على هامش مشكلة اليرموك: اللاجئون الفلسطينيون في استراتيجية القيادة الفلسطينية

بقلم: م. تيسير محيسن*
فجرت أزمة مخيم اليرموك، الذي وصفه بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة ب"المكان الأكثر عمقاً في الجحيم"، أسئلةً قديمة جديدة، أهمها: مسألة القيادة والتمثيل، الأوضاع الإنسانية الصعبة التي يواجهها اللاجئون الفلسطينيون ومصيرهم في ظل الأحداث التي يمر بها الإقليم، وأخيراً موقع قضية اللاجئين وحق العودة في استراتيجية القيادة الفلسطينية الحالية. 

ولعله من نافل القول، أن الموقفين الأمريكي والإسرائيلي تجاه هذه المسألة باتا أكثر وضوحا من أي وقت مضى وخصوصاً مع شرط إسرائيل المسبق بالاعتراف بها كدولة يهودية، ما يعني اسقاط حق العودة فعليا. معروف أن الموقف الأمريكي طوال الفترة السابقة بقي يتراوح بين ثلاث سيناريوهات: التوطين والتعويض وإعادة التأهيل، حتى وإن حملت المبادرات الأمريكية عناوين لافتة وجاذبة من قبيل "شرق أوسط جديد خال من اللاجئين" و"منح الهوية لمن ليس له هوية" و"إفساح المجال أمام التنمية مكان الفقر والتشرد". أكثر من ذلك، ثمة من يعتقد أن إسرائيل لا تسعى إلى اسقاط حق العودة فحسب، وإنما محاولة الاستفادة مما يحدث في الإقليم من حولها للتخلص من "القنبلة الديموغرافية" بتفكيكها أو حتى تفجيرها داخل الحقل الملتهب أصلا في الشرق الأوسط.

ويبقى السؤال المركزي في هذه الأثناء، هل تعيد القيادة الفلسطينية موضع قضية اللاجئين وضمان حقهم في العودة ضمن أطروحتها السياسية وسلوكها العملي؟ أم أنها سوف تستمر في التعامل معها بوصفها قضية إنسانية تارة أو شأناً داخلياً في هذا البلد أو ذاك تارة أخرى؟ ثم ألا يستدعي فشل مسار المفاوضات إعادة النظر في مجمل المسلمات والفرضيات والسياسات التي اتبعتها هذه القيادة تجاه عديد القضايا ومن بينها، ولعل أهمها، قضية اللاجئين؟ 

اتسمت الأطروحة السياسية والدبلوماسية الإسرائيلية بقدر كبير من الخبث والدهاء تارة بتحميل الدول العربية مسؤولية مأساة اللجوء، وتارة بطرح مشاريع تحسين معيشة اللاجئين أو توطينهم أو حتى إبداء الاستعداد لاستقبال عدد محدود منهم ضمن لم شمل العائلات وأيضاً بإمكانية السماح لهم بالعودة إلى أراضي الدولة الفلسطينية في حال قيامها. هذا بينما في الواقع العملي، لم تأل إسرائيل جهدها في الحيلولة دون عودة اللاجئين وخلق معطيات مادية وسياسية تمنعهم من ذلك. 

في المقابل، تبنت القيادة الفلسطينية خطاباً واضحاً يشدد على حق اللاجئين في العودة ويرفض أي مساومة على هذا الحق، بينما لم تفعل سوى القليل من الناحية العملية للحفاظ على أوضاع إنسانية لائقة للاجئين في مخيمات اللجوء ناهيك عن ضمان حقهم والعمل على تحقيقه. الأخطر من ذلك كله، راحت قضية اللاجئين تخفت في الخطاب والممارسة الفعلية منذ انخرطت هذه القيادة ضمن نهج المفاوضات؛ وحتى أن بعضها قدم أو وافق أحيانا على بعض الصياغات والأطروحات التي تنتقص من هذا الحق.

في الواقع، شكلت قضية اللاجئين لب الذاكرة الجماعية للفلسطينيين منذ النكبة؛ بما تعنيه من اغتصاب الأرض واقتلاع السكان وتهجيرهم ومن ثم الحيلولة دون عودتهم. وحول هذه القضية تمحور خطاب الثورة الفلسطينية المعاصرة منذ انطلاقتها، كما ارتبط فقه الكفاح المسلح بإعادة الاعتبار للشخصية الوطنية الفلسطينية وفي القلب منها إجبار العالم على النظر إلى قضية اللاجئين بوصفها قضية وطنية وسياسية وليست قضية إنسانية فحسب، إذ كان الشعار السائد آنذاك "الثورة طريق العودة". 

يمكن القول أنهم نجحوا إلى حد كبير في إظهار قضيتهم وحازوا على الاعتراف بهم بوصفهم شعباً له حقوق، حق تقرير المصير جنباً إلى جنب مع حق العودة، كما انتزعوا الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلا شرعياً ووحيداً لهم. 

ومع تحول خطابهم من "الاستقلال والتحرير" إلى خطاب "الدولة" ومن ثم دخولهم نفق المفاوضات، تراجعت قضية اللاجئين تراجعاً واضحاً وبدا أن القيادة الفلسطينية قد تخلت عن مسؤولياتها تجاههم، حتى وإن زعمت أن الحل السياسي لا يتعارض مع حق العودة. بينما يرى البعض أن هذا الحق مقدس وقانوني وممكن، انطوى سلوك القيادة الفلسطينية في الواقع على انكار هذه القدسية وإن لم تتجرأ على الجهر بذلك، وقبلت بتغيير المرجعيات القانونية واعتقدت أن تطبيق هذا الحق غير ممكن في ظل الظروف السائدة. 

في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، ومباشرة فور وقوع العدوان ولسنوات قليلة، شكلت المخيمات الفلسطينية، وخصوصاً في قطاع غزة، قاعدة جماهيرية صلبة لرفد عمليات المقاومة المسلحة، غير أنها سرعان ما خبت تحت تأثير الضربات الموجعة التي وجهتها قوات الاحتلال إلى البنية التحتية للمقاومة وفي ظل التحولات السياسية التي شهدها عقد السبعينيات من القرن الماضي. 

لم يتخل اللاجئون الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة عن حقهم في العودة، غير أنهم انخرطوا مع باقي جماهير الأرض الفلسطينية المحتلة في عملية كفاحية كبرى عمادها تعزيز الصمود وبناء مجتمع سياسي ورفض مشاريع التوطين أو تحسين سبل معيشة المخيمات، والإصرار على أنهم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني تحت قيادة منظمة التحرير، ممثلهم الشرعي والوحيد. انتهت هذه العملية بالانتفاضة الأولى، التي بدا أنها قد رسمت حدود المطالب الفلسطينية أو قل "الدولة" ولذلك صاحبها تبني القيادة ما سمي بمبادرة السلام والتي في جوهرها انطوت على القبول بدولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران، بالطبع مع التأكيد على حق اللاجئين في العودة والتعويض. 

ومثلما انخرط الفلسطينيون في فعاليات الانتفاضة، فقد انخرطوا لاحقا فيما عرف بمرحلة "السلطة الفلسطينية" إثر توقيع اتفاقية أوسلو 1993 ولم يكن انقسامهم السياسي آنذاك يتمحور أساسا حول قضية اللاجئين؛ أولاً نظرا لخفوت صوت الشتات بعد بيروت، ثانيا لانخراط كثير من اللاجئين وعودة بعضهم وبعض النازحين من الخارج، في مؤسسات السلطة، وأخيرا للاعتقاد الواهم أن قضية اللاجئين مؤجلة وقد اعتبرت من قضايا الحل النهائي. 

ومنذ نشأة السلطة الفلسطينية تعرضت قضية اللاجئين إلى مزيد من التهميش، وفي بعض الأحيان استخدمت استخداما سياسياً في سياق المفاوضات الثنائية المتعثرة. ومع المبادرة العربية للسلام تكرس هبوط سقف المطالب الفلسطينية والعربية تجاه هذه القضية. التهميش الذي تعرضت له منظمة التحرير كان تعبيرا عن تهميش قضية اللاجئين، وأيضاً عن إغفال الشتات الفلسطيني وهمومه وأوضاعه وحتى دوره في استكمال عملية التحرر. 

في ظل السلطة وبتأثيرها اُبتدعت أشكال فارغة من محتواها النضالي كاللجان والمؤسسات والاحتفالات السنوية والاصدارات والمؤتمرات والفعاليات تحت سطوة المال الذي باتت تتحكم فيه مؤسسات السلطة ومانحوها، وتحت السقف السياسي المسموح به طبقا لتعاقدات أوسلو السياسية والاقتصادية والأمنية ناهيك عن استمرار القيود والمحددات الإسرائيلية. في النتيجة كسر تابو "حق العودة" وتجرأ كثيرون على تقديم أطروحات واجتهادات تنتقص من هذا الحق ودخل الإسرائيليون أنفسهم سوق التنظير السياسي والإنساني والعملي للحط من هذا الحق واسقاطه نهائيا والمساومة عليه، كما بدا في مفاوضات طابا ووثيقة جنيف وغيرها. 

واللافت أن الانقسام السياسي الذي استغرق عقداً كاملاً، ولا زال، واحتل مساحة كبيرة من مساحات الفعل السياسي والاجتماعي للفلسطينيين، لم تكن قضية اللاجئين من بين قضاياه المختلف عليها، بل العكس تماماً، إذ اقترب المتخاصمون سياسياً إلى حد كبير بينما استمر الانقسام وظلت قضية اللاجئين غائبة حتى داهمنا جميعاً ما سمي بالربيع العربي وما تمخض عنه من أحداث وتداعيات كبرى طالت فلسطيني الشتات ودفعوا ثمناً باهظاً لها. 

فمن ناحية أظهرت الحشود العربية في الميادين وتحركها الجماعي إمكانية تطبيق هذه الدينامية في موضوع الدفاع عن حق العودة، وأيضاً توظيف فضاء التواصل الاجتماعي ليتداعى الفلسطينيون وخصوصاً الشباب من كل بقاع الدنيا لإعادة ما انقطع من صلة وتواصل في محاولة للإجابة على سؤال الهوية الوطنية مقابل حطام الحل السياسي التجزيئي: إعادة تعريف الفلسطيني من جديد، ما يمكن أن نسميه انبعاث الشخصية الوطنية الفلسطينية مرة ثانية. ثم كان التأثير المباشر للأحداث على وجود اللاجئين أنفسهم وبات خطر التذويب ماثلا واصبح مخيم البارد نموذجا. 

إن مما لا شك فيه، أن الإجهاز على مخيمات اللجوء، ما تبقى منها، في بلدان الطوق شكل واحداً من أهم استهدافات "الفوضى الخلاقة". ومع هذين الاعتبارين، مضافا إليهما اعتبار فشل مسار التفاوض مع حكومات يمينية إسرائيلية لم تتردد في الإفصاح عن نواياها: دولة يهودية ورفض حل الدولتين والحيلولة دون حق العودة، لم يطرأ على سلوك القيادة الفلسطينية وخطابها وكذلك أطراف الانقسام أي تغيير جدي أو رغبة في المراجعة، بل ألقى الانقسام بظلاله على محاولات بناء موقف فلسطيني موحد داخل مخيم اليرموك لمنع الكارثة والحيلولة دون تدميره. 

قد لا نجافي الحقيقة إذا قلنا أنه، ومنذ مؤتمر مدريد، بقيت قضية اللاجئين وحق العودة في الخطاب السياسي الفلسطيني مجرد لغو ممجوج، أو مادة للمماحكة الفئوية وأحياناً بالون اختبار، بينما في الواقع العملي أي في الممارسة السياسية فلم تحظ هذه القضية باي اهتمام يذكر. ومرد ذلك في تقديري أمران: الأول يتعلق بالمنطلقات العملية والسياسية لنهج التفاوض ولفرضياته التأسيسية، إذ في واقع الأمر تسقط هذه المنطلقات حق العودة عبر إزاحته عن الأجندة وتأجيل البت فيه إلى مرحلة نهائية يعلم الله متى تأتي، وعبر الإمعان في تقديم تصورات وأفكار تهبط بالسقف السياسي وتزيح المرجعيات الناظمة لحق العودة، وطنية أو أممية، سياسية أو قانونية، إنسانية أو أخلاقية. وأيضاً عبر تسليط الضوء على قضايا راهنة أو خلق إشكاليات جديدة تسهم في حرف الانتباه وضياع البوصلة. 

الأمر الثاني، الآلية المتبعة والناجمة عن أوسلو وتعقيداته وقيوده ساهمت في إبعاد جوهر القضية واستحضرت عوضا عنها "الفعل الاحتفالي" فحيدت الشتات عن الفعل اليومي وانحصرت ضمن أفق حل الدولتين ثم ضمن الصراع على سلطة اعتمادية وهزيلة، وانسحبت المنظمة تدريجيا من مسؤولياتها الأدبية والمالية والإنسانية والسياسية تجاه اللاجئين متكيفة إلى حد كبير مع النتائج التي تمخضت عنها أزمة الأردن وحرب بيروت ووقائع ما سمي بالربيع العربي.

اليوم، وفي ظل الأوضاع المتفجرة في الإقليم لم يعد يكفي التذكير بحق العودة والتمسك بقرار 194، فالأمر يستحق أكثر من ذلك بكثير: إعادة الاعتبار لقضية الشعب الفلسطيني في كل مكان، وليس لفلسطيني الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، وبالتالي إعادة الاعتبار لممثل الشعب الفلسطيني الشرعي والوحيد وتفعيل دوره وضخ دماء الحياة في شرايينه.

يذكر أن دنيس روس كان يكرّر أنّ الولايات المتحدة الأمريكية كانت تسعى للتوفيق بين الاحتياجات الفلسطينية الرمزية والاحتياجات الإسرائيلية العملية. وفي هذا القول تكمن العلّة، إذ أنّ حق العودة ليس مجرد حاجة رمزية تماماً مثلما هو الاستيطان ليس حاجة إسرائيلية عملية. دحض هذا الخطاب الذي وقع فيه بعض الفلسطينيين يشكل مدخلاً رئيساً لإعادة الاعتبار لقضايا الصراع الجوهرية وإعلاء مطالب الفلسطينيين المشروعة ورفض أي مقايضة فيما بينها أو مساومة عليها.

من الواضح أنه في سياق اللحظة السياسية الراهنة وربما إلى أمد بعيد لا يمكن توقع قبول إسرائيل أو إجبارها على السماح بعودة اللاجئين، غير أن هذا الأمر يجب ألا يمنع من وضع رؤية واضحة وعملية حول كيفية التعاطي مع قضية اللاجئين دون الهبوط بها مرة أخرى إلى مربع "الحالة الإنسانية" أو الوقوع في شرك الدراسات والأطروحات التي تستند إلى الرواية الإسرائيلية وتنكر أو تشكك في الرواية الفلسطينية، وأيضاً الحذر من الحلول التي يمكن أن تمرر تحت ذريعة "الواقعية" أو "ليس بالإمكان أفضل مما كان" أو فلسفة "درء المفاسد مقدم على جلب المنافع" وغير ذلك.

وإذا كان من العبث افتراض أن أي استراتيجية فلسطينية تشمل قضية اللاجئين يمكن أن تهمل بعض الجوانب مما أسلفت، كالوضع الإنساني، والتحلّي بقدر من الواقعية السياسية ودرء المفاسد، غير أن التمسك بحق العودة ورفض أي مقايضة له أو مساومة عليه يجب أن يشكل عصب أي استراتيجية علاوة على ديناميات استنهاض طاقات اللاجئين وتظهير قضيتهم وتجديد خطاب الهوية الوطنية بديلا عن دعاوى الحل السياسي الفاشل.

وعلى أي استراتيجية أن تأخذ بعين الاعتبار الخطرين الماثلين الآن: تذويب الشتات وبعثره الحضور الفلسطيني المكثف في نطاق المخيمات وصولاً إلى محاولات إعادة التوطين وربما التهجير خارج حدود الإقليم ذاته، والخطر الثاني يتمثّل في تطبيق الحل الإقليمي، على أي نحو، على من تبقى من فلسطينيين فوق أرض فلسطين التاريخية. ولعل الفصل ومن ثم الانقسام يشكّلان أبرز ديناميات الدفع نحو هذا المآل، علاوة على ما يتسم به حال القيادة الفلسطينية الحالية من انعدام القدرة وفقدان الزمام.

 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
*تيسير محيسن: كاتب وباحث/غزة، عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني، عضو الهيئة العامة لمركز بديل.