القرار (194)، الحقوق الجماعية والمستقبل: نظرة موجزة على الماضي

بقلم: تيري ريمبل*
 
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار (194) بتاريخ 11 كانون الأول/ديسمبر 1948، وذلك بعد يوم واحد من مصادقتها على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد جرت صياغة القرار على مدى عدة شهور استهلت بسلسلة من المراسلات التي دارت بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة. ولم تبدأ المناقشات الجدية التي تناولت الأحكام التي يشملها هذا القرار بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلا في منتصف شهر تشرين الثاني/نوفمبر، أي بعد شهر من انهيار الهدنة الثانية وتواصل عمليات التهجير التي تلتها. وفي غضون ثلاثة أسابيع، أتمت اللجنة الأولى التابعة للجمعية العامة جلسات الاستماع المخصصة لهذا القرار. وصادقت الجمعية على النص النهائي للقرار (194) عقب المداولات المقتضبة التي تناولته في جلسة عامة عقدتها لهذه الغاية.
وما تزال الجمعية العامة للأمم المتحدة تعيد التأكيد على القرار (194) منذ صدوره. وفي هذا السياق، رُفضت المساعي التي بذلتها الدول التي تعارض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم لمراجعة مضمون القرار من الناحية الموضوعية، بل وشطبه من سجل هيئة الأمم المتحدة. وتتجلى الأهمية التي ما ينفك هذا القرار يكتسبها في ورود الإشارة الرمزية إليه في الخطط ومسودات الاتفاقيات التي صيغت مؤخرًا من أجل وضع حد للنزاع الراهن. كما تنبع أهمية القرار (194) من الواقع الذي يؤكد بأن القرار يعتبر على نطاق واسع بمثابة الأساس الذي يستند إليه اللاجئون في العودة إلى ديارهم، واستعادة ممتلكاتهم والحصول على التعويض عن الخسارة والأضرار التي لحقت بهم.
 
وتتأتى أهمية القرار (194) بعد نحو 70 عامًا من اعتماده بصورة رئيسية من الفقرة (11) التي تتناول اللاجئين. فهذه الفقرة، التي تتألف من شقين، تؤكد مجددًا على حقوق اللاجئين ثم تنص على وجوب إنفاذها وإعمالها. ولعل هذه إحدى المفارقات التاريخية الغريبة بالنظر إلى أن قضية اللاجئين حظيت بأقل قدر من الاهتمام بالمقارنة مع القضايا الأخرى التي ثارت الخلافات بشأنها خلال إجراءات صياغة القرار. وقد ركزت الأطراف التي شاركت في المباحثات المتصلة بهذا القرار على الأحكام المتصلة بالإقليم وتشكيل لجنة التوفيق الخاصة بفلسطين والعضوية فيها، وهي الهيئة التي شُكلت لغايات تيسير وضع القرار موضع التنفيذ.
 
وقد انتهى الأمر بجانب ليس بالبسيط من العناصر الأخرى التي تؤلف القرار (194) في طي النسيان. ولا يعني هذا أن هذه المحاور لم تعد مهمة. ففي الواقع، ما تزال مختلف العناصر - الموضوعية والإجرائية - في هذا القرار محورية ولا يستغنى عنها في أي حل تفاوضي للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث لا يمكن بلوغ هذا الحل دون الإشارة إلى القرار نفسه. وهذا يشمل مفهوم التقسيم باعتباره حلًا للنزاع الدائر حول تقرير المصير، والوضع الخاص لمدينة القدس، ومبدأ المفاوضات المباشرة باعتبارها الوسيلة الرئيسية التي تكفل تسوية الخلافات العالقة. وتظهر هنا الأهمية التي يحملها مبدأ الموافقة المتضمن في القرار، والتي تعد مسألة مختلفة تمام الاختلاف عما يجري تداوله.
 
فهذا المبدأ يكفل الدعم، في أحسن الأحوال، للتوصل إلى حل تفاوضي للنزاع القائم، وبلوغ "حل متفق عليه" للاجئين حسبما بات يرد في الآونة الأخيرة. وفي هذا الخصوص، لا ينبغي التقليل من شأن أهمية هذا الاعتراف فيما يتعلق بالمفاوضات المباشرة بالنظر إلى حالة الإقصاء التي عاشها الفلسطينيون على مدى ردح طويل من الزمن، وذلك بدءًا من حقبة الانتداب وانتهاءً بمطلع العقد التاسع من القرن الماضي بعدما أمّنت منظمة التحرير الفلسطينية مقعدًا لها على مائدة المفاوضات. وفضلًا عن ذلك، فلا ينبغي التقليل من شأن عبارة "متفق عليه" بالنظر إلى أنها تنطلق من مقاصد الأطراف التي صاغت القرار. وبناءً على التوصيات التي خرج بها الوسيط الدولي في حينه، شددت الأطراف التي صاغت القرار على أن الأمر متروك للاجئين أنفسهم لتقرير مصيرهم.
 
ومع ذلك، فقد نُسي مبدأ اختيار اللاجئين، أو الطوعية، في جانب كبير منه، هذا إن لم يجرِ استبعاده وإقصاؤه بكليته. فلم تنفك إسرائيل ترفض هذا المبدأ خوفًا من أن يختار عدد ضخم من اللاجئين العودة إلى ديارهم ومسقط رأسهم فيها. وفي هذا السياق، بدا أن طرح مجموعة من الخيارات في مسودات خطط السلام في تسعينيات القرن الماضي، والتي استهلت باتفاق بيلين-أبو مازن، يعكس القوة المعيارية والقيمة المفيدة التي يفرزها اختيار اللاجئين. فالمشاركة حق في حد ذاته في نهاية المطاف. وهناك من الأدلة العملية ما يثبت قيام علاقة بين المشاركة ودوام اتفاقيات السلام والحلول التي تعد لمصلحة اللاجئين على السواء. وحسبما جاء في الاتفاق المذكور أعلاه والمقترحات التي تلته، فقد جرى إعداد الخيارات المتاحة على نحو لا يتيح إلا لعدد قليل من اللاجئين اختيار العودة إلى ديارهم.
 
ومع ذلك، تنطوي الموافقة على جانب آخر كان نصيبه النسيان إلى حد كبير. فبالمقارنة مع مبدأ اختيار اللاجئين الوارد في الفقرة (11) من القرار (194)، والذي يتناول الموافقة الفردية كذلك، ناقشت الأطراف التي صاغت القرار أيضًا النص على الموافقة الجماعية للأشخاص فيما يتصل بمستقبل فلسطين. ولم يشكل القرار (194) المناسبة الأولى التي طُرحت فيها هذه القضية. ففي سياق الدعوة إلى إقامة وطني قومي يهودي في فلسطين، أقر وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور بأن تنفيذ البرنامج الصهيوني لن يبصر النور إلا إذا جرى استبعاد "تقرير المصير القائم على أساس حساب الأعداد". ولم يكن من المقرر إتاحة الفرصة لأغلبية السكان الأصلانيين في فلسطين للإدلاء بكلمتهم بشأن مصير بلادهم. وفي هذا المقام، حذرت لجنة الملك كراين (Crane Commission)، التي التقى أعضاؤها مع أبناء النخبة الفلسطينيين عشية مؤتمر باريس للسلام الذي انعقد في العام 1919 الذي قرر مستقبل البلاد، من الآثار السلبية التي يمكن أن تتمخض عن مبدأ الموافقة في حال إقصائه.
 
وبعد مرور عقد على قمع الثورة العربية على يد القوات البريطانية، أوصت لجنة بيل (Peel Commission) التي تولت التحقيق في الأسباب التي أدت إلى نشوب هذه الثورة، بتقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين، إحداهما عربية والأخرى يهودية. وبينما يفسر طرح فكرة التقسيم في حالات كثيرة على أنه جاء ردًا على تلك الثورة، تفترض الأبحاث التي تتسم بطابع نقدي أكبر بأن هذه الفكرة شكلت محاولة للتعامل مع المساعي التي واكبها الفشل في إقامة نظام ديموقراطي عملاني في البلاد. ويقع في صميم هذا الفشل رفض احترام مبدأ "شخص واحد صوت واحد" خوفًا من أن يحيد بمشروع إقامة وطن قومي لليهود عن مساره. وفي سياق رفض عملانية التقسيم، رأت لجنة وودهيد (Woodhead Commission) التي شكلت فيما بعد أن غياب الموافقة يعد من بين العقبات المتعددة التي تقف في وجه التقسيم باعتباره حلًا للنزاع المتصل بتقرير المصير.
 
وبعد ذلك بعشر سنوات، أعادت لجنة الأمم المتحدة الخاصة بشأن فلسطين، التي شُكلت في شهر أيار/مايو 1947 لغايات إعداد التوصيات بشأن مستقبل البلاد، طرح فكرة التقسيم باعتبارها حلًا للنزاع بعد جولة من المشاورات التي أجرتها في فلسطين. وكان النص على إجراء انتخابات ديموقراطية في القرار (181)، الذي اعتمد في أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر، يرمي في جانب منه إلى إضفاء الصفة الشرعية على الدولتين العربية واليهودية اللتين كان من المقرر إقامتهما بموجب خطة التقسيم. والأهم من ذلك أنه جرى استبعاد إجراء الانتخابات الحرة والنزيهة، التي كانت ستحل محل الموافقة الجماعية، التي كانت مبدأ يكفله ميثاق الأمم المتحدة في ذلك الوقت، بشأن مستقبل فلسطين لصالح تقسيم البلاد إلى دولتين.
 
وفي هذا السياق، بدأت فكرة إجراء استفتاء حول مستقبل فلسطين تطفو إلى السطح للمرة الأولى. فقد شهدت الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين توظيف الاستفتاءات بصورة متواترة بغية إدارة النزاعات التي نشبت حول تقرير المصير في أوروبا. وفي بعض الحالات، كحالة استفتاء محمية سار (Saar) - وهي منطقة ألمانية خضعت لاحتلال المملكة المتحدة وفرنسا وإدارتهما بموجب انتداب عصبة الأمم - سُمح للاجئين بالمشاركة في الإدلاء بأصواتهم شريطة عودتهم إلى ديارهم في الوقت المقرر من أجل المشاركة في الاستفتاء. وقد شكلت هذه الاستفتاءات طريقة من طرق عدة جرى اعتمادها لإيجاد الحلول لقضايا تقرير المصير التي لم تجد حلا لها بعد الحرب العالمية الأولى. وقد استمرت هذه الممارسة بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.
 
وقد طُرحت فكرة إجراء استفتاء في فلسطين للمرة الأولى في شهر أيار/مايو 1948، أي بعد 10 أيام فقط من اندلاع أولى الحروب العربية-الإسرائيلية، في سياق مراسلة جرت بين مجلس الأمن الدولي واللجنة العربية العليا. فقد صرحت اللجنة، في سياق إطلاع المجلس على وجهات نظرها بشأن إيجاد الحل المنشود بأنه ’حال استعادة السلام والنظام، [يتمكن] شعب فلسطين بجميع أطيافه من ممارسة حقه في تقرير المصير بحرية في استفتاء عام". وعاودت هذه المسألة الى الظهور بعد شهرين في المناقشات التي أجراها المجلس حول وقف الأعمال العدائية والتوصل إلى حل للنزاع القائم. واقترح وسيط الأمم المتحدة لفلسطين، الكونت فولك بيرنادوت (Folke Bernadotte)، في الخطاب الذي ألقاه على المجلس، "إمكانية تنظيم استفتاء يشارك فيه الشعبان إن كان ذا جدوى" من أجل تقرير مصير البلاد.
 
وأثار الوسيط هذه القضية مرة أخرى في التقرير الذي رفعه إلى المجلس في شهر أيلول/سبتمبر 1948. وفي الوقت الذي لم تظهر فيه كلمة استفتاء في التقرير، فقد وردت الإشارة الضمنية إلى فكرته في التوصية التي قال فيها بيرنادوت بأن "إدارة أراضي فلسطين التي لا تقع ضمن حدود الدولة اليهودية يجب أن يترك لحكومات الدول العربية على أساس من التشاور الكامل مع السكان العرب في فلسطين". وبدا أن الدور الذي منح للدول العربية كان بمثابة إقرار بالسيطرة الفعلية التي مارستها مصر والأردن على قطاع غزة والضفة الغربية، بالإضافة إلى الواقع الذي يقول بأن الدول العربية باتت تشكل ممثلًا بديلًا عن الشعب الفلسطيني، وهو دور اضطلعت به في المفاوضات التي قادتها هيئة الأمم المتحدة بعد حرب العام 1948.
 
وشكلت التوصيات التي خرج بها الوسيط القاعدة التي ارتكز عليها القرار (194)، و"خطة السلام" الجديدة التي أعدتها الأمم المتحدة بشأن فلسطين، كما جاءت في سياق الاستجابة للقرار الأول الذي صدر عنها - وهو القرار (181). وقد اشتمل مشروع القرار، الذي نوقش في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1948، على توجيهات للجنة التوفيق الخاصة بفلسطين، وهي الهيئة التي كُلفت بتنفيذ القرار، بما فيه الفقرة (11) التي تتطرق إلى اللاجئين، "بتقديم المعونة لحكومات الدول العربية المعنية لاتخاذ الترتيبات بشأن إدارة [فلسطين العربية] ... على أساس من التشاور الكامل مع سكان [البلاد]". ووصف ممثل الولايات المتحدة الأمريكية، في مستهل هذا النقاش، آراء الوسيط بشأن إدارة فلسطين العربية بمثابة "إسهام قوي" في تسوية النزاع. كما لقيت هذه الفكرة ما يعززها في مختلف مشاريع القرار والتعديلات التي تلتها.
 
ومع ذلك، فقد برزت ثلاثة اعتراضات على هذه الفكرة في الجدل الذي دار حولها فيما بعد. فقد شعر عدد من الدول بأن هذا القرار قد يحد من المرونة التي تحتاج لجنة التوفيق الخاصة بفلسطين إليها في تيسير بلوغ حل للنزاع القائم. ورأت الكتلة السوفييتية أن هذه الفكرة لا تنسجم مع القرار (181). ودفعت اللجنة العربية العليا والدول العربية، باستثناء الأردن، في اتجاه إضفاء قدر أكبر من الوضوح على شروط الاستفتاء. وعلى وجه الخصوص، احتجت هذه اللجنة والدول بأنه في حال نظمت الأمم المتحدة استفتاءً، فيجب أن يشمل هذا الاستفتاء فلسطين بكاملها وسكانها كافة، بمن فيهم 700,000-800,0000 مهجر نزحوا عن ديارهم خلال الحرب. ولم يزل الأردن يعارض الاستفتاء على أمل تعزيز تطلعاته الإقليمية في الضفة الغربية. وفي نهاية المطاف، فشل هذا النص في تأمين القدر الوافي من التأييد المطلوب لتمريره، وجرى حذفه من النص النهائي للقرار (194).
 
يبدو أن فكرة تنظيم استفتاء لغايات إيجاد حل للنزاع المتصل بتقرير المصير في فلسطين / إسرائيل على الوجه الذي ارتأته مختلف الأطراف التي شاركت في صياغة القرار (194) كانت في أحسن أحوالها بعيدة المنال، إن لم تكن مستحيلة. وفي هذا الحال، لا ينبغي الإقدام على إجراء أي استفتاء في المستقبل في سياق أي سيناريو مستقبلي دون دراسته وإمعان التفكير فيه. ففي ظل غياب حل لمواطن الخلاف القائمة، ولا سيما الخلافات التي تحوم حول الجنسية / المواطنة والأرض، فمن المحتمل أن يؤجج الاستفتاء الوضع، بدلًا من أن يسهم في تهدئته. ومع ذلك، فمما لا شك فيه أن أحد الدروس التي يمكن استخلاصها منذ اعتماد القرار (194) يكمن في أن التوصل إلى حل عادل ودائم للجميع سوف يبقى بعيد المنال دون تأمين الموافقة عليه. أما كيف يمكن بلوغ هذه الموافقة، فهذا أمر يستدعي قدرًا أكبر بكثير من الانتباه والعناية والتمحيص.

-----------------------------------
*تيري ريمبل:استشاري مستقل وزميل فخري، جامعةإكستر، المملكةالمتحدة، وعضو مؤسس لمركز بديل.