حق العودة والمتغيرات الاقليمية

بقلم: كمال هماش*

لا يزال الحالمون بمقولة امكانية صناعة السلام العادل والشامل بمنظور استراتيجي، يرددون بأن القضية الفلسطينية وجوهرها حق العودة تمثل المفتاح الرئيس لتحقيق هذا السلام، متجاهلين تماما الاستراتيجية الاسرائيلية القائمة على تجيير كافة معاملات الصراع في ادارة الازمة وليس حلها، وهي استراتيجية مدعمة بالتزام اميركي وغربي منذ عهد الرئيس ترومان، وحتى مرشحي رئاسة الولايات المتحدة الحاليين.
وسواء كان المبادرون لطرح حلول للصراع الاسرائيلي الفلسطيني من الغرب الحليف لإسرائيل او من الداعمين للفلسطينيين، ورغم كل ما قدمه هؤلاء في مبادراتهم من مساومات على  حق العودة بدءا من مقولة العودة الرمزية وليس انتهاء بمقولة حق العودة مقابل الدولة،الا انها جميعا باءت بالرفض الاسرائيلي.

ويتكامل البرنامج الاسرائيلي مع التفهم الاميركي لمصالحهما في اعادة القضية الفلسطينية لواقع الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ولكن في بيئة اقليمية صديقة وحليفة ومستعدة للمساهمة في تركيع الفلسطيني، حيث تقترب نتائج ما سمي بالربيع العربي من تحقيق هذه البيئة، وبالتالي دخول الفلسطينيين الى عصور من التيه.

فالصراعات القائمة داخل الدول العربية المركزية، والتي اعادت هذه الدول عشرات السنين الى الوراء، مستمرة تحت رعاية الغرب تسليحا وتمويلا، الى جانب توظيف المؤسسات الدولية التي تهيمن عليها اميركا لقيادة الحلول السياسية في هذه الدول وتأمين انتقالها الى نظام سياسي جديد.

ولعل التجربة العراقية التي اعقبت حرب 2003، وصياغة نظام سياسي موال للولايات المتحدة وبعيدا عن القضية الفلسطينية بقدر اقتراب النظام العراقي البعثي وتبنيه لفلسطين، يؤشر الى الانتقال بدول مثل سوريا وليبيا واليمن الى محطات مماثلة من الضعف وعدم الاكتراث للقضايا العربية المركزية واهمها قضية الشعب الفلسطيني.

ولا شك بان المتغير الإقليمي التابع للمتغيرات الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتراجع حركة التحرر الوطني والاجتماعي على مستوى العالم، انتج مفاهيماً جديدة وخطابا مختلفا لدى الاطراف الخاسرة والرابحة من انتهاء الحرب الباردة تجاء مجمل القضية الفلسطينية، ومشكلة اللاجئين في ظل طوفان اللاجئين العرب من سوريا والعراق وشمال افريقيا.

الا ان الطرف الوحيد الذي لم يتعاطَ مع تغير الخطاب والسياسات فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية هو الطرف الفلسطيني نفسه، فمع كل ما يحدث في سوريا واليمن وليبيا والعراق، والرؤية الواضحة لنتائجه في إضعاف الجبهة العربية المقاومة للاحتلال، تراجع خطاب مقاومة حماس الى مطالب فك الحصار وتقاسم مغانم السلطة والطموح بمقاطعة تابعة لتركيا او قطر جوهريا، كما تراجع خطاب فتح لينتهي الى المطالبة بتحرير مناطق -أ-.

وحقيقة الامر ان هنالك طرفين فلسطينيين متناقضان في قراءة خارطة المتغيرات، وان كان هناك تقاطعا تكتيكيا ومؤقتا بينهما، فحركة فتح التي تقود المنظمة والسلطة الفلسطينية، وترى في نفسها حارس الأهداف الوطنية، اتخذت نهج التفاوض الذي لم يسفر عن شيء سوى تسخيف القضية الوطنية والانشغال بالتفاوض على فتح معبر او إدخال سلعة، او ترخيص محطة غاز في مناطق –ج-.

وبينما تراوح حركة حماس بين ارتباطها العضوي بالإخوان ومشروعهم الغزاوي بعد سقوط نظام الاخوان في مصر، وتصنيف اخواتها في الشام واليمن وليبيا وحتى الاردن كجماعات إرهابية، وبعد ان وظفت اميركا عصارة هذه الجماعات في تدمير الدولة الوطنية ونسيجها المجتمعي.

وفي ظل هذا الضعف تخرج الى النور دراسات اهمها ما صدر عن مؤسسة Christian Aid والتي تستنتج ضرورة الاسراع في فرض حلول للقضية الفلسطينية، قبل ان تعود وتستقر الاوضاع في المنطقة، اذ ان بروز انظمة جديدة حليفة للغرب وصديقة لإسرائيل لن يكون كافيا للتوصل الى حل، خاصة وان ضعف هذه الانظمة سيولد قوى جديدة بالضرورة، قد تكون اكثر تشددا وقوة في الدفاع عن الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني.

ومن هنا نتلمس محاولات اعادة قضية اللاجئين الفلسطينيين الى الاطار الانساني في استبعاد تام لإطارها السياسي المتمثل في حق العودة وفق القرار 194، والذي لا يضمن بذاته الحقوق الاصلية لهؤلاء اللاجئين، علما بان كافة المبادرات التاريخية ومنذ العام 1950، تعاملت مع هذا القرار باعتباره رمزيا فحسب.

كما تدعو الدراسة المقدمة للحكومة البريطانية الى التعاطي مع حل مشكلة اللاجئين من خلال ثلاثية (لم الشمل، والتعويض، والتوطين) بدلا من ربطه بالعودة المادية الى بلادهم التي هجروا منها، خاصة وانه وبعد عشرين عاما من اتفاق اوسلو لا يزال الجانب الفلسطيني يتعاطى مع مسألة عودة الفلسطيني لوطنه بمنظور لم الشمل، ليس بين خارج فلسطين وداخلها فحسب؛ بل وحتى بين الضفة وغزة، وبين القدس وكلاهما، وجعل منها قضية تفاوضية اساسية كمفهوم.

ومع النجاح النسبي لتعاطي القوى العظمى مع اللاجئين بمنطق الإغاثة لأساسيات بقاء الحياة، يكتمل البناء الهندسي بالتعاطي مع السلطة الفلسطينية كمتلقٍ للإغاثة، مقابل التنازل عن ثقافة اصول الصراع، واستبدالها بالقبول بواقع تحول القضية الى شأن اسرائيلي داخلي، مهما ادعى السياسي الفلسطيني من شعارات، ومن البديهي ان السياسي الذي سيقلق لعدم توفر الماء لكأس النسكافيه صباحا لن يجد منطقا في اغضاب الاسرائيلي بالحديث عن حق العودة.

وخلاصة القول، ان الجهد المطلوب لتكريس حق العودة لا يخضع لسياسة فن الممكن، بقدر ما يحتاج الى اجيال قادرة على تحقيق المستحيل.
 
----------------------------------------------
*كمال هماش:  مستشار وزير العمل لشؤون التشغيل