بقلم: أحمد هماش*

مقدمة:
فقدت القيادة الفلسطينية ومنذ برنامج النقاط العشرة عام 1974 تصوراً فلسطينياً لمشروع جماعي شامل لا يقبل تجزئة الشعب الفلسطيني، ويُحافظ على مقومات الهوية الفلسطينية. وتَحول البرنامج الوطني من تحرير كامل التراب وبناء هوية فلسطينية تجسيداً لمبدأ وحدة الشعب الفلسطيني، إلى برنامج بناء دولة فلسطينية كمرحلة تكتيكية في الصراع مع الحركة الصهيونية.
 

وفي هذا الإطار، وبهدف عدم الانجرار وراء التحليلات التي تُظهر الصراع على أنه صراع حدود وأحياناً أخرى صراع سلوك، أصبح من الضروري التأكيد على أن الصراع مع الحركة الصهيونية وإسرائيل هو صراع ضد الاستعمار. وتكمن أهمية هذه التفرقة في أنها توضح جذور الصراع، وبالتالي تحدد الآليات والوسائل النضالية لإنهاء هذا الصراع بشكل دائم.

وبالرغم من أهمية مبدأ وحدة الشعب الفلسطيني في بناء الهوية وما للأخيرة من دورٍ في الصراع الفلسطيني ضد الاستعمار الصهيوني، تتعامل اليوم القيادة الفلسطينية على جانبي الخط الأخضر مع مسألة وحدة الشعب الفلسطيني والهوية الجامعة بشكل مرتجف ومتردد، حيث أنها تتبنى برامجاً سياسية تسعى إلى تحقيق إنجازات سياسية غير متجانسة مع مبدأ وحدة الشعب الفلسطيني، وذلك من خلال التعامل مع الشعب الفلسطيني كمجموعات تواجه مشاكل ومصائر مختلفة.

فمن جهة، يدعو برنامج منظمة التحرير إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران لعام 1967، وذلك للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها “القدس الشرقية”، مع اعتبار الفلسطينيين داخل الخط الأخضر شأن إسرائيلي داخلي، بينما موقع فلسطينيي الشتات في الحل المستقبلي تسوده ضبابية عالية تظهر، فيما تظهر، في تشكيلات الجاليات الفلسطينية المنقسمة على ذاتها بدلاً عن تشكيلات الاتحادات الجامعة في إطار منظمة التحرير، وفي دائرة شؤون المغتربين بدل اللاجئين.

ومن جهة أخرى، عملت القيادة السياسية داخل الخط الأخضر على تحويل صراع فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948 من صراع وطني تحرري، إلى مطالب مدنية مرتبطة بتحقيق المساواة والمواطنة الكاملة للفلسطينيين داخل “إسرائيل”، أو لأقلية من مواطني “اسرائيل” وذلك في منهج بعيد عن معالجة جذور الصراع.

في الحقيقة، لعبت هذه البرامج السياسية دوراً كبيراً في تقويض مبدأ وحدة الشعب الفلسطيني، وبالتالي سقوط او إسقاط وحدة الاهداف وتكامل الحقوق والنضال، وما يتصل بذلك من إضعاف للهوية الفلسطينية.

ونظراً لصعوبة تأسيس هوية فلسطينية تجسد وحدة الشعب الفلسطيني في ظل البرامج السياسية الحالية، سيناقش هذا المقال تخيلية للهوية الفلسطينية المستقبلية في ظل دولة فلسطينية على كافة الأرض بحدودها الانتدابية. إن مثل هذه التخيلية، ستسمح بتجاوز التقسيمات وسياسات التجزئة المفروضة على الشعب الفلسطيني، كما ستسمح لكافة الفلسطينيين بالمشاركة في صياغة هوية فلسطينية جامعة.

وفي سياق الحديث عن التحرير وبناء الدولة الفلسطينية على حدود فلسطين بحدودها الانتدابية، فإنه ومن الضروري إدراك أن غالبية الحلول المستقبلية لن تُلاقي التطلعات التحررية التي حملتها حركات التحرر سابقاً، والمتمثلة في الجلاء الكامل للاستعمار.

وينبع هذا الادراك من عدة حقائق أهمها؛ أولاً، الفترة الطويلة للاستعمار الصهيوني، ثانياً ضخامة حجم المستعمرين وتعاقب أجيال المستعمرين في فلسطين، إذ أننا اليوم نواجه الجيل الرابع من المستعمرين في “إسرائيل”. ثالثاً، التشتيت والتهجير المستمر للشعب الفلسطيني. رابعاً، لا يوجد دولة واحدة ينتمي إليها المستعمرون اليهود في فلسطين، ويمكنهم العودة إليها.

وتفرض علينا هذه الحقائق العمل على تطوير برنامج وطني فلسطيني يناقش بشكل واضح مسألة التحرير، وما بعد التحرير. وليس المقصود هنا تخييب الآمال المستقبلية والتحررية للشعب الفلسطيني، أو حتى استثناء أي شكل من أشكال النضال، إذ يُناقش هذا المقال تصورات للهوية الفلسطينية في مرحلة ما بعد التحرر وليس عملية التحرير بحد ذاتها.

كما وسيتطرق المقال الى بناء الهوية في جنوب أفريقيا بعد انهيار نظام الاستعمار والفصل العنصري، ومدى نجاح التجربة في جنوب أفريقيا في صياغة هوية واحدة، بعد عقود طويلة من النضال مع الاستعمار والفصل العنصري. ولا تأتي هذه المقاربة من باب اسقاط تجربة جنوب أفريقيا على الحالة الفلسطينية، وإنما بهدف استخلاص الدروس والعبر من تجارب وخبرات الشعوب الأخرى، وتجنب الأخطاء الكارثية في مرحلة ما بعد التحرير.

الهوية القومية: التحديات والصعوبات
فرضت العولمة ووسائل التكنولوجيا التي طالت مناحي كافة مناحي الحياة، العديد من التحديات والصعوبات التي تواجه الهوية القومية. وبات من الصعب الحديث في يومنا هذا عن هوية قومية مُستقلة بحد ذاتها، إذ فرضت وسائل الاتصال والتواصل تداخلاً كبيراً بين الثقافات.  

ولا يقتصر الحديث في تراجع الهوية القومية على الشعوب الساعية للتحرر من الاستعمار كما في فلسطين، أو الأقليات المتطلعة إلى بناء كياناتها القومية كالأكراد أو كتالونية، وإنما أيضاً على كافة المجتمعات التي لا تشارك في عملية الانتاج المعرفي والتكنولوجي. فانفراد الدول الصناعية في ادارة العملية الانتاجية وامتلاكها للتكنولوجيا الحديثة، مكنها من فرض هويتها الانتاجية على الشعوب الاستهلاكية، وتنميط هذه الشعوب بالشكل الذي تريده هذه الدول ووفقاً لمصالحها.

وقد تزامن تراجع الهوية القومية مع ظهور دعوات من قبل البعض للتكامل والانخراط في هوية واحدة، كما ودفع بهم النجاح النسبي في تشكيل بعض التكتلات الاقتصادية والاجتماعية كالاتحاد الأوروبي، للاعتقاد بأنه من الممكن تجاهل مسألة الهوية، وأن الفوقومية (العالمية) والمصالح الاقتصادية من الممكن أن تحل مكان الهوية القومية.

بالمقابل، بدأت هذه الاعتقادات بالتراجع أمام صعود الأحزاب اليمينة والقومية في أوروبا، وسعي بعض الدول للانفصال، حيث شكّل الخوف من تأثير المهاجرين على الهوية، أحد أسباب خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي. ويقودنا ذلك لإدراك أهمية مكانة الهوية القومية لدى الدول، وذلك بالرغم من التحديات والصعوبات التي تواجهها.

في الوقت ذاته، لا يُمكننا اليوم الحديث عن هوية قومية واحدة لأي شعب من الشعوب، دون الأخذ بعين الاعتبار التحديات والقضايا التي تفرضها العولمة ووسائلها علينا. ولا يُقصد بالحديث عن العولمة هنا الافتراض بأنه يمكن تجنب العولمة أو عدم المشاركة فيها، فهي ظاهرة لا يمكن الفرار منها، وإنما عن إمكانية تسخير وسائلها في خدمة مصالحنا الوطنية.

ولا يأتي هذا التطويع للعولمة من خلال المبادرات الفردية أو الحلقات الأكاديمية، بل من خلال برنامج تحرري واضح يضع الوسائل والتدابير اللازمة لتسخير ما تقدمه العولمة من آليات ووسائل لخدمة أهدافنا الوطنية، والتي يجب أن تعتمد على ما يجب تحقيقه وإنجازه، وليس على ما هو “خيار” أو متاح أمامنا.

إن الهوية المشتركة ضرورة حتمية لتجانس المجتمعات وإقامة الكيانات القومية المستقلة والمستقرة، إلا أنها كما قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش، “ليست وراثة الماضي فقط، وإنما في النهاية إبداع صاحبها”. والشعب الفلسطيني الذي أبدع في الوسائل النضالية على مر التاريخ، لن يقف عاجزاً أمام بناء هويته الفلسطينية المستقبلية.

الهوية الوطنية الفلسطينية: العقبات والتحديات
إن التحديات التي تواجه الهويات القومية والتي تم التطرق إلى بعضها، ليست إلا مجموعة صغيرة من التحديات التي تواجه الهوية الفلسطينية. فإذا كانت هذه التحديات تواجه هوية مرتبطة بدولة قومية ذات سيادة وتجانس كبير كالهوية الفرنسية مثلاً، فإن العوائق والتحديات التي ستواجه الفلسطينيين مضاعفة، وذلك لأسباب عديدة سيتناولها المقال لاحقاً.

فلسطينياً، هنالك العديد من الأدبيات التي تناولت مسألة الهوية الفلسطينية وكيفية تطورها، وذلك لما لها من دورٍ هام في الصراع الفلسطيني مع الحركة الصهيونية. وبالرغم من وفرة الأدبيات التي في مُجملها حاولت الرد على مزاعم الصهيونية، القائلة بأنه لم يكن أي وجود فلسطيني في فلسطين، إلا أنها اقتصرت على تقديم الجذور التاريخية لتبلور الهوية الفلسطينية، وتأثرها بأبرز الأحداث الجماعية مثل النكبة.

في الحقيقة، هنالك العديد من القضايا التي ساهمت في تعقيد الهوية الفلسطينية وتقويضها. فعلى الصعيد الضيق، شكّلت الأحداث السياسية كالتهجير والتجزئة والسياسات الاستعمارية الصهيونية منذ نكبة عام 1948 عائقاً امام تبلور هوية فلسطينية، وذلك بفعل سياسات التجزئة الرامية الى الغاء الهوية الفلسطينية. وقد خلقت هذه السياسات تجزئة وتراتبية في العلاقة بين أبناء الشعب الواحد، وتم التعامل معهم كمجموعات منفصلة غير مترابطة.

وقد تعزز هذا التقسيم بفعل السياسات الإسرائيلية على أرض الواقع، والتي تحد من التواصل بين الفلسطينيين، وتخضعهم الى أنظمة قانونية وقهرية متمايزة (تجريد فلسطيني الشتات من حقوق المواطنة والاقامة، تجنيس فلسطينيي الداخل، منح الاقامة الدائمة لسكان القدس، اخضاع سكان الضفة الغربية لنظام سكان المناطق – وضع المعترف بهم كمجموعة ولكن ما دون الاقامة الدائمة، واعتبار المقيمين في غزة سكان منطقة معادية). كما وساهمت هذه التجزئة في تكريس الانقسامات الفلسطينية – الفلسطينية وفي خلق الصور النمطية بين الفلسطينيين، وكأنهم لا يتشاركون المعاناة والمصير.

بجانب ذلك، شكّل الارتباط العضوي بين الهوية الفلسطينية والامتداد العربي قبل نكبة عام 1948، عائقاً امام تبلور هوية فلسطينية مستقلة بذاتها، حيث أنه وبعد استقلال الدول العربية عن الانتداب والاستعمار، سعت منفردة إلى صياغة هوية قومية تُميزها عن الآخر العربي، الأمر الذي لم تسنح الفرصة للفلسطيني القيام به، وبقي رهن علاقة فلسطينية – عربية تجاوزتها الأمة العربية.

بالإضافة إلى ذلك، لم تحظَ الهوية الفلسطينية – المستقلة بنقاش كافٍ على المستوى السياسي والاجتماعي، وذلك لارتباط الهوية الفلسطينية وغيرها من القضايا المصيرية، بالتحرير، حيث رأت حركة التحرر الفلسطينية بأن المُطالبة بأقل من التحرير الكامل هو قبول بانهيار الكيانية والهوية الفلسطينية.1

اليوم، تتعامل القيادة الفلسطينية على جانبي الخط الأخضر مع الهوية الفلسطينية ضمن إطار وطني، وهو أشبه بإطار يضم مجموعة من الأشخاص الذين يتشاركون تاريخاً مُعيناً، أو مرتبطون بعلاقات قربى، وذلك بعيداً عن البرامج السياسية وأي تجسيد سياسي لهذا الإطار الوطني، الأمر الذي لا يتوافق مع ماهية الهوية التي يجب أن تنسجم مع معطيات الفكر السياسي والقانوني، استناداً الى قاعدة المواطنة بوصفها مبدأً قانونياً تحدد بموجبه حقوق وواجبات الشعب.2

ولعل أحد أهم الأسئلة التي تفرض نفسها في هذا السياق هي؛ إلى أي مدى يُمكن بناء إطار وطني يُعزز الهوية الفلسطينية في ظل غياب رؤية قانونية وسياسية تعرّف بشكل واضح من هو الفلسطيني، وفي ظل اختلاف الواجبات القانونية والسياسية “للمجموعات” الفلسطينية.

إن كارثية الخيارات السياسية التي تُطرح من قبل السياسيين على أنها الحل الأوحد والأمثل أمام الفلسطينيين، ووجوب قبولها كحل تكتيكي ومؤقت، تُظهر الفلسطيني بأنه عاجز وليس هناك ما يمكن تحقيقه. كما انها تضع الفلسطيني في موقع اللا – فعل، والتماهي مع الحقائق التي تفرضها “إسرائيل” على أرض الواقع.

إن استمرار غياب برنامج وطني تحرري يجمع الكل الفلسطيني تحت مظلته،3 سينهي الأمر بنا كأقليات اثنية تعيش في تجمعات صغيرة ضمن “إسرائيل”، ولن تختلف عن البانستونات التي فُرض على السُكان الأصليين في جنوب أفريقيا العيش فيها.

الهوية الوطنية الفلسطينية المستقبلية: تفكيك المنظومة الاستعمارية
إن بناء الدولة الفلسطينية المستقلة على الأرض المحتلة عام 1967، وعودة اللاجئين وفق قرار الجمعية العامة 194 إلى “إسرائيل”، لن يُمكن الفلسطينيين من بناء هوية فلسطينية لكل الفلسطينيين. كما أن باقي مبادرات السلام وعلى رأسها مبادرة السلام العربية،4 لا تخرج من إطار إدارة الصراع دون معالجة جذوره.

فإذا افترضنا نجاح المشاريع السياسية للفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر، أي بناء دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967، وتحقيق مواطنة كاملة دون تمييز للفلسطينيين داخل الخط الأخضر، فكيف سنتمكن من بناء هوية فلسطينية جامعة؟ ولماذا يشعر الفلسطيني داخل الخط الأخضر بالقومية الفلسطينية بعد أن يحصل على مواطنة “إسرائيلية” كاملة؟ ولماذا يكترث المواطن الفلسطيني في دولة فلسطين باللاجئين الفلسطينيين في مخيمات لُبنان وسوريا والأردن؟

تأتي هذه الأسئلة انطلاقاً من ضرورة التفكير والتأمل في مستقبل الفلسطيني وهويته، وضرورة العمل على تطوير برنامج تحرري للشعب والوطن الفلسطيني، وليس مشروع الدولة. فبرنامج الشعب هو برنامج يلعب فيه الفلسطينيون في كافة أماكن تواجدهم دوراً مركزياً، بينما مشروع الدولة هو مشروع لتجزئة المجزأ، وتجاوز لحق الشعب في كافة أماكن تواجده في تقرير المصير.

إن المطلوب حالياً هو برنامج تحرري يتعامل مع اسرائيل كحالة استعمار ويسعى لتفكيك هذه المنظومة، وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني ولكافة من يعيش بين البحر والنهر.

ولا يجوز قراءة هذه التخيلية ضمن معطيات الواقع الحالي، والعلاقة بين المُسَتعمِرين والمُستَعمَرين القائمة على تفوق المُستعمِر قيمياً وعرقياً وأخلاقياً، وإنما من خلال الحقائق التي سيفرضها النضال الفلسطيني في المستقبل، والاعتراف بكافة الحقوق الفلسطينية كاملة غير منقوصة، وإنهاء هيمنة المستعمرين.

ومن الضروري التوضيح بأن قضية التحرر لا تقتصر فقط على جلاء الاستعمار أو تفكيك المنظومة الاستعمارية، وانما هي مسألة إحقاق الحقوق واسترداد الكرامة، ومحاسبة القائمين على النظام الاستعماري. فهل سنعتبر أحراراً إذا أُغفلت حقوق الفقراء؟ أو إذا تم التأسيس لدولة شمولية تنتهك الحقوق والحريات؟

إن الهدف من إثارة مثل هذه الأسئلة ومحاولة تقديم إجابات منطقية لها، لا يكمن فقط في محاولة استشراف المستقبل، وانما أيضاً بهدف الدعوة لوضع برنامج وطني تحرري واضح يُشارك فيه الفلسطينيون كافة، ويكون قادراً على تقديم إجابات واضحة. كما وتفرض علينا هذه الأسئلة، الاخذ بعين الاعتبار مستقبل المستعمرين الإسرائيليين الذين سيفقدون صفة المستعمرين خلال وبعد تفكيك المنظومة الاستعمارية، والذين لم يعد لديهم أي مكان سوى فلسطين، وذلك بحكم الاستعمار الطويل، وعدم وجود دولة واحدة يمكنهم العودة إليها.

ومن أجل الوصول إلى هذه الحالة من التحرر، يجب تفكيك المنظومة الاستعمارية التي تُميز الإسرائيلي عن الفلسطيني. والمقصود بتفكيك المنظومة الاستعمارية هو تفكيك ركائزها المادية والمؤسساتية والقانونية والأيديولوجية، واستبدالها بمنظومة حقوقية دستورية مؤسسة على مبادئ الديمقراطية والمساواة، في دولة تضمن عدم التمييز وتحفظ حقوق الانسان. ولن يتم ذلك إلا من خلال الاعتراف بالمسؤولية التاريخية عما حلّ بالشعب الفلسطيني بفعل السياسات الاستعمارية كتلك المتعلقة بالأرض، وغيرها من سياسات هادفة إلى تهجير الفلسطينيين بهدف ضمان التفوق الديموغرافي اليهودي.

بالمقابل، ومن أجل الوصول إلى حلولٍ دائمة وعادلة، يجب على حركة التحرر الفلسطينية أن تتضمن في برامجها مُستقبل المستعمرين الذي تجاوز عددهم 6 مليون، وطبيعة حقوقهم وواجباتهم في الدولة الفلسطينية المستقبلية، وكيف سيبدو شكل الهوية الفلسطينية بمشاركة 6 مليون شخص من ثقافات مختلفة في الدولة الفلسطينية.

في الحقيقة، إن صعوبة تشكيل هوية فلسطينية واحدة تضم 18 مليون فلسطيني (12 مليون فلسطيني و6 مليون من المستعمرين الذين اكتسبوا الجنسية)، لا تكمن فقط في كيفية دمج المواطنين الجدد (6 مليون) في هذه الهوية، بل تُثير أيضاً تساؤلات حول علاقة الهويات الفرعية (الدينية والاثنية) بالهوية الفلسطينية وبالمواطنة، والتي بالإمكان تجاوزها من خلال إرساء المنظومة الحقوقية للدولة الفلسطينية المستقبلية.

فعلى الصعيد الفلسطيني، اكتسب اللاجئون الفلسطينيون وعلى مدار سبعين عاماً من التهجير المستمر، عادات وتقاليد جديدة ليست فلسطينية ولا يمكن تغييبها. فلا يُمكن تجاهل أثر الهوية السورية على هوية الجيل الثالث من اللاجئين الفلسطينيين، ولا يمكن إنكار أثر الحرمان من الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية للاجئين في لبنان على هويتهم. كما أنه من الصعب تجاوز الهوية التي اكتسبها اللاجئون الفلسطينيون في الأردن، بحكم مواطنتهم وجنسيتهم الأردنية.

اليوم وبعد مرور سبعين عاماً على النكبة، يُمكننا الجزم بأن الفلسطينيين يشتركون في ماضيهم وما ترتب عليه من تجزئة لهم، لكن لا يوجد ما يجمعهم في الحاضر أو المُستقبل سوى استمرار معاناتهم وانتقاص حقوقهم وهدف التحرر. ولا تقتصر مسألة الحقوق على عودة اللاجئين أو تعويضهم فقط، وإنما تمتد أيضاً لتشمل الحق في تقرير المصير، والحق في الجنسية والمواطنة، وغيرها من الحقوق الأساسية الأخرى التي حرموا منها طوال سبعين عاماً.

ويكمن أساس اختلاف الحاضر والمستقبل بين الفلسطينيين أنفسهم في زوايا عديدة، أبرزها حرمانهم من التواصل فيما بينهم، واختلاطهم بالمجتمعات المضيفة التي ربما تكون قد احدثت تغييرات اجتماعياً وعائلياً في بعض الأحيان، وخضوعهم لأنظمة سياسية وقانونية مختلفة ومتباينة، وغيرها من الاسباب التي فرضت عليهم اكتساب عادات جديدة.

وأما على صعيد المستعمرين، سيتمتع أبناء الجيل الرابع الذين سيصبحون مواطنين في فلسطين، بالحقوق والواجبات بموجب المواطنة الفلسطينية، وذلك مقابل الاعتراف بالمسؤولية التاريخية عما حل بالفلسطينيين، ومحاسبة القائمين على نظام الاستعمار. بالإضافة إلى تخليهم عن الامتيازات والهيمنة التي منحها نظام الاستعمار لهم.

وبالرغم من الغصة التي قد يتركها هذا الادراك وبالتحديد في ظل موازين القوى التي تصب في مصالح المستعمر، إمعان “اسرائيل” في قمع الشعب الفلسطيني، وتهويد الأرض، وإنكار الوجود، إلا أنه لا يجب قراءة هذه المعادلة في ظل هذه الموازين، وإنما في الوقت الذي يتمتع به الفلسطيني بالقوة والقدرة على فرض الوقائع على الأرض.

ويقودنا ذلك إلى التساؤل عما يجمع الفلسطينيين المشتتين، والاسرائيليين الذين ينتمون لأكثر من عرق وإثنية ضمن إطار هوية واحدة. وكيف من الممكن الاستفادة من الدروس والاستنتاجات لتجربة جنوب أفريقيا في الصراع ضد الاستعمار، وفي تشكيل هوية جنوب أفريقيا بعد تفكيك النظام الاستعماري والعنصري؟

إن ما يجمع الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم هي مسألة حقوقهم واسترداد كرامتهم، سواء كان حقهم في العودة، أو حقهم في الجنسية، أو غيرها من الحقوق. كما أن ما سيجمع الاسرائيليين هي أيضاً مسالة حقوقهم، وضمان عدم انتهاكها بالانتقام أو المحاسبة خارج إطار مبادئ العدالة.

إن الحل المبني على الحقوق هو الضامن الوحيد لديمومة الحل النهائي وعدالته، فهذا الحل يُعالج الجذور المُسببة للصراع، ويعمل بالأساس على ضمان الحقوق الأساسية للإنسان، وذلك بعيداً عن علاقات القوى التي تتغير بشكل دائم.

إن ممارسات ما بعد التحرر لا تقل أهمية وخطورة عن مرحلة التحرر ذاتها، ولعل فشل محاولة جنوب أفريقيا في بناء هوية جامعة لكافة مواطنيها مثال واضح. فقد نجح نضال حركات التحرر في جنوب أفريقيا في الفترة 1913 – 1993 في وأد النظام الاستعماري والعنصري سياسياً وقانونياً، إلا أنه فشل في تكريس هذا النجاح على المستوى القاعدي والمجتمعي، وفي بناء هوية واحدة.

ويعود السبب في هذا الفشل إلى تجاهل الجذور المسببة للصراع ومعالجته بطريقة سياسية وقانونية بحتة، دون الالتفات الى حقوق الغالبية العظمى وإلى الأبعاد الاجتماعية والأيديولوجية المؤثرة ليس فقط في تكوين الهوية والمواطنة، بل في نظم العلاقة في المجتمع الناشئ.

إن تجاهل مسألة استعادة الأراضي والممتلكات لم تُغير الحالة بشكل كبير للسكان الأصليين في جنوب أفريقيا. فأصحاب الحقوق لا يتأثرون بسن التشريعات والقوانين، وانما بالممارسات والاثار التي تتركها هذه القوانين. فما هي القيمة الحقيقية لإلغاء التشريعات العنصرية إذا لم يصل أثرها للمتضررين؟

ولعل فشل الحكومة الجديدة في جنوب أفريقيا في إحقاق الحقوق، وتحقيق المساواة لأولئك المتضررين، قد بات يُهدد الإنجاز السياسي والقانوني في جنوب أفريقيا. كما وذهبت تصريحات رئيس جنوب أفريقيا الأسبق نيلسون مانديلا بخصوص بناء هوية متنوعة “Rain Bow Identity”، عبثاً على صعيد المجتمع.

 فمن جهة، نجحت حركات التحرر في تفكيك الغاء التشريعات والقوانين الاستعمارية، وأجبر النظام العنصري على التخلي عن السلطة السياسية، وتم تشريع دستور جديد يُعامل كافة الأعراق في جنوب أفريقيا على قدم المساواة. من جهة أخرى، فشلت حركات التحرر في تمكين السكان الأصليين من ممارسة حقوقهم، ومن معالجة آثر الفصل العنصري اجتماعياً وأيديولوجياً.

وقد أدى عدم معالجة العلاقة الاستعمارية على الصعيد الشعبي، ووضع أسس واضحة لإنهاء هذه العلاقة، إلى ظهور العديد من التحديات التي تُهدد الإنجاز القانوني والسياسي في جنوب أفريقيا؛ إذ ان هناك العديد من المشاكل التي تجعل من الصعب تطوير هوية جامعة في جنوب أفريقيا. وتتمثل أهمها في الفقر وغياب العدالة الاجتماعية، حيث أصبحت الانقسامات الاقتصادية أكثر أهمية بالنسبة للهوية الاجتماعية.

على الصعيد الفلسطيني، ومن أجل تحقيق مصالحة حقيقية تضمن استقرار وديمومة السلام العادل المؤسس على الحقوق في فلسطين، يجب تفادي أخطاء التجارب الأخرى. ولن يكون ذلك بإغفال الآثار الاجتماعية للاستعمار والاقتصار على معالجة أثاره القانونية والسياسية، المتمثلة في القوانين والتشريعات.

فمن المؤكد بأن اللاجئين الفلسطينيين تأثروا وبشكل مباشر من قانون أملاك الغائبين، الذي يمنع 8 مليون لاجئ ومهجر من ممارسة حقهم في العودة، إلا أنهم ايضاً تأثروا بفعل الممارسات اليومية لإسرائيل كالاعتقالات، والاستهداف المباشر للشباب، والحرمان من الحق في العبادة، والاسترسال في القمع والمصادرة.

وبالتالي، فإن اقتصار أي معالجة على القوانين والسياسات بعيداً عن معالجة الممارسات التي لامست الحياة اليومية للفلسطينيين، لن تؤدي بدورها الى الاستقرار والعدالة التي يبحث عنها الفلسطيني. على العكس، فإن عدم معالجة الجوانب الاجتماعية، لن يعدو عن كونه تمهيداً لحماية المصالح السياسية والاقتصادية للنخب الجديدة.

إن المخاطر التي قد تهدد مستقبل الدولة الفلسطينية، تظهر في العديد من الزوايا. فعلى سبيل المثال، قد يكون هناك تغيير قانوني وسياسي تقوده طبقة فلسطينية – عربية، مع الاحتفاظ بإرث نظام الاستعمار والفصل العنصري وغياب المساواة وتفاوت الثروة داخل المجتمع. فهل يمكن تشكيل هوية واحدة في ظل هذه الظروف؟

الخلاصة:
إن أي عملية مستقبلية تهدف الى ايجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية ووضع حد للصراع المتجدد، وانهاء حالة اللجوء المستمرة، يجب أن تكون مؤسسة على تطبيق مبادئ العدالة، وتمكين أصحاب الحقوق من ممارسة حقوقهم. ولن يكون من الواقعي الحديث عن أية حلول نهائية في ظل التجاوز المستمر لجذور الصراع – السيطرة على أكبر مساحة من الأرض بأقل عدد من السكان الفلسطينيين – وتهميش من تأثروا به.

فالاعتقاد بأنه من الممكن التوصل لحلول نهائية للصراع دون إيجاد حلول عادلة، لن يعدو عن كونه ادارة للصراع وتأجيل له. كما أن مبادرات السلام المقترحة لحل القضية الفلسطينية، ليست إلا صفقات تخدم نخبة وفئة معينة من الشعب الفلسطيني، ولا تتعامل مع الشعب كوحدة واحدة.

في هذا الإطار، يجب علينا كفلسطينيين إدراك أن مرحلة ما بعد التحرر لا تقل أهمية، إذا لم تفق في أهميتها، عن مرحلة التحرر ذاتها. كما أنه من الضروري الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى واخذ العبر من اخطائها.  

فعملية التحرر من الاستعمار والنضال الذي تخوضه حركة التحرر، ليست إلا وسيلة للوصول إلى حالة تُسترد فيها كرامة أصحاب الأرض، ونزع للشرعية التي تضمن تفوق المستعمر على الشعب تحت الاستعمار. وعليه، يجب أن تأخذ مسألة ما بعد التحرر مساحة كبيرة من الأدبيات التحررية، وذلك ضمن برنامج وطني متكامل.

حالياً، إن برامج القيادة السياسية للفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر لا ترقى الى اعتبارها برامج وطنية، فهي برامج سياسية بامتياز تسعى للحفاظ على الحد الادنى مما حققته نضالات الشعب الفلسطيني.

في النهاية وبمراجعة سريعة لتاريخ حركات التحرر حول العالم، نرى بأنها قد مرتّ بالعديد من الانتكاسات وحالات الخذلان. لكن ما يجب تعلمه من هذه الحركات أن عدم القدرة على تحقيق الأهداف لا يعني تغييرها، وانما تغيير الوسائل والاليات و\أو تطويرها. كما لا يجب التعامل مع ما هو متاح على انه الحل الأمثل، فغالباً ما يكون المتاح هو ما يمنحه الطرف الأقوى للأضعف وبشروطه، بينما برنامج حركات التحرر يجب أن يبنى على ما يجب تحقيقه.

----------------------------
* أحمد همّاش: منسّق وحدة التفعيل المجتمعي لدى مركز بديل.
---------------------------
الهوامش:  
1 نديم روحانا، “المشروع الوطني الفلسطيني: نحو استعادة الإطار الكولونيالي الاستيطاني،” مجلة الدراسات الفلسطينية 97، (2014): 19.
2 أحمد أبو غوش وعبد الفتاح القلقيلي، “ الهوية الوطنية الفلسطينية: خصوصية التشكل والإطار الناظم” (ورقة عمل، بديل/ المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، 2012)، 13.
3 يجب هنا التفريق بين البرنامج السياسي الداعي الى إقامة دولة على حدود 67، وغياب برنامج وطني يشمل كل الفلسطينيين (12 مليون) فلسطيني
4 مبادرة للسلام أطلقها الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز بين الفلسطينيين واسرائيل، وتهدف لإنشاء دولة فلسطينية على حدود 1967 وانسحاب من هضبة الجولان، مقابل تطبيع العلاقات بين الدول العربية مع اسرائيل.