إسماعيـــل شمّــوط شكـّـل قســوة الحيــاة بفنيــة متأججــة المشـــاعر

بقلم:سعيــد مضيــة

بكثير من الحفاوة استقبل الجمهور الفلسطيني بروز أول فنان تشكيلي يرسم مأساته. كان الاسمان اسماعيل شموط وتمام الأكحل يتوزعان على صفحات الجرائد، قبل أن يكوّنا أسرة واحدة. والفن ظاهرة حضارية، والمعارض، التي لم يتح للأغلبية الساحقة من الفلسطينيين فرص الاطلاع عليها، غدت موضع اعتزاز الكثيرين. فقد أقام شمّوط أول معارضه في غزة، حيث لجأ إثر عملية التهجير القسري التي مارستها قوات المنظمات العسكرية الصهيونية.

لم تكن في عقد الخمسينات محطات تلفزة تنقل الصورة. عرفت المنطقة الإرسال التلفزيوني في أواخر عقد الخمسينات، وآنذاك لم يتعد البث بضعة كيلومترات. ومع هذا كان فن إسماعيل شمّوط وتمام الأكحل حديث التجمعات الثقافية، يلهم المثقفين والفنانين الفلسطينيين والعرب فضيلة الالتصاق بالقضايا الوطنية ورفض الظلم.

"الحياة قاسية مع الظلم والجهل والفقر"، تلك مقولة الفنان الصاعد التي ألهمت عمله الإبداعي طوال أكثر من نصف قرن. تناغمت الواقعية والفنية في أعماله بموازين الفنان وتقديراته العفوية، لكنها محكومة برؤيته الاجتماعية وموقفه من القضية الوطنية وخبرته الفنية.  أثرت النكبة الفلسطينية في الوجدان الجمعي فجعلت القضية مركز الاهتمام ومحور الجهد الإبداعي للمثقفين الملتزمين. شاهد وعاش النكبة وسجل شهاداته ضد الظلم في رومانسية حارقة ميزت المبدعين الفلسطينيين. "خَلَقَتْ مواضيعُ لوحاتي أسلوبَها، وكان الهمُّ الأساسي في بداية الخمسينيات هو كيف يمكن أن أعبر عن ذلك الزخم المتأجج والمخزون في أعماقي بالريشة واللون".

ابتدع الفنان خطوطه الخاصة التي ميزته. جسّد  المعاناة في لوحاته الأولى، وكانت مرحلة الحيرة الممضة للعقل والوجدان. في لوحته "إلى أين" يمضي العجوز والطفلان ولا تجد الشباب. الطفل يغفو على كتف العجوز، ولعله الجد، بينما تمسك يد العجوز بيد الطفلة الحائرة تتفرس وجها لا يوحي بغير الألم والحيرة. تواضُعُ المبدع والتصاقه بالقضية أوصله إلى معايشة الجموع الكادحة فرسم معاناتها: فلاحون يجدّون الزيتون، فلاحة تبيع محصول الفاكهة بالسوق، فلاح يحرث حابولاً ضيقا انتزعه من بين الصخور وخلفه يمتد حقل واسع محروث بالجرار. تعرف شموط على مشكلات الناس وأشاعها في لوحاته فنا واقعيا لم يتبذل لمستوى عمل الإعلانات والدعاية. جسد في لوحاته وجه الطفل ووجه المراة ووجه الأرض ووجه الأيام، كما جسد الغضب والألم والأمل ووجه المقاتل. كانت الانفعالات تضطرم في النفوس ترتسم على الوجوه. هكذا برز فن البورتريه في لوحات شموط. واكب الفنان مسيرة النضال الفلسطيني من تحفز الخروج من الحيرة فالمقاومة، حيث رسم لوحات مثل "عروسان على الحدود" بألوان متألقة. تناغم اللون والخط في وحدة جدلية مميزة لفنان وضع بصمته المتميزة على لوحاته. يقول شمّوط في حديث صحفي: "أبدأ برسم الخطوط؛ فتتحرك يدي وفق المشاعر المتأججة؛ فتولد أشكالا، والأشكال تولد الموضوع، وتستمر عملية التوالد في مرحلة الرسم وفي مرحلة التلوين إلى أن تكتمل اللوحة". ويمضي إلى القول،" لا أعتمد على تقنية واحدة في الرسم بالزيت، والتقنية بالنسبة لي ليست عملية عقلانية، بل هي خاضعة لما يفرضه الموضوع الذي يولد مع الحدث وفي أثناء العملية الفنية".

عاد في أواسط الثمانينات يصوّر عنف الاجتياح الإسرائيلي وحرب المخيمات الفلسطينية بألوان داكنة تعكس الحزن، كما تجلى في لوحته "تل الزعتر". جسد في أعماله ، وهو يصعد مع نهوض شعبه اويهبط الشعاب والوديان، المثال للفنان المثابر المناضل الذي أسكن وطنه في دماغه، وطوف به في العالم الرحب. وحلم بالانتفاضة والحجر عام 1984. ويقول في الحديث صحفي، "والإنسان متغلغل فيّ بحكم العذاب الذي حل بالإنسان العربي الفلسطيني، والذي شهدته في حياتي وبأم عيني.. ولا أستطيع تصور عمل فني لي بدون أن يكون الإنسان محوره الأساسي".

___________________

سعيد مضية هو كاتب  فلسطيني  يقيم في مدينة الخليل  

©2003-2007
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة لمركز بديل