اللاجئون الفلسطينيون: مائة عام على وعد بلفور المشؤوم وخمسون عاماً على الاحتلال

بقلم: د. صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية                                          
                                            
"بَحْبي على إيديّ ورجليْ حَبْي، وبروّح على فلسطين"، إجابة للاجئ فلسطيني يُدعى السيّد عبد العزيز غنيم، سأله مذيع في شهر تشرين ثاني/ نوفمبر من العام الحالي: إذا صحلّك ترجع على فلسطين.. بترجع؟
 

الحاج من منشية عكا في فلسطين، ويعيش في مخيم عين الحلوة في لبنان بعدما طُرد قسراً من أرضه، وقد تجاوز السادسة والثمانين من العمر. أجهش بالبكاء عندما سُئل هذا السؤال، فلخّصت دموعه بعد ثمانين حولاً معاناة شعب بأكمله، ورواية لا تذوب، وعبّر عن الملايين من أبناء شعبنا ممّن هجّروا قسراً من ديارهم الأصلية عام 1948، مُمسكاً بناصية قضيته الوطنية وإحدى ركائز حلها السياسي الأساسي، وهو حق العودة.

إلا أنه ومنذ ذاك التاريخ فقط، شهد الرجل على تسعة وستين عاماً من النكبات المتلاحقة، وعلى اقتلاعه وأكثر من 800.000 من أبناء شعبه بعربدة السلاح من أرضهم، وشهد كذلك على اعتراف الأمم المتحدة المشروط بقبول عضوية إسرائيل مقابل تنفيذها للقرار 194، ويشهد اليوم على عجز النظام الدولي عن الإيفاء باستحقاقاته في ايجاد حل سياسي لقضية فلسطين، ونظرته إلى السكان الأصليين وتصفيتهم بالمذابح والمجازر حتى يومنا هذا بعين عوراء.

فمنذ مائة عام على وعد بلفور المشؤوم، واستيطان أرضنا بدعم وتواطؤ من بعض الدول الاستعمارية بدأت مأساة شعبنا الذي ما زال يدفع ثمن هذا التواطؤ. وعانى الملايين من أبناء فلسطين بسبب هذا الوعد، ولحقهم أضرار وخسائر مهولة في الأرواح والممتلكات. وفي العام القادم تحل الذكرى المئوية على هذا الوعد المشؤوم، وسبعين عاماً على نكبة شعبنا وقرار التقسيم، وخمسين عاماً على احتلال أرضه.

كل هذه المناسبات الأليمة والقاسية تمرّ على هذا الشعب العظيم، من الصامدين منهم في وطنه ووطن أجداده، وممن هجُّر قسراً وتشتت في بقاع الأرض ومنافيها، وممن ذاق اللجوء والضيم المتكرر في المخيمات. وفي كل يوم تُمارس فيه عمليات التطهير العرقي، وتُهدم فيه المنازل ويُشّرد فيه المئات قسراً لصالح الاستيطان وإحلال عدد جديد من المستوطنين بدلاً منهم، وفي كل يوم تُهوّد القدس، ويُعدم فيه الفلسطينيون، وتُهجرّ فيه العائلات من مخيمات اللجوء مرة تلو الأخرى، وفي كل يوم تُقرّ فيه مشاريع القوانين العنصرية لالغاء وجوده ومحوه من سياق التاريخ.  

إن ما نصّ عليه هذا الوعد منذ مائة عام عبّرت عنه حكومات الاحتلال المتعاقبة وآخرها حكومة اليمين العنصري المتطرف بقيادة نتنياهو ووزرائه المستوطنين أفضل تعبير، وترجموه عبر عمليات اقتلاع شعبنا من أرضه وإحلال آخر، وضم المناطق تأسيساً "للدولة اليهودية" مع الانتقاص المتعمد من حق الشعب الفلسطيني، بصفتهم السكان الأصليين، في العيش بوطنهم وتقرير مصيرهم على أرضهم. وقد أوفت بريطانيا بوعدها في تسهيل إقامة وطن قومي لليهود وساهمت في نفي شعبنا وتشكيل دولة الاحتلال وتهيئة النجاحات لحروبها على شعبنا على مرأى ومسمع العالم.

وعلى الرغم من أن النظام الدولي لا زال يغض الطرف عن حل قضية ومأساة الشعب الفلسطيني السياسية والإنسانية حلاً عادلاً وشاملاً عبر قرن من الزمن، إلاّ أن تحولاً كبيراً طرأ في السنوات الماضية في مناصرة حقوق شعبنا ونضاله ضد الاحتلال، وذلك بفعل مبادرات أبناء شعبنا وأصدقائه المدنية والشعبية المتواصلة على الصعيدين المحلي والدولي، وأيضاً بفعل الجهد السياسي والدبلوماسي الرسمي الذي لم يكن وليد الصدفة، بل كان عملاً نضالياً تراكمياً حققته القيادة الفلسطينية على مدار السنوات، والذي انتقلنا خلاله إلى مرحلة جديدة في ترسيخ الحقوق، تتوجت بحصولنا على الدولة في عام 2012.

وقد عملنا بكل جد على تعزيز مكانتها باعتبارها ندّاً لنظيراتها بين الأمم، وانضممنا على إثرها للاتفاقات والمنظمات الدولية من أجل حماية شعبنا، والتأكد من انطباق الاتفاقيات على فلسطين، وخاصة اتفاقيات جنيف، وللانتصاف لحقوق ضحايانا على الظلم التاريخي الذي لحق بهم، والبحث عن العدالة الانسانية، والأهم من ذلك محاسبة ومساءلة الاحتلال على جرائمه المتواصلة وضمان عدم افلاته من العقاب.

كما وسيتلو ذلك مواصلة هذه الجهود في حشد الإرادة الدولية من أجل عزل منظومة الاحتلال والاستيطان ومقاطعته، والاستمرار في خطواتنا نحو مجلس الأمن لاستصدار قرار أممي يدين الاستيطان ويوقفه، والتأثير على الدول لنيل العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، بالتزامن مع دعمنا الكامل لجميع المبادرات الدولية التي تعمل من أجل إنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي عن أرض فلسطين، بما فيها الجهود الفرنسية التي استجابت لمطالباتنا الحثيثة بانخراط المجتمع الدولي بالعملية السياسية وانقاذها من التفرد الاسرائيلي وحلفائها بالحل السياسي.

وجاء المؤتمر الدولي للسلام باقتراح فرنسي تحملاً للمسؤوليات في إيجاد الحلول النهائية لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس، والذي حمل مضمونه الأساسي حل القضية الفلسطينية على أساس الشرعية الدولية ورعاية دولية للعملية السياسية من أجل انهاء الاحتلال بسقف زمني محدد، مستنداً إلى مرجعيات محددة وفقاً للقانون الدولي والشرعية الدولية، ومنطلقاً من قاعدة حل الدولتين، وتجسيد قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس المحتلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 ، وإيجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين حسب القرار الأممي 194، وذلك بسقوف زمنية للمفاوضات وآليات واضحة للتنفيذ والتدقيق فيما يتم الاتفاق عليه.

لم يغب حق العودة عن الاستراتيجيات والبرامج والخطط الرسمية والمدنية الفلسطينية، وهو حاضر بقوة في جميع الاتفاقات، ولم ولن يُسقط من أولويات الاجندة الفلسطينية، فهو حق سياسي وانساني لا يسقط بالتقادم. ففي كل لجوء وتشرد قسري ونكبة لحقت بشعبنا سواء في الوطن وفي قلبه القدس وقطاع غزة أو في المنافي ومخيمات اللجوء وفي القلب منها مخيم اليرموك، لم تتمكن قوة الاحتلال بجبروتها العسكري التفوق على إرادة شعبنا أو الغاء وجوده خلال القرن. وقد حافظ هو في المقابل على هويته وأصالته ودفاعه عن حقوقه غير القابلة للتصرف، ورفض الهزيمة وسعى بلا حدود إلى تغيير الواقع بكل الطرائق حتى وقتنا هذا، فعمل على مأسسة الذاكرة والتمسك بالهوية والصمود من جهة، وساهم بجدارةٍ مشهود لها في بناء دول الجوار والعالم من جهة أخرى، فلم يكن طارئاً عليها بل شكّل عنصراً أصيلاً في بناء المجتمعات وقدم المبادرات الفردية والجمعية الخلاقة، وترك بصماته الانسانية والسياسية والثقافية والأكاديمية والعلمية في كل مكان أقام فيه.

لكن العام القادم يشكل أحد أهم المنعطفات السياسية التاريخية بحمله هذه التواريخ الثقيلة على كاهل الإنسانية، فمرور قرن على وعد بلفور ونصف قرن على الاحتلال وما بينهما النكبة الكبرى هو تذكير للعالم بأن قضية فلسطين لم تُحل بسبب الخطايا التي ارتكبت ضد أبنائها ولا زالت تُرتكب، وإن منع الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره منذ ما يقارب السبعين عاماً هو فضيحة سياسية وأخلاقية لمجتمع العصر الحديث. ولذلك تعمل القيادة الفلسطينية، وهي تستنير بتضحيات شعبنا العظام، مع العالم أجمع ومع الحكومة البريطانية على وجه التحديد لتصحيح هذه الأخطاء وإعلان اعتذارها عن وعد  بلفور بدلاً من الاحتفاء به، وجبر الضرر الذي نجم عنه والانتصاف للضحايا، والاعتراف بدولة فلسطين.

ولكي لا يبقى الفلسطيني لاجئاً وشريداً في منافي الأرض دون غيره، تنطلق مسؤولية المنظومة الدولية عن وقف تعطيل الحل، وتحميل الضحية مسؤولية الاخفاق. فالمطلوب اليوم ليس إنتاج قرارات جديدة أو إصدار البيانات التضامنية اللفظية، وإنما التقاط الفرصة من أجل تصحيح الأخطاء والانتصاف للشعب الفلسطيني عمّا لحقه من ظلم تاريخي، واتخاذ خطوات عملية كفيلة بترجمة إرادتها في ردع الاحتلال وجعله يدفع ثمن احتلاله واستيطانه طيلة هذه العقود، ومحاسبته ومساءلته وايجاد آليات للتنفيذ، ولعب دور فاعل في صنع التاريخ والعدالة، وإلزامها بالاعتراف بمسؤولياتها القانونية والسياسية عن الظلم الذي أوقعته بشعب أخر، واستقاء العبر من التاريخ الذي انتصر فيه النضال الانساني العالمي والارادة بالتحرر على الاستعمار والعسكرة والقمع، فشعبنا كقرم الزيتون متجذر في أرضه ولن يسمح لأي نكبة يقترفها بحقه الاستعمار الحديث بإقتلاعه من أرضه مرة أخرى.

وهذا ما يدفعنا إلى حراك دائم مع دول العالم والاشقاء في الدول العربية والمحيط من أجل إنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي عن أرضنا، وتجسيد قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران 1967، وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين استناداً للقرار الأممي 194، ووقف النشاطات الاستيطانية غير الشرعية، والافراج عن جميع الأسرى، وتنفيذ الاتفاقات والاستحقاقات التي ترتبت على حكومة الاحتلال.

وعلى الصعيد الداخلي، لدينا واجبات نعمل على حلها من أجل مواجهة التحديات والمشاريع الاحتلالية، وعلى رأسها إنهاء الانقسام البغيض باعتباره مفتاح وجود فلسطين على الخارطة، وتشكيل وحدة حكومة وطنية والتوافق على الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وعقد المجلس الوطني الفلسطيني لتعزيز وتثبيت دور منظمة التحرير الفلسطينية. وإلاّ فأننا سنشهد مائة عام أخرى على عذابات شعبنا.

فلماذا لا يكون عام 2017 عام إنهاء الاحتلال وفقاً للقانون الدولي، وعام الاحتفال بحرية فلسطين وتجسيد سيادتها على الأرض؟ ولماذا لا يتم تنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بقضية فلسطين والقرار 194 غير المرتبط بتسوية سلمية أو قرار سياسي؟ إنه الامتحان السياسي والأخلاقي للإرادة الدولية، فأبناء وأحفاد سيّد غنيم وغيرهم الملايين من أبناء شعبنا الفلسطيني اللاجئ، ومن في الوطن يتابعون ويرقبون بعين ثاقبة أداء المجتمع الدولي وجديته في تحمل مسؤولياته السياسية والقانونية في ايجاد حل سياسي لقضيتهم وإجلاء الاحتلال، ولكنهم في نفس الوقت يتحصنون بحقوقهم المشروعة في الحرية والاستقلال والعودة ويفشلون الرهانات الخاسرة عليهم بنسيانهم وتخليهم عن وطنهم القومي فلسطين.