الدولة الفلسطينية العتيدة وحق العودة: رؤية مغايرة

بقلم:  تيسير محيسن*

تنشغل النخبة السياسية الفلسطينية، في هذه الآونة، في موضوع المصالحة وصفقة القرن، والمواجهة المحتملة في الشمال مع تصاعد التوتر بصورة ملحوظة. واللافت أن موضوع اللاجئين وحقهم في العودة أو تحديد مصيرهم ليس من بين القضايا التي تشغل النخبة والقيادة الرسمية.
 
وفي ظل العاصفة الشديدة التي تمر في أجواء المنطقة، بات الشأن الفلسطيني عرضة لهزات عنيفة وشديدة الخطورة ليس على الحقوق فحسب، بل وربما على الوجود ذاته. وبقدر ما يتعلق موضوع هذه المقالة باللاجئين، يجدر ملاحظة أن المنطقة العربية تُعد أكبر مصدر للاجئين في العالم (نحو 20 مليونا من إجمالي 65 مليونا على مستوى العالم)، وأن اللاجئين الفلسطينيين لم يعودوا استثناء.

الامر الآخر، أن العاصفة تكاد تأخذ معها إلى غياهب المجهول نموذج الدولة الوطنية العربية، ليحل محله نموذج الدولة الفاشلة أو دولة الطوائف. ومن المعروف تاريخياً أن تشكل الدولة الوطنية على مستوى العالم قد أنتج أكبر قدر من اللاجئين (حوالي 100 مليون بين عامي 1912-1969).

هذا وقد خُلقت مشكلة اللجوء الفلسطيني في سياق تقسيم بلاد الشام وإقامة دول قطرية على أساس تفاهمات سايكس-بيكو. إلى ذلك ترافق قمع اللاجئين الفلسطينيين في بلاد مضيفة مع تصاعد فعلي في إشهار سياسات الهوية الوطنية والطائفية.  

ويمكننا هنا ملاحظة مفارقتين: أولاً، لم يعد اللجوء استثناء فلسطينياً كما لم يعد التوحش والعنصرية استثناء إسرائيلياً. ثانياً، ترتفع أصوات ترى إعادة النظر في الهوية الوطنية/القومية التي لا مكان فيها للاجئ وتطالب باعتبار عبور الحدود حقا إنسانياً مكفولاً.

والواقع أن اللاجئ الفلسطيني بعد سبعين عاماً لم يجد حلا لمأساته، لا في الدولة الوطنية العربية التي أصبحت طاردة بعد أن كانت قامعة. ولا في تطبيق حق العودة إلى دولة باتت تسمى إسرائيل وتسعى لانتزاع اعتراف العالم بها بوصفها دولة يهودية.

وتجنباً لحلول التوطين والنفي في سياق إقليم يُعاد بناؤه على أسس طائفية ومذهبية ويشهد نهاية مرحلة الدولة الوطنية، تقترح هذه المقالة أن الحل الأمثل هو نفي “المخيم” كواقع وكنموذج للتعامل مع الفلسطيني، باتجاهين: العبور الحر إلى ربوع العالم منعا للأسر والإذلال والتدمير والحصار بما في ذلك العبور إلى دولة فلسطين العتيدة دون اسقاط حق العودة بالطبع أو المساومة عليه. علاوة على ذلك، منع دولة الاحتلال من خلق لجوء فلسطيني جديد فعليا أو رمزيا كما هو الحال مع نموذج قطاع غزة.

تتعامل إسرائيل مع قطاع غزة منذ انسحابها منه عام 2005 استناداً إلى براديم “السجن”، أي عبر الحصار والردع والتحكم بأساليب جديدة. وقد جسد آفي ديختر هذا البراديم في اجتماع الكابينيت، عشية الإعلان عن نتائج انتخابات المجلس التشريعي (2006) وفوز حركة حماس، حين قال: “ضعوهم في طنجرة ضغط وكلما ضاق بهم الحال نفسوا عنهم قليلا.”

وبعد عدوان 2014 تحول هذا التعامل إلى براديم “المخيم”، حيث المخيم مكاناً معزولاً ومفصولاً عن سياقه، محاطا بمراقبة أمنية شديدة، وتتولى شأنه إدارة محلية وتشرف على تسيير حياة ساكنيه هيئات الإغاثة والمعونة الإنسانية. اندرج قطاع غزة برمته ضمن التوجه الإقليمي “تعميم حالة اللجوء” وخاصة أن 75% من قاطنيه هم أساساً من لاجئي عام 1948.

وبهذا المعنى، لم تفصل إسرائيل بين قطاع غزة والضفة الغربية جغرافياً فحسب، بل وسياسياً من حيث أن تحديد مصير كل منهما بات يختلف عن الآخر.

إن إسرائيل مطمئنة لأن لا أحد في هذا العالم يجبرها على إعادة اللاجئين إلى ديارهم التي هجروا منها، كما وتستمر في خلق حالات لجوء جديدة لمن بقوا يقيمون على أرض فلسطين، وتتستر وراء أحداث الإقليم التي تنتج لاجئين بالملايين، وتستفيد منها وتوظفها.

ويكمن التحدي الرئيس في التخلص من المخيم باعتباره حالة، مؤقتة وذلك عن طريق تحقيق العودة. لكن وضمن المعطيات الحالية، يصبح التحدي رفض فكرة المخيم والتخلص منه دون تحقيق حلم العودة إلى حين. لذلك، علينا أن نستعيد استثناءيتنا/ خصوصيتنا التي تذوي اليوم في سياق حرب الكل ضد الكل.

إن الحل المقترح مركب ويبدو أنه متناقض: نفي المخيم في الدولة الوطنية العربية وإتاحة الفرصة للاجئين إما للعودة إلى دولتهم الوطنية، أو إعطاؤهم الحق في الحركة وتجاوز الحدود بحثاً عن آفاق أرحب تحقق لهم العيش الكريم والآمن وحرية المساهمة في الكفاح الوطني المستمر، وذلك بعيداً عن الاعتقال والابتزاز والقتل والتدمير الذي يلاحقهم.

إلى جانب ذلك، يتطلب الأمر تعزيز صمود الفلسطيني فوق أرضه، وعدم تقديم أي ذرائع لدولة الاحتلال العنصري للتخلص منه، ومجاراة العالم في محاولاته تطبيق حل الدولتين دون اسقاط حق العودة، أو حتى طرحه للتفاوض في هذه الآونة.

ومن ناحية اخرى، يمكن استيعاب كثير من لاجئي الشتات في ظل الدولة الفلسطينية إذا ما أقيمت. فلاجئون في وطنهم أفضل من لاجئين هائمين على وجوههم في عالم شديد الظلم والعنصرية، حيث لم تعد دول الطوائف مكاناً يُمكن أن يشكل نقطة عبور إلى الوطن، بل على العكس ربما تسهم في إنتاج كيانات طائفية أخرى لاستيعاب لاجئين عرب على أساس طائفي أو مذهبي بما يخدم فكرة يهودية إسرائيل، ويرفع عنها حرج التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين من منظور عنصري أو ديموغرافي أو أمني.

فما هو شكل الدولة التي يمكن أن تشكل حلاً مركباً ومؤقتاً لمجمل القضايا والمشاكل المرتبطة بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي؟ بالطبع الدولة الواحدة، دولة ديموقراطية لكل مواطنيها على أرض فلسطين هي الحل الأمثل للمسألتين اليهودية والفلسطينية، لكنه حل غير واقعي في ظروف العالم الحالية.

يبقى خيار الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران الخيار الأكثر واقعية، باعتباره تعبيراً عن الإرادة الدولية ويحظى بالإجماع في ظل علاقات القوى في النظام الدولي المعاصر. ويبقى التحدي ألا يكون القبول بهذه الدولة مشروطاً بإسقاط حق العودة والتنازل عنه، أو بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية. وعلينا الانتباه إلى مسألة بالغة الخطورة، أي أن التعبير عن رفضنا للحل المشروط يجب ألا يتيح لإسرائيل إمكانية تطبيق بدائلها؛ الحل الإقليمي أو التهجير.

وإذا كان اليسار الصهيوني يرى في قيام دولة فلسطينية (بالشروط الإسرائيلية) نوعا من الضمان الديموغرافي ليهودية الدولة، فإن علينا أن نجعل منها مرحلة تاريخية مؤقتة على طريق تحقيق الحقوق الوطنية المشروعة، حق تقرير المصير والعودة.

إن الميزة الإضافية في فكرة الدولة الفلسطينية أنها تحفظ وجودنا وتطوره كجماعة سياسية فوق أرض فلسطين، كما انها ستشكل حلاً من نوع ما لمأساة الشتات في ظل أوضاع الإقليم التي انقلبت رأسا على عقب ولم تعد تشكل بيئة حاضنة لهم. وتضمن لنا هذه الدولة إطار وطني جامع ومعبر عن الهوية وضامناً لبقاءها، ومكاناً آمناً لمن يضيق به الحال في ربوع المعمورة.

من القضايا الملتبسة في التاريخ السياسي الفلسطيني علاقة الدولة بالتحرير، تقرير المصير بالعودة. ولم يكن مطلب الدولة هو الغالب بينما ظلت العودة المحرك الرئيس للسلوك الفلسطيني، الا ان الامر راح يأخذ منحى جديد منذ منتصف سبعينات القرن المنصرم. وقد ظهرت ثلاثة مطالب لثلاثة تجمعات: العودة، الدولة، المواطنة المتساوية، وبدا أن الاحتلال يقايض أحدهما بالآخر على طريق ضربها جميعا عرض الحائط، ووقعت القيادة الفلسطينية في هذا الشرك والالتباس.

ويمكن لفكرة الدولة أن تحمل مضمونا سياسياً مشتركاً. فبينما تفترض هذه الفكرة بقاء فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948 في وطنهم واستمرار نضالهم من أجل حقوقهم السياسية والمدنية، فإنها تحمل لفلسطينيي الشتات بعض الأمل، إذ يصبح لهم “دولة” يواصلون منها ومعها نضالهم من أجل العودة أو ضد التوطين والنفي الدائم.

هنا، تنتقل فلسطين من مجرد تخيلية سياسية أو حلم بعيد المنال إلى واقع مؤقت، لكنه واقع يفتح على المستقبل بوعود ورهانات أفضل من واقع الشتات والتيه.

وقد اكتفت إسرائيل بإقرار العالم بحقيقة وجودها عام 1948، ولم تطالبه أو تشترط هذا الإقرار بالاعتراف بحق اليهود حصراً في العودة إليها، أو بأنها وطناً حصرياً لليهود. وتمتعت قيادتها بذكاء عملي وتاريخي أوصلها اليوم إلى المطالبة باعتراف العالم بحقها في أن تصبح دولة يهودية خالصة.  

من الناحية المثالية، قَبَل الفلسطيني بدولة ديمقراطية على أرض فلسطين لكل مواطنيها، لكن إسرائيل قوضت هذا المخيال في مهده بالفعل وبالقوة، وهجرت عدداً كبيراً من الفلسطينيين ومن ثم احتلت المساحة التي تبقت وحالت دون إقامة أي كيانية سياسية باستثناء “السلطة الفلسطينية” المكبلة ومنقوصة السيادة.

ولا زالت تسعى في هذه الآونة إلى تقويض أي شكل من أشكال الكيانية وتدفع باتجاه الحل الإقليمي واستكمال سيطرتها على الأرض الفلسطينية وضمان الاعتراف بها دولة يهودية خالصة.  

وبالرغم من أن كفاح الفلسطينيين جاء في سياق الرد على التحديات الناجمة عن الاستعمار الغربي، وانهيار الدولة العثمانية ومواجهة المشروع الصهيوني الاستيطاني، أي في إطار البحث عن هوية وكيانية، غير أن فكرة الدولة المستقلة لم تحضر إلا في سبعينيات القرن العشرين، بعد أن ظلت فكرة التحرر مهيمنة طويلاً.

لم يجمع الفلسطينيون على فكرة الدولة في وقت واحد، كما لم يتفقوا على إستراتيجية الوصول إليها وتحقيقها، وتباينت وجهات نظرهم بتباين مرجعياتهم الفكرية والسياسية، حول طبيعتها وما يجب أن تكون عليه.

وإذا كانت فكرة التحرر تقتضي التركيز على البعد الكفاحي والسياسي، فإن فكرة الدولة تقتضي تعزيز البناء المؤسساتي، وتفعيل ديناميات التمثيل الاجتماعي والسياسي، وربط المسألة الوطنية بالقضية الاجتماعية.

وتفاوتت التنظيمات السياسية في تبنى رؤى وإستراتيجيات تجمع جمعاً جدلياً بين أفكار التوحيد وبناء الهوية والتحرر والدولانية، تفاوتاً أفضى في معظم الحالات إلى انقسامات كبيرة وشروخ عميقة، كما أفضى بالتأكيد إلى المباعدة بينهم وبين تحقيق أهدافهم، وأضاع عليهم فرصاً كثيرة كان من شأنها أن تعجل بقيام دولتهم.

على الرغم من قيودها ومحدداتها واختلاف المواقف السياسية تجاهها، شكلت تجربة بناء السلطة الوطنية الفلسطينية، فرصة ثمينة وفتحت مساراً جديداً لتناول قضايا مرتبطة بفكرة الدولانية وبناء الذات الوطنية. في المقابل، لم تقدم معالجات ومخططات تفصيلية لعديد من القضايا، كدور منظمة التحرير ومصيرها وعلاقتها بالسلطة ومن ثم بالدولة.

إلى جانب ذلك، أبرزت التجربة عوامل قوة الفلسطينيين ومكامن ضعفهم في كل ما يرتبط بالجدارة والأهلية، إذ لم يعد يكفي القول أن من حق الفلسطينيين إقامة دولتهم الخاصة، بل إنهم جديرين بها. كما جعلت التجربة للكثير من الموضوعات المرتبطة بالدولة تاريخ ومسار تطوري؛ كالانتخابات وسن القوانين وتزويد الخدمات الأساسية والبناء المؤسساتي والحكم وغيرها.

بالرغم من أن فكرة الدولة لازالت بمثابة المحرض والملهم والهدف الأول لكفاح الشعب الفلسطيني، غير أن ثمة تهديدات جديدة وجدية تتراوح بين تأجيلها والإجحاف بمقوماتها الفعلية على الأرض، وبين إمكانية تقزيمها وتفريغها من مضمونها. وربما لهذا السبب بات على التنظيمات الفلسطينية أن تطور إستراتيجيات للدولة تبتعد عن التجريدات الأيديولوجية الغائمة، وعن التصورات الطوباوية وترتكز على ما أنجز من فكرة الدولانية وتحافظ عليه، وعلى ما يمكن ويجب تحقيقه، وفي هذا السياق عليها أن تتجنب السلوك السياسي المدمر الذي يوفر الذرائع للاحتلال من جهة، ويفقد الفلسطينيين تقدير العالم لجدارتهم وأهليتهم.
* تيسير محيسن: باحث وكاتب سياسي مقيم في غزة