مانديلا في فلسطين… فلتحكم الحرية

 بقلم: عيسى قراقع*
 
 
يوم 26 نيسان 2016 دشن الرئيس محمود عباس ابو مازن ميدان المناضل الاممي الرئيس الاسبق لجنوب افريقيا نيلسون مانديلا في حي الطيرة بمدينة رام الله، حيث أُزيح الستار عن نصب المناضل العالمي مانديلا وسط احتفال تاريخي شعبي ورسمي، وعلى وقع الاناشيد الوطنية وموسيقى الحرية التي هبت في المكان.
 
يقف نصب الزعيم المناضل من اجل الحرية والكرامة نيلسون مانديلا شامخا عاليا، يرفع قبضته في الفضاء، مبتسما لفلسطين وللشعب الفلسطيني، قادما بعد عمر طويل من الكفاح الثوري ضد الظلم والاستعمار والفصل العنصري، ليوجه تحية الحرية الى شعب يتعطش للحرية، قائلا بوضوح ان حرية جنوب افريقيا ستبقى منقوصة ما لم تحصل فلسطين على حريتها، فقد كنا نقاتل سويا، نموت سويا، من اجل حرية الانسان وانعتاقه من براثن الظلم والاحتلال. 

في ظل احتفالات الشعب الفلسطيني بيوم الاسير، وفي ذكرى الحرية لدولة جنوب أفريقيا، وفي ذكرى النكبة الفلسطينية، وفي سبت النور عندما قام المسيح من الموت حاملاً عبء الارض مغموراً بالضياء والملائكة، يخرج مانديلا بعد 27 عاما من السجن ليصل الى ارض فلسطين لتكتمل حريته، وليشاركنا في هدم جدار الفصل العنصري، وفي مقاومة الاستيطان غير الشرعي، وفي ايقاظ الارض في ربيعها، معلنا ان القيود لازالت في يديه، وان الزنزانة لا زالت مغلقة حول عينيه، مادام الشعب الفلسطيني تحت قيد الاحتلال يتعرض للقمع والقتل، وتسلب منه كرامته وحقوقه الشرعية.
 
هذا النصب الشامخ ليس تمثالاً؛ انه نداء العدالة... نصغي اليه فنجده يمشي ويتحرك ويعلو ويتكلم، ونسمعه يحفر جسده بالازميل والحجر، ونسمعه يقول للعالم: اذا لم تتحركوا لنصرة الشعب الفلسطيني وخلاصه من الاحتلال، فإنكم لن تشعروا بالقيود التي في أقدامكم، فالاحتلال يحتل العالم وثقافته ومبادئه وقراراته ويهدد العدالة الانسانية .. تحركوا ... تحركوا...
 
مانديلا يرفع قبضته تحية ووفاء لآلاف الاسرى القابعين في سجون الاحتلال، ينحني لمن يقضون اكثر مما قضى في السجون، لنائل البرغوثي وكريم ويونس وماهر يونس، للاسرى والاسيرات الصامدين في غياهب الظلام، يطلق وميض الضوء، يدق الابواب والحيطان ، يفتح نوافذ الامل، حاملا ذخيرة الارادة حتى اصبحت سماء فلسطين جسدا من الغيم الكوني.
 
في رام الله الواقعة على سلسلة جبال القدس، المطلة على الساحل الفلسطيني للبحر المتوسط، وامام خمسة اسود تحمل اسماء كنعانية تربض في وسط المدينة ، عاد نيلسون مانديلا من السجن، احتجز الاسرائيليون نصبه مدة شهر في أقبية التحقيق، عذبوه وفتشوه وشبحوه، قلقين من عودته، ومن قدرته على تخطي الحدود والمحيطات، فوجدوا ان قلبه ينبض بفلسطين، وفي قبضته حجر، وفي جيده صليب وهلال ومفتاح بيت قديم، وفي حنجرته صوت محمود دويش وهو يسعى للحياة ما استطاع الى ذلك سبيلا.
 
مانديلا يصافح الشعب الفلسطيني واحدا واحدا، ويلتقي عائلات الشهداء والاسرى، على كتفه كوفية اهداها له الرئيس الشهيد ياسر عرفات، ويتجه صوب القدس، وبيت لحم، يمر عن مئات الحواجز والمستوطنات ، يرى اشجارا من الزيتون تتصبب زيتا وخوفا، يرى ارضا تتشقق عطشا احمر تلتحف بالزهر والشهداء والصلاة.
 
مانديلا يخرج من سجن روبن ايلند في جنوب افريقيا ليصل الى سجن هداريم، يلتقي مروان البرغوثي واحمد سعدات، ويصل الى لينا جربوني في سجن البنات، يهدي وردة للطفل الاسير احمد مناصرة، يوزع نبوءاته الثورية على الاسرى والمعذبين، يزيل الاقنعة عن دولة اسرائيل العنصرية، دولة الابرتهايد الجديدة في القرن المعاصر، يحرق الاقنعة، ويكتب معنا هذا الفجر الآخر.
 
مانديلا يلقي خطابه التاريخي في رام الله، ويؤكد انه خلال رحلته الطويلة رأى دولة اسرائيل تضع خوذة حديد على رأس الهواء، ورآها تعدم الاطفال والنساء على حواجز قلنديا وعتصيون وحوارة، ورآها دولة تصعد نحو الفاشية، يهيمن عليها الخطاب العنيف التحريضي والعنصري، مصابة بالهلع والهوس، محاطة بالاسلاك الشائكة وبآلاف المعسكرات المدججة بالسلاح، دولة ضد الحياة والسلام، ذات عينين من رماد.
 
يقول لا مؤبد مع الاحتلال، فالمعاناة لها معنى، والتضحية تواصل عزف انغامها في جسد الوقت، نحمل ماء الحياة من جنوب افريقيا الحرّة الابية الى ارض فلسطين لكي تتدفق في كل انهار العالم، على الطيور ووجوه الاطفال، على الجبال والشجر والبيوت، ها هي تنحني تقبل خدّ هذي الارض، أرض فلسطين.
 
مانديلا يقول: ان كل الثورات تمخضت هنا، وليس فقط كي تلد سوى المقابر، بل كلما اغتسلت بالدم ازدادت اشراقا وقربا من الحرية.
 
 
مانديلا سيظل واقفاً، يعيش مع عائلته الفلسطينية، عائلة من الدمع والامل، يتكيء على قاعدة تمور تحتها مئات القرى التي جرفت وطمست عام النكبة، واقفاً في فضاء يسيل على جسد الارض.
 
مانديلا يرى شعباً يملأ جراره بدمع الشجر، يتآخى مع الموت والحياة، ينبعث ويردد اسماء مواليده على بوابات المقابر، وطيور تتجمع لاحتضان المسافات، نساء يجلسن حارسات على ابواب السماء.
 
مانديلا يرى جثث الاطفال والنساء تختزنها الايام زيتاً لقناديلها، ما اضيق رام الله، طيور مقصوصة الاجنحة، تتدلى نازفات من اناشيدها المذبوحات، مخيمات تنقش ابجديتها على الطرق وامام العتبات، ذاكرة تحرك مفتاحا في ذاكرة الاجيال، وهنا فقط يحمل الفجر اثقاله ويطوف في تجاعيد الوقت.
 
مانديلا على ارض النكبات، ولم تبق اسماء الا وتقيأت اسماءها، الاسماء تدور حول جرحها وينابيعها، هنا  الطابو والكوشان والجرن والتينة وعضلات الارض، محراث يوصل سكته بآذان النجوم، ولا زال التنور مشتعلاً هنا وهناك.
 
مانديلا على ارض النكبات، يكبر الضائع فيه، يشم رائحة المدن والقرى المدفونة البعيدة، رائحة البحر والشمس والليمون، رائحة الخبز الطازج والحنين، رائحة متقطعة الانفاس تقود الناس في فلسطين الى الامتلاء بالانتفاضات والغيوم وغضب اللاجئين.
 
مانديلا يصرخ: الحرية لا تعطى على جرعات، فالمرء اما ان يكون حراً او لا يكون حراً … فلتحكم الحرية… فلتحكم الحرية.


-------------
عيسى قراقع: رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين، عضو الجمعية العمومية لمركز بديل.