع انتشار فكرة الدولة الواحدة بين طلائع الاجيال الجديدة، المحزبة، وغير المحزبة، وكذلك بين نخبة واسعة من الأكاديميين والمثقفين الفلسطينيين داخل الخط الاخضر، ولهؤلاء كتابات هامة حول هذا الحل.

ومؤخراً، نعكف، من خارج صفوف حزب التجمع ولكن بتأييد غالبية الاجيال الشابة الناشطة في الحزب، مع أكثر من مائة وخمسين شخصية، أكاديمية، كباراً وشباباً، ونشطاء شباب، عرباً ويهوداً على بناء حملة للترويج للفكرة، ومع النية لتحويلها إلى حركة شعبية تشمل المنادين بهذا الحل، من داخل فلسطين التاريخية، ومن أماكن اللجوء والشتات. هذا هو الحل الذي ينصف كل تجمعات الشعب الفلسطيني، ومن خلال خطابه الأخلاقي الذي يقوم على العيش بمساواة مع كل من يسكن على هذه الارض، بعد هزيمة وتفكيك منظومة الاستعمار الكولونيالي.

إنها عودة الى الاصل، عودة الى جذر القضية الفلسطينية، عودة الى مصادر قوة هذا الشعب، وأهمها: عدالة القضية، أخلاقياتها، ووحدة الشعب. انها المصل المضاد لوباء اوسلو، وباء التشرذم والتشتت، والتجزئة.

----------------------------------------------
*عبد الفتاح عوض: الأمين العام السابق لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، وقيادي سابق في حركة ابناء البلد، وحاليا منسق حملة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية – حيفا.