تجربة جنوب أفريقيا: الدروس المستفادة

بقلم: أحمد هماش*

مقدمة:

بالرغم من الدور الذي لعبته رحلات الاستكشاف الجغرافية وتطور حركة التجارة العالمية في نهضة أوروبا وازدهار اقتصادها منذ القرن السادس عشر، إلا أن آثارها قد انعكست سلباً على العديد من الشعوب حول العالم. من ذلك، أن أطماع الدول الاستعمارية أدت إلى إبادة شعوب بأكملها واحلال مستوطنين جدد، ونهب ثروات الشعوب وتوظيفهم لخدمة مصالح المستعمرين.

لا تختلف أهداف الاستعمار في أفريقيا هنا عن الحالات اللاحقة التي أنتجتها الثورة الصناعية، فكلاهما سعى الى تعظيم مصالحه وتوسيع مناطق نفوذه. بيد انه يوجد اختلاف تكمن في محاور أخرى مثل التطهير العرقي الكامل للمستعمرات كما حصل في أمريكا، وفترة الاستعمار الطويلة، وتعدد المستعمرين، حيث وقعت جنوب أفريقيا تحت الاستعمار الهولندي ولاحقاً البريطاني لفترة زادت عن أربعة قرون. بالإضافة الى ذلك، لم تكن مفاهيم مثل المواطنة وحق تقرير المصير قد تطورت بعد، الأمر الذي سمح للقوى الاستعمارية بالتمادي في قمعها للشعوب الأصلية.

يتناول هذا المقال الاليات والسياسات التي استخدمتها حكومة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بهدف الاستيلاء على الأرض دون سُكانها، كما ويُبرز كيف ناضل السُّكان الأصليين ضد هذا النظام في سبيل تحقيق نظام ديموقراطي يضمن استردادهم لحقوقهم وأراضيهم التي حُرموا وجُردواً منها بناء على مبادئ العدالة والمساواة.

تكمن أهمية دراسة تجربة جنوب أفريقيا في عدة نواحٍ أهمها: أولاً، ضرورة التعلم والاطلاع على تجارب الدول الأخرى والاستفادة من خبراتهم في مواجهة الاستعمار ونظامه القائم على العنصرية. ثانياً، التعرف على آليات معالجة جذور الصراع كوحدة واحدة وعدم تجزئته وهو الضمان لتحقيق الاستقرار والعدالة، والخروج من نطاق ادارة الصراع. أخيراً، التعرف على الآليات والإجراءات العملية التي اتبعها النظام الديمقراطي في مجال تمكين أصحاب الحقوق وإعادة توزيع الأراضي بين المواطنين بما يضمن مبادئ العدالة.

نظام الفصل العنصري "الأبارتهايد"

يُقصد بمصطلح "الأبارتهايد" نظام الفصل العنصري المُمَأسس في القوانين والسياسات والممارسات الرسمية بهدف ادامة سيطرة مجموعة عرقية على مجموعات أخرى. ويعود أصل الكلمة الى لغة المستعمرين الهولنديين الذين استعمروا جنوب أفريقيا وفرضوا نظام فصل عنصري بهدف ادامة سيطرتهم على السكان الأصليين واستغلالهم.[1]

خلال أكثر من قرن، عانى السُّكان الأصليين في جنوب أفريقيا من تاريخ طويل من الاستعمار؛ جردهم من أراضيهم وممتلكاتهم، وفرض عليهم قوانين وسياسات ترمي إلى ادامة هيمنة الأقلية البيضاء عليهم وعلى غالبية الأراضي. وقد برر المستعمرون سياساتهم وأهدافهم الاستعمارية بإنكار وجود وهوية السُّكان الأصليين، حيث ادعوا بأن جنوب أفريقيا كانت بلا شعب ولم تكن مسكونة لحظة وصول الأوروبيين، وأنهم من قام بإعمار وتطوير الأرض.

وفي إطار خدمة الهدف الاستعماري الكامن في السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض بأقل عدد من السُّكان الأصليين، ومن أجل تكريس نظام الاستعمار والفصل العنصري، سهلت الأقلية البيضاء المتنفذة عملية انتقال (السيطرة) الاراضي والأملاك من السُّكان الأصليين إلى المستعمرين من خلال سياسات وممارسات مختلفة؛ تمثلت في الغزو المباشر على الأراضي واحتلالها، أو مصادرة الأراضي، أو التزوير والخداع، أو خليط من هذه السياسات.

بالإضافة إلى ذلك، قام المستعمرون بتطوير مجموعة من القوانين والسياسات التي سهلت تجريد السكان الأصليين من أراضيهم وممتلكاتهم، حيث سهل قانون الأراضي للعام 1913 والمعدل عام 1936 انتقال الأراضي من السُّكان الأصليين للمستعمرين. نتج عن هذا القانون حصر السود (80% من السكان) فيما لا يزيد عن 13٪ من أرض جنوب أفريقيا، بينما سيطرت الأقلية البيضاء (20% من السكان) على بقية البلاد. 

بموجب هذا القانون، فُرض على الغالبية العظمى من السُّكان الأصليين العيش في تجمعات معزولة والتي عُرفت تحت حكم الحزب الوطني بالبانتوستان (المعازل)[2]. وفي إطار تكريس الوضع القائم وادامة هيمنة البيض على المجموعات الأخرى، مُنحت هذه الباستونات (المعازل) الحكم الذاتي على أنها أوطان للسكان الأصليين تحت ادارة متواطئين ووكلاء للاستعمار من السُّكان الأصليين.

لم يقتصر أثر السياسات والقوانين العنصرية التي فرضها البيض على الاستيلاء على ممتلكات السُّكان الأصليين وأراضيهم فحسب، وانما امتد الى التدخل في مختلف مجالات ومناحي حياتهم مثل حرمانهم من حرية الحركة والحق في التنمية والاكتفاء الذاتي، ما جعلهم بشكل دائم في حاجة الى المستعمر من أجل للبقاء. وقد انعكست هذه الممارسات أيضاً على النسيج الاجتماعي، وأدت الى تفتته بسبب تشتت العائلات في باستونات مختلفة، بالإضافة إلى نقل العديد من السكان الأصليين للعمل في مزارع ومصانع الأقلية البيضاء. 

ومع وصوله الى سدة الحكم عام 1948، عمل الحزب الوطني على تكريس هيمنة الأقلية البيضاء من خلال استكمال السياسات والقوانين العنصرية الرامية للسيطرة على ما تبقى من الأرض، وتهجير السُّكان الذين لم يتأثروا بقانون 1936. ففي العام 1950، قامت الحكومة بسن قانون المجموعات الذي ينص على "تنظيف" المناطق السوداء، والذي سمح للدولة استكمال عملية تهجير السُّكان الأصليين، وتجريدهم من أراضيهم، وملكياتهم، ونقلهم قسراً الى المعازل المكتظة، دون الحاجة إلى محكمة أو إجراءات قانونية.

نتيجة لهذه السياسات الاستعمارية والعنصرية، تعرض ما بين 3 – 5 مليون من السُّكان الأصليين الى التهجير والنقل القسري في الفترة الواقعة ما بين 1950 – 1980، وذلك في إطار تكريس الفصل العنصري وفصل السُّكان عن بعضهم البعض وعدم الاختلاط بين الأعراق. بالمقابل، تمتعت الأقلية المُستعمِرة بكافة الحقوق التي تسمح لها بالاستعمار والتوسع والانتفاع من الأراضي ومواردها.

لقد شكلت مجموعة الممارسات والسياسات هذه ركيزة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والذي امتد لما يزيد عن أربعين عاماً (1948 – بداية التسعينيات) استخدمت خلالها السلطات مُختلف سياسات القمع والممارسات العنصرية بهدف ادامة سيطرة الأقلية البيضاء على السكان الأصليين.

مقاومة نظام الفصل العنصري:

شكل الحق في استعادة الأراضي والممتلكات التي جُرّد منها السكان الأصليين في ظل نظام الفصل العنصري جُزءاً رئيسياً من نضالهم لنيل حقوقهم وكرامتهم. وبالرغم من سياسات القمع المُمَنهج ومحاولات الاخضاع وتكريس الهيمنة التي حاول النظام العنصري ادامتها، لم يستسلم السُّكان الأصليون. فقد استمروا في نضالهم بهدف تفكيك المنظومة الاستعمارية والعنصرية، وقد شهدت فترة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات مقاومة شعبية واسعة ضد نظام الفصل العنصري انخرطت فيها غالبية شرائح المجتمع.

ولا يُقصد بالحديث هنا عن استمرار النضال اهمال الحديث عن النكسات التي تعرض لها السكان الأصليون وحركات التحرر. فقد لعب النظام العنصري دوراً كبيراً في قمع المقاومة واجهاضها من خلال ملاحقة النشطاء وهدم بيوتهم واعتقالهم، كما لعب وُكلاء الاستعمار داخل "أوطان - الحكم الذاتي" دوراً هاماً في تكريس الهزيمة والاذلال في نفوس السُّكان الأصليين. وترتب على حركات التحرر أن تبذل جهداً مضاعفاً لاكتساب شرعية السكان وبناء حاضنة شعبية قادرة على تبني برنامج تحرري منظم وقابل للمراكمة.

وقد مرّ نضال السكان الأصليين في جنوب أفريقيا بمراحل ونقاط تحول عديدة أبرزها عام 1960 عندما احتج السُّكان الأصليين على نظام التصاريح الذي تفرضه الدولة عليهم ويُقيد حرية تحركهم ويتدخل في شتى مناحي حياتهم. قابلت الدولة هذه الاحتجاجات السلمية باستخدام مفرط للعنف منهية الاحتجاج بارتكاب مجزرة شاربيڤل. بناءً على ذلك، قرر قادة المؤتمر الوطني الافريقي والمؤتمر الأفريقي، استخدام تكتيكات جديدة في نضالهم ضد النظام العنصري من ضمنها الكفاح المسلح من أجل نيل مطالبهم.

جاء هذا القرار بسبب إدراك قيادات الأحزاب الرئيسية (المؤتمر الوطني الافريقي والمؤتمر الأفريقي) بأن النهج السلمي وحده، لن يؤدي الى نتيجة مجدية، وأن هنالك حاجة الى خلق حقائق على أرض الواقع يصعب تغييرها. كما أن الاستخدام المفرط للقوة من قبل الدولة وقتل وجرح واعتقال آلاف المتظاهرين من شأنه وأد المقاومة ومنع بروزها، مما يستدعي البحث عن وسائل أخرى في سبيل التحرر وتحقيق العدالة.

إن المتتبع لنضال السكان الأصليين في جنوب أفريقيا يجد بأنه ولغاية الستينيات، لم تمتلك حركات التحرر الخبرة الكافية لبناء برنامج تحرري. لقد اعتمدت بشكل أساسي على المقاومة السلمية مُهملة الجوانب الأخرى والضرورية لبناء برنامج متكامل، كما أن الخلافات بين حركات التحرر قد شتتت الرأي العام الافريقي. وقد كان لقرارات النظام العنصري في استصدار قوانين وتصعيد الاجراءات والسياسات العقابية تجاه الناشطين دوراً كبيراً في قمع المقاومة. ضمن هذا السياق،  عملت السلطات على اعتقال معظم الثوار البارزين وهدمت بيوتهم ولاحقتهم خارج جنوب افريقيا،. كما واستمرت باستصدار القوانين والسياسات العنصرية، التي منحت الشرطة قرار احتجاز الأشخاص دون محاكمة، مما ساهم في تكريس حالة الخذلان وقمع محاولات التحرر. 

بالرغم من ذلك، استمرت المقاومة لغاية منتصف السبعينيات لكن بوتيرة منخفضة حاولت خلالها القيادة في الخارج بناء علاقات جيدة مع الدول الاشتراكية الصديقة بهدف تدريب كوادرها في هذه الدول، وتمكينهم من التسلل الى جنوب افريقيا لتنفيذ عمليات ضد الحكومة. وقد تبع ذلك اندلاع إضرابات عمالية طالب فيها العمال بتحسين بيئة عملهم ومنع الاضطهاد في مكان العمل، بالإضافة الى حقوق أخرى.

انطلقت شرارة التحول الثانية في مسيرة نضال السكان الأصليين في جنوب أفريقيا عام 1976، حين نظم مجموعة من الطلاب سلسلة احتجاجات رداً على قيام الدولة بفرض اللغة الافريكانية في التعليم[3]. وقد تطورت هذه الاحتجاجات وتصاعدت وصولاً للإضرابات العامة وحالة العصيان المدني التي تمثلت في مهاجمة مراكز الشرطة و الذين ينصاعون لقرارات الحكومة، فيما قابلت الدولة هذه الاحتجاجات بالقمع المفرط ما أدى الى تشكيل تمرد وطني واسع ضدها.

وقد جاء هذا التمرد في بداية الثمانينيات ضمن برنامج تحرري أكثر وضوحاً من ذلك في الستينات. تزامن التمرد الوطني مع العمل الثوري المكثف الذي قادته حركات المقاومة ضد الدولة العنصرية، وشهدت زيادة في استخدام الكفاح المسلح واستهداف المقرات العسكرية والمباني السيادية، وبالتوازي مع العمل السياسي مما ساهم في تحشيد الرأي الأسود العام خلفها.

تصاعدت قوة المقاومة المنظمة واتسعت مما مكنها من تدابير من شأنها فرض الحصار الداخلي على حكومة الفصل العنصري.  بعد تشكل الوعي الضروري، دعا المؤتمر الوطني الافريقي الى التمرد على حكومات الحكم الذاتي في "الأوطان/المعازل" وتدمير السلطات المحلية، والمباني الحكومية، ومقاطعة المستشارين والمتعاونين من السكان الأصليين، ومقاطعة نظام الفصل العنصري داخلياً. أدّى ذلك الى فرض حصار داخلي على الحزب الحاكم ووكلاء الاستعمار من السكان الأصليين. في ذات الوقت، أنشأ المؤتمر الوطني هياكل ديمقراطية ولجان مجتمعية ومحاكم وقوات شرطة قادرة على إدارة مجتمعاتهم، عوضاً عن حكومات الحكم الذاتي العميلة.
 

جنوب أفريقيا: التحوّل إلى الديموقراطية

أدت سياسات الإصلاح في الاتحاد السوفييتي إلى الاخلال بتوازن القوى في النظام الدولي وغياب الثنائية القطبية، وهيمنة الولايات المتحدة على السياسة العالمية. دفع ذلك الولايات المتحدة الى محاولة تكريس هذه الهيمنة وتعزيز تحالفاتها عبر السعي لإطفاء بؤر التوتر والتوصل الى حلول سلمية في العديد من المناطق المتوترة، والتي شكلت حاضنة للحركات المناهضة للسياسة الأمريكية في ظل الحرب الباردة مثل الصراع العربي – الإسرائيلي، حيث أطلقت مؤتمر مدريد للسلام كما دعمت انهاء الحكم العنصري في جنوب أفريقيا.


وقد جاءت التغيرات الدولية مثل فرض العقوبات على الحكومة العنصرية وانضمام الولايات المتحدة والدول الغربية اليها، بالتزامن مع اشتداد الثورة وتصاعدها خلال الثمانينيات. أدركت حكومة الفصل العنصري آنذاك ضرورة الاستجابة لمطالب حركات التحرر وانهاء حالة العنف المستمرة في البلاد. وفي هذا الإطار، بدأت حكومة الأبارتهايد بتحرير الأسرى السياسيين مثل نيلسون مانديلا، والعمل على الغاء قوانين الفصل العنصري، وتحديداً القوانين التي تحظر السُّكان الأصليين من امتلاك الأراضي، أو التي جردتهم من ملكياتهم خلال فترة الأبارتهايد.

ويُعتبر الغاء قوانين الأراضي المُشرعة على أساس العرق، وتحديداً قانون عام 1913 والمعدل عام 1936، أحد أهم بدايات تفكيك منظومة الاستعمار والفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والاعتراف بحقوق الأغلبية السوداء في الأرض والظلم الذي تعرضوا له تاريخياً. منح هذا الإلغاء اعترافاً بأحقية السُّكان الأصليين في الأرض وبأنها جُردت منهم بشكل غير قانوني، ما يستدعي تشريع قوانين جديدة وصياغة دستور جديد يضمن إعادة الأراضي والممتلكات لأصحابها بناءً على مبادئ العدالة.

في العام 1993، وافق الحزب الوطني والمؤتمر الوطني الافريقي بقيادة نيلسون مانديلا على الدستور المؤقت الجديد، حيث كانت هذه المرة الأولى في تاريخ جنوب أفريقيا التي يُعامل فيها الدستور كافة الاعراق على قدم المساواة. وقد تم في العام التالي تنظيم أول انتخابات ديمقراطية في جنوب أفريقيا يشارك فيها كافة الأعراق، مما مكن الحكومة الديمقراطية المنتخبة من وضع برامج تهدف الى استرداد الأراضي، وإعادة توزيعها بما يُلغي ركائز النظام السابق، ويحقق العدالة لأصحاب الحقوق.

استرداد الأراضي وإعادة توزيعها
"الأرض؛ هدفنا هو الأرض، وهذا ما يجب علينا تحقيقه. الأرض هي حياتنا كلها، نحرثها لنوفر الغذاء، نبني منازلنا من ترابها، نعيش عليها، وندفن فيها. عندما جردتنا الأقلية البيضاء "المستعمرون" من أرضنا، فقدنا كرامة حياتنا."[4]
استند نضال السكان الأصليين في جنوب أفريقيا إلى هدف استعادة الأراضي التي جردها منهم النظام العنصري والحزب الوطني، وقد قدم دستور جنوب أفريقيا هذا الحق على أنه ضرورة لجبر الظلم التاريخي الذي تسببت به القوانين والممارسات العنصرية. كما تضمن الدستور نصوصا وآليات لتحقيق المصالحة، ولضمان قدرة الدولة على الاستمرار في بناء مؤسساتها واحداث التنمية، وتوزيع الأراضي بطريقة أكثر عدالة بين الأعراق الموجودة في جنوب أفريقيا.

وقد تعامل الدستور مع حق استعادة الاراضي على أنه حق فردي وجماعي، يضمن حقوق الأفراد والمجتمعات التي تم تهجيرها وتجريدها من ملكيتها في أرضها بعد العام 1913، باسترداد أراضيهم واستعادة ممتلكاتهم او التعويض العادل، سواء كان ذلك بشكل فردي أو جماعي. وعليه، أُنشئت هيئة استرداد الأراضي ومحكمة استرداد الأراضي بهدف تسهيل هذه العملية وضمان عدالتها ومصداقيتها. وقد باشرت الهيئة عملها في استقبال طلبات استرداد الأراضي، والبحث بمشاركة أصحابها عن حلول دائمة وعادلة.

إن ما يُثير الاهتمام بخصوص تجربة أفريقيا ليس فقط عملية التحول من نظام فصل عُنصري إلى نظام ديمقراطي وتفكيك المنظومة الاستعمارية والعنصرية، وانما اجتراح حلول ثورية وشجاعة في معالجة جرائم نظام الأبارتهايد وتداعياته، حيث ارتكزت هذه الحلول على أساس تطبيق مبادئ العدالة التي تعالج جذور الصراع رغم حساسيتها من جهة، وتضمن عدم تكرار هذه الجرائم من جهة أخرى.

وعلى صعيد تفاصيل عملية استرداد الأراضي والممتلكات، لم يكن جوهر هذه العملية مُصمما على أساس استرداد الأصل المفقود كما كان، فالعودة العملية الى الأراضي والممتلكات جاءت كخطوة الى المستقبل وليس عودة الى الوراء. ففي بعض الأحيان، كان من السهل استرداد الأرض/ الملكية أو جزءاً منها، إلا أنه وفي أحيانٍ أخرى كان من المستحيل استرداد الملكية لأسباب موضوعية كاستخدام الأرض/ الملكية لمصلحة عامة،[5] أو وجود سُكان حاليين يستخدمون هذه المنشأة، الأمر الذي استدعى حلولاً إبداعية لتجاوز هذه الصعوبات مثل التعويض بمقابل مادي، أو بأرض بديلة، أو منح صاحب الحق الأولوية في المشاريع التنموية واستصلاح الأراضي، أو خليط من السابق.

بجانب ذلك، لم يقتصر برنامج استرداد الأراضي وتعويض أصحابها على الذين انتهكت حقوقهم أو تم تجريدهم من ملكياتهم فقط، وانما عمل على اعادة توزيع الأراضي من أجل ضمان توزيع أكثر عدالة بين الأعراق، وتمكين الفقراء والمعدمين ومنحهم الحق في امتلاك أراضي من خلال برنامج اعادة توزيع الأراضي بما يضمن مكافحة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية والاستقرار.

وفي إطار التحول الى نظام ديمقراطي وتطبيق مبادئ العدالة، لم يُجرد النظام الديمقراطي السكان من أحفاد المستعمرين من حقوقهم، والذين اكتسبوا الجنسية مع مرور الوقت، واعترف بحقهم في التعويض عن الخسارة التي قد تلحق بهم نتيجة استرداد السكان الأصليين لأراضيهم وممتلكاتهم. في هذه الحالة، تُعتبر الدولة هي الضامن لهذه الحقوق ومسؤولة عن تطبيق مبادئ العدالة على الجميع مع ادراك أن التحول الى نظام ديمقراطي يجب ألا تؤدي الى انتهاكات أخرى بحق المجموعات العرقية المختلفة.

إن عملية استرداد الأراضي وتخمين الخسائر التي لحقت بالأفراد والجماعات بسبب حرمانهم من أراضيهم وممتلكاتهم معقدة جداً وتحديداً في حالات اللجوء والحرمان طويلة الأمد، كما وتتطلب هذه العملية وعياً جماهيرياً لتقبل الوقائع الجديدة على أسس العدالة الانتقالية. فبالرغم من الدور الهام الذي لعبه الدستور الجديد وبرامج استرداد واستصلاح الأراضي في توزيع ملكية الأراضي بين أصحاب الحقوق، الا أنه وفي أغلب الأحيان لم تلاق انجازات هذه العملية طموحات وتوقعات أصحاب الحقوق، وعادة ما تكون إنجازات هذه البرامج متواضعة إذا ما قورنت بالتوقعات الشعبية لها.

الأهم من ذلك وما يجب التركيز عليه هنا هو معالجة جذور الصراع معالجة سياسية وقانونية وعملية، خرجت من اطار الحلول التقليدية واجترحت حلولاً تتناسب والوضع القائم في جنوب أفريقيا. فتحقيق السلام الدائم والمصالحة، يتطلب معالجة جذور الصراع واسترداد حقوق السكان الأصليين دون تجريد المجموعات الأخرى من حقوقها، أو التسبب في انتهاكات أخرى.

في النهاية، إن البحث عن الحلول الدائمة هو ما يحقق الاستقرار والسلام الدائمين. فالاعتراف بالظلم، واستعادة الملكية أو غيرها من أشكال التعويض وجبر الضرر هو ما يبدد الاهانة التي تعرض لها السكان الأصليون ويعيد لهم كرامتهم وبالتالي يضمن تحقيق السلام الدائم والمصالحة. ومن الضروري هنا ادراك أن السلام العادل لن يتحقق دون معالجة جذور الصراع والتعهد بعدم تكرارها.

الخلاصة

تهدف الحلول الدائمة لقضية اللاجئين والمهجرين إلى وضع حد لمعاناتهم وانهاء حالة اللجوء المستمرة وتطبيق مبادئ العدالة بما يضمن استرداد كرامة أصحاب الحقوق وحوقهم. ولا تُعتبر العودة والتعويض هي الحل الوحيد لقضية اللجوء، حيث تُظهر التجارب الدولية حلولاً أخرى تتمثل في الدمج في بلد اللجوء، أو إعادة التوطين في دولة ثالثة راغبة في قبولهم. ومن أجل ضمان استمرارية وعدالة الحل النهائي، فإنه من الواجب أن يكون مبنيا على مبدأ الطوعية وحرية الاختيار، كما أنه لا يجوز في أي حالة فرض حلول على اللاجئين دون تمثيلهم ومشاركتهم في هذا الحل.

وفي تجربة جنوب أفريقيا، هنالك العديد من الدروس والخبرات التي من الممكن التعلم منها كيفية التعامل مع قضايا اللاجئين والمهجرين بطرق ثورية وعملية، أبرزها:
أولاً: ان الأساس في البحث عن الحلول الدائمة لقضايا اللاجئين والمهجرين يكمن في معالجة جذور الصراع، وتفكيك المنظومة الاستعمارية والعنصرية، بما يضمن استعادة كرامة أصحاب الحقوق. ولا يُمكن تحقيق هذه الغاية بناءً على نهج مبني على علاقات القوى وتوازنها، لأنها غالباً ما تكون ادارة للصراع وليس حلاً له. اتباع هكذا منهج يؤدي الى تكرار الانتهاكات وعدم استدامة حالة السلام. في المقابل، يعالج الحل المبني على منهج الحقوق جذور الصراع، بما يضمن تفكيك المنظومة العنصرية وديمومة واستمرار السلام العادل.
ثانياً: ان الانتقال من نظام الفصل العنصري إلى نظام ديمقراطي لم يكن عملية سهلة، كما لم يكن هبة من النظام الحاكم أو المجتمع الدولي، وانما من خلال برنامج تحرري مُنظم وقابل للمراكمة، فرضت خلاله حركات التحرر وقائع على الأرض أجبرت النظام العنصري التجاوب مع مطالب حركات التحرر. وبالتالي، فإن "الاعتماد على الذات" هو ما يُشكل جوهر الواقعية، وليس القبول بالأمر الواقع والاستسلام له.
في النهاية، تعتبر العودة الطوعية واستعادة الممتلكات أحد الحلول الدائمة لقضية اللجوء، إلا أنه وعند تنفيذ هذا الحل تبرز بعض الأمور التفصيلية التي تحول دون تحقيق هذا الحق بشكل كامل، الامر الذي يستدعي حلولاً إبداعية لتجاوز هذه الأزمات وتثبيت السلام العادل الذي يضمن الحقوق. كما أن التعامل مع قضية العودة يجب أن يكون مبنياً على أنها خطوة للأمام والمستقبل وليس استرداداً للحال الذي كان قائماً في الماضي.

------------
*أحمد همّاش: منسق وحدة التفعيل المجتمعي لمركز بديل.
 

[1] بديل/ المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، "لنتحد في مواجهة الأبارتهايد الاسرائيلي" (مطوية، مركز بديل، 2016)
[2] تجمعات صممها المستعمرون للسكان الأصليين وتُعرف أيضاً بأوطان الحكم الذاتي.
[3] لغة المستعمرين الهولنديين
[4] Michael De Klerk, “For Whites only: Ownership in South Africa,” in A Harvest of Discontent; The Land Question in South Africa, (Cape Town: Idasa, 1991), 50.
[5] المصلحة العامة قد تكون بناء شارع، أو مؤسسة دولة، مشفى