مَسيرات العَودَة والهويّة الوطنية في الداخل الفلسطيني

بقلم: محمد كناعنة*
مُنذُ بَدء الإعلان والترويج لِمسيرات العَودة التي انطلقَت عَشيّة يَوم الأرض الخالد في الثلاثين من آذار الحالي، كانَ لِلداخِل الفلسطيني التفاعُل معها والتنسيق في سبيلِ دعمها والمُشاركَة في رسالتها العَظيمَة، وهي رسالَة العَودَة وحق العَودة وواجب النِضال في سبيلِ هذا الحَق العادل. كانَ الداخل الفلسطيني وما زالَ جزءا لا يَتجَزّأ من الكُل الوَطني الفلسطيني، وساهَمَت جماهير الداخل في الحراك الشعبي الوطني الفلسطيني ليسَ فقط على مدارِ انتفاضتين، وإنّما في كُل مَحطات العمل الشَعبي الكفاحي في مواجهَة الحصار البغيض على غزة أو سياسة الهدم والتهجير والجدار الخانِق. هذه المُساهمَة كانَت مُتعَدّدة الأشكال وفي خِضَمّها دَفعَ الداخل الشُهداء والجرحى والأسرى، وكانت ذروتها عام 2000 في انتفاضة القُدس والأقصى حيثُ سَقطَ ثلاثة عَشر شهيدًا.
 
رغمَ حالَة الترَقُب الذي سادَ حولَ تداعيات هذا الفعل الشعبي الإبداعي، تَرَقُب رَدّة فعلِ الاحتلال وهو المَعروف بوحشيّتهِ وإجرامِهِ، تأثير هذه المسيرات على حالَة النهوض في الضفة والقدس، ومدى تفاعل الداخل شعبيًا مع المسيرات، وكيفَ سيكون رد فعل القيادة الرسمية للسلطة في رام الله على فعلٍ شعبي قَد يُحرجها. فكانَت هذه المسيرات مَحَط جَدَل كَبير، في البدايَة خَجول وفيما بَعد طفى على السَطح، جَدل حولَ "جَدوى" المَوت على الشَريط الحُدودي كما يحلو للبعض أن يُسميه، فَالثَمن باهِظ، برأي بعظهم.

ألا يًستحقّ مشروع العَودة ثَمنًا باهظًا؟! هذه كانَت إجابات الشباب المُنتفض على بُعدِ عشرات الأمتار عن بيوتهم وقراهم ومدنهم التي طُردوا منها في العام 1948، إجابَة ما زالَ يَتَرَدَّد صَداها في سَماء الوطن رغمَ الثَمن الباهِظ الذي يَدفَعهُ هؤلاء الشباب والأطفال في المواجهة الباسلة من خلال فعل شعبي مُقاوم، يواجَه بفتك وقتل وقَنص للصحفيين والمُسعفين والشباب والأطفال الرافضين الابتعاد عن منطقة الخَطر. وهل حقًا هُناكَ فعلاً منطقة غير خطرة في غزة؟ حصار منذُ اثني عشر عامًا تخللها ثلاثة حروب عدوانية، وقصف شبه يومي، وقَنص مُستمر، واعتقالات في عرض البحر للصيادين، واغتيالات للقادة والناشطين.
قَد يكون هُناكَ من ينتقد بحرقَة وصدق ولكن في إطار الفعل الشعبي المُداوم بهذا الإبداع الذي أعادَ الزخم للعودة وقضيّة اللاجئين، تُصبح هذه الأصوات غير مشروعة في الجَدل العام. ففي خِضَمِّ المجازر وفي غَمرةِ النضال ليسَ جائزًا القَول ونشر الطعن في مِصداقيّة هذا الأسلوب، خاصّة عِندما يأتي من بعضهم في سياق التبرير أو الدفاع عن تصريحات مثل: "على حماس أن تدفع ثمن الانقلاب" و "غزة ستعود إلى حضن الوطن بالقوة" و "الطلب من الاحتلال بعدم تزويد غزة بالكهرباء" ناهيك عن قطع الرواتب وإغلاق المعابر.

ما الجَديد في هذه المَسيرات:
من بَعد تَجربَة مارون الراس في 15 أيار عام 2011 والتي كانَ لنا فيها مُساهمَة رئيسية فقد وقفنا على طرفي الحدود المُصطنعة بينَ لبنان وفلسطين وفي منطقة مجدل شمس في الجولان العربي السوري المُحتل المئات من الفلسطينيين رافعين شعار العَودة إلى الديار. ارتقى يومها عَدد كبير من الشُهداء على أسلاك القتل الصهيوني برصاص قناصة الاحتلال، وتم قمع مسيرتنا على الطرف المُحتل عام 1948.

دخل يَومها عشرات الفلسطينيين إلى ساحَة مجدل شَمس ووصل أحدهم مدينة يافا، التي هُجّرَ منها أهلها عام النكبة، وكانَت بدايَة لتفكير إبداعي في مشروع العودة، وتوّجت في ذكرى الرابع من حزيران في ذات العام وسقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى من اللاجئين الحالمين بالعَودة وعشرات المُعتقلين من أبناء الجولان العربي السوري (كاتب المقال واحدًا ممن اعتقلوا يومها وقضيت بين الحبس الفعلي والإقامة الجبرية سنتين).

من بعدِ هذه التجربة، كانَ لا بُدّ من الإبداع في مَشروع العودة وفعلًا كانَ الإعلان عن الفكرة مَحط تَرَقُب، هُنا في هذه التجربة الجَديدة من العمل الشَعبي كانَ ارتقاء مفاهيمي أعلى من بعض الحالات المعمول بها، فقد كانَ مُسبقًا تأكيد على الاستمرارية وكذا على الاستقلالية، وأيضًا لَم تَطرح نفسها هذه التجربة كَبديل لِتجارب العمل الفلسطيني القائم. فَلم تَطعن في الفصائِل الفلسطينية ولا في تجربتها التاريخية، ولا في مسيرتها النضالية الطويلة، وَلم تَطعن في أساليبها، وإنّما هي إبداع شعبي طالَ انتظاره فحظيَ بتعاطف كبير، فلسطيني وعربي وعالمي.

وفي هذا المِضمار، كانَ لِتوجيهات الهيئَة العُليا لِمسيرات العَودة دور كبير في الإشارة إلى شعبيّة وسِلميّة هذا الحِراك، وهذه الإشارة ليسَت دليل خوف أو جُبن، بل على العَكس هي دليل وعي ومسؤوليّة ورؤية بعيدة وما زالَت حتى اللحظة هذه التوجيهات معمول بها والهدف هو مُحاولَة لِتَجَنّب المواجهة العسكرية مع الاحتلال، وتحييدها للحفاظ على الاستمرارية وديمومة الحراك مع العلم أنَّ الهيئة، باعتقادي، لَم يَغب عن بالها طبيعة الاحتلال العدوانية الوحشيّة الإرهابية. فرغم كل هذه المحاولات، إلا أنّ الأمر لَم يمنع الاحتلال من أن يستخدم كل الأساليب الإجرامية بحق الأطفال والنساء والشباب ليرتكب بذلك مجزرة مُستديمة غير مَسبوقة كَونها توَثَّق على مَدار اللحظة في كل وسائِل الإعلام العالمي وتحتَ صَمت هذا العالم الرسمي المتواطئ.

مَسيرات العَودة زيت في سراج الهُويَّة الوطنية:
أحَد عَوامل الغَضب الصَهيوني من مسيرات العَودة ليسَ فقط ما يحصَل في الجنوب الفلسطيني، وليسَ الاستنزاف العسكري والاقتصادي والنفسي في الجنوب، إنَّهُ أكبرُ من ذلك في مفاهيمهم الصَهيونية، ما يتركُهُ من أثرٍ على نَفسيّة الصَهيوني، الرسمي والشَعبي، إنَّهُ عامِل المُظاهرات في قَلب الداخل الفلسطيني. فقد استقطبت المُظاهرات الألوف المؤلّفة من الفلسطينيين هذا عَدا عن التعاطف النفسي والوجداني عندَ مُعظم أبناء الداخل الفلسطيني، وكانَ الأهَم من كُلّ هذا والأكثرُ عُمقًا في تلاحُم العلاقة والتواصُل والتفاعل هو حدوث وتنظيم المُظاهرات الأسبوعية في قلب المُدن الفلسطينية الساحلية والمُسماة "مُختلطة" كحيفا تحديدًا وعكا.
 

*محمد كناعنة: عضو المكتب السياسي لحركة أبناء البلد.